الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

السرد كنموذج لصياغة الذات والعالم

السرد كنموذج لصياغة الذات والعالم
17 ابريل 2008 01:27
يعتبر كتاب الناقد المغربي الدكتور محمد بوعزة ''هيرمينوطيقا المحكي ـ النسق والكاوس في الرواية العربية'' من أهم الكتب النقدية التي تناولت تجربة سليم بركات الروائية، إن لم يكن المرجع الأساسي الذي لا غنى لدارس أدب سليم بركات ومتنه الروائي عنه، ففي هذا الكتاب حاول الدكتور بوعزة البحث والإجابة عن بعض الإشكالات والأسئلة، وتطلع إلى تحقيق بعض الرهانات والغايات منها على سبيل المثال: ما هي الدلالة ؟ كيف تتحقق الدلالة الروائية ؟ ما هي طبيعتها ومستوياتها ؟ كيف نؤول النص الروائي؟ في القسم النظري، يقول الدكتور بوعزة، قمنا بتفكيك هذه الإشكالات، وتلمسنا الإجابة عنها، بردها إلى أسسها النظرية والمعرفية، ومقارنة الاتجاهات المتعارضة، لتوضيح حدود كل اتجاه، في محاولة لبلورة رؤية متكاملة لمفهوم الدلالة والتأويل· وخلصنا إلى أن الدلالة تمفصل، بدونها يظل العالم مجرد متصل، لا أشكال له ولا حدود· ثم انتقلنا إلى تحديد تصورنا للسردية انطلاقاً من نموذج معرفي، يستند بالأساس إلى منجزات الأبحاث المعرفية (الهيرمينوطيقا، الأنثروبولوجية الأدبية والمعرفية، نظرية العماء، علم النفس المعرفي، علم النفس الاجتماعي، التشييدية)· ينهض هذا التصور المعرفي على اعتبار السردية ''أنموذجا للصياغة الذاتية وصياغة العالم''· الدلالة الروائية ولتخصيص هذه السردية في شكل محدد يقول الدكتور محمد بوعزة في مقدمته المهمة لهذا الكتاب: انتقلنا إلى النص الروائي، وخلصنا إلى أن الدلالة الروائية ذات طابع علائقي دينامي، تتبين في مستويات مركبة متداخلة، بحكم أن المتخيل الروائي يتبين كـ''ملاقي علامات'' متعددة، ومختلفة في مرجعياتها وبنياتها، يتفاعل فيها ما هو نصي بما هو مرجعي تداولي، مما يشيد دينامية جدلية مفتوحة على التوترات والتجاذبات· وبحكم هذه الطبيعة العبرلسانية للعلامة الروائية، تتميز الدلالات الروائية بالطبيعة السياقية عبر الثقافية وعبر التاريخية· وفي مستوى دلالة المحكي اتجه الدكتور بوعزة إلى كشف انساق المحكي حيث لاحظ أن هذا المعمار الفسيفسائي يخضع لتشكيل هندسي يحدد تشاكله الدلالي، حيث بينا وجود ثلاث مقولات دلالية تنظمه وتضبط مساره وانتشاره، هي الفعل والعيش والكينونة· وبالتماثل مع ذلك، ينهض فضاء المابين، بما يمنحه من مسرحة للذات، ونشوة انتهاك الحدود، بتعزيز هذا التشاكل الدلالي· وفي مستوى هيرمونيطيقا المحكي أوضح المؤلف كيف تمكن السردية الذات من إعادة صياغة فهمها لذاتها ولمشروعها ولهويتها، وإعادة تأويل تلقيها للإشكال والمحنة، حيث يشتغل السرد التاريخي كنسق ترميز وتمفصل، يشيد أنظمة جديدة للفهم والصياغة، ويقدم نفسه كاستراتيجية تأويلية ثانية، تعتمد آليات الأطر والسيناريوهات والخطاطات، ويشخص هذه الآليات المعرفية واللسانية في خطاب أليغوري (حكايات الثوار الأكراد التاريخية)· فهم الذات وينهض هذا السرد التاريخي ـ حسب الدكتور بوعزة ـ بوظيفة إعادة بناء فهم الذات لذاتها ولمشروعها، من خلال عمليات البنية والإزاحة والتفكيك وطرح مفاهيم جديدة، تنزاح بفهم الذات من حالة القدرية ـ التي تسجن ردود فعلها في ''الانفعال'' و''تقبل'' الإشكال و''التسليم'' به كقدر، و''المراقبة السلبية'' لتداعياته ـ إلى تجربة التاريخانية التي تؤكد أهمية وفاعلية ''الفعل الإنساني'' و''المبادرة'' و''الاستراتيجية'' في تفعيل مشروع الذات، أو على الأقل، تحيينه في الذاكرة والشعور والوعي· ويتم هذا القلب والتحول في المفاهيم والوضعيات، في إطار الأوليات الأنثروبولوجية للسرد، وهي الاستبصار وتفادي الموت· وفي مستوى إبستيمي المحكي كشف الدكتور بوعزة في كتابه هذا أن المحكي يشيد نسقاً معرفياً ينبني على جدل العماء والانتظام، الشاذ والمألوف، المصادفة والقانون· ومعنى هذا، أنه لا يعبر عن عماء مطلق يرثي العالم بالنهايات الجنائزية، بل يشيد رؤية دينامية تسلم بالتفاعل بين العماء والانتظام، وتدعو إلى الغوص عميقاً في الظواهر المعقدة، لكشف أبنية الانتظامات المستترة، استناداً إلى مفاهيم جديدة· وهو إذ يرى أن إبستيمي المحكي في هذا المتن يحتفي بنمط من المعرفة هي المعرفة الهرمسية التأويلية التي تسلم باللاتناهي واللامحدود، وتعكس رؤية فكرية تنتصر للهشاشة والخفة على حساب الثقل· ويتبنى هذا الإبستيمي استراتيجية نقدية تسخر من المعرفة الوضعانية التي تمتدح يقينها وموضوعانيتها في خطاب نرجسي متضخم· بالمقابل يطرح إبستيمي المحكي إبدالاً معرفياً يدعو إلى توسيع مجال المعرفة، بالانتقال من المجال التقني إلى المجال الأنطولوجي المجهول، حيث يحضر الإنسان بكل زخمه وتعقده، لسبر أغوار كينونته·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©