الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

العلاقات الإنسانية بين الواقعية والنصية

العلاقات الإنسانية بين الواقعية والنصية
21 مايو 2009 02:47
يتساءل المتلقي دائماً، من أين تأتي غرابة الحكاية؟ وكيف تتولد، هل بفعل علاقات تركيبية بين شخوصها، أم هو نظامها الهيكلي أم انزياحها عن المألوف والعادي بقدر امتلاكها أصولاً يومية ضمن علاقات اجتماعية أو نفسية معقدة. من الطبيعي أن تقدم الحكاية حادثة ما، إلا أن المدهش فيها أنها تكشف عن الصراعات التي ولدت هذه الحادثة، أو لنقل في جميع الأحوال أن اكتشاف العالم الواقعي لم يعد مغرياً بقدر اكتشاف العلاقات التي يرتبط فيها هذا العالم. قبل كل ذلك لابد أن يفكر المتلقي بغرابة النص الذي يولد بالضرورة الدهشة التي هي مفتاح النص الحكائي، ولأن الدهشة لا تتولد اعتباطاً بل من خلال أبنية جمالية حاول النص إبرازها أو إقامتها مما جعل تلك الأبنية تبدو في أوج غرابتها في خاتمة الحكاية. هذا أولاً أما ما هو مهم وأساسي فهي قدرة اللغة على أن تنوع من ذاتها بين السرد كنظام تركيبي خاص يعتمد الحدث والزمن معاً والوصف بوصفه نظاماً آخر يتوقف فيه الزمن فيبدو الحدث مفرغاً، وكذلك الحوار باعتباره أداة لاختصار الحكاية ونظاماً مغايراً يكسر من نمطية النظامين السابقين. من خلال الدهشة التي تتولد ـ كما قلنا ـ في تركيب الحدث وصياغة العلاقات الداخلية للنص الحكائي لابد لنا أن نفهم أن مهمة النص هي كسر أفق توقع القارئ، حيث تستثار تلك الدهشة عبر غير المألوف في المألوف. من خلال ذلك لا تبدو الحكاية مستهلكة في إطارها الواقعي والنصي معاً. أن النص هو إعادة صياغة الحكاية التي بدت مألوفة في الواقع غير مألوفة في الكتاب. يقول بوريس بورسوف في كتابه «الواقعية اليوم وأبداً» العالم ككل أغنى من الحكاية لكن الحكاية أغنى من هذا الجزء من العالم الذي تتناوله».. ولو بحثنا عما يجعل الحكاية أغنى من هذا الجزء من العالم لقلنا إن هذا الجزء من العالم قد تحول في الحكاية إلى عالم جديد لا يشابه إلى حد ما ذلك العالم في الواقع، اذ أن طبيعة العلاقات وتركيبها قد تغيرت بين ما هو واقعي وما هو نصي. في الواقع لا نستطيع أن نقرأ شخوص الحكاية بينما نجدهم في النص يتراقصون بين أصابع المتلقي، بين سطور الكتاب، يتشكلون، ويتصارعون ويموتون على الورق. ولكن الأغرب حقاً هو أنهم مفضوحون إلى حدود قصوى داخل النص والحكاية، مما يجعلنا حين يكشف الكاتب عن ذواتهم ندهش مما لا نستطيع أن نكتشفه في الواقع المبهم. هنا لابد أن نفهم - حقاً - أن الواقع هو الغموض والنص هو الوضوح الغامض.. في هذا الإطار أقف هنا عند مجموعة قصصية للقاصة مريم الساعدي تحت عنوان «مريم والحظ السعيد» الصادرة عن مشروع قلم التابع لهيئة أبوظبي للثقافة والتراث. من المؤكد أن ما يلفت الانتباه أولاً عنوان «المجموعة» الذي هو أيضاً عنوان لقصة من القصص التي احتوتها المجموعة والتي وصل عددها إلى 27 قصة ولأن العنوان يغري بالاكتشاف فإن المتلقي مدعو بالضرورة للذهاب لقراءة قصة «مريم والحظ السعيد» التي بدت خارج المتن وعلى غلاف المجموعة تحيل إلى حكاية خرافية أو موروثية ما دامت تعاسة أو سعادة الحظ قضية قدرية ولكننا حين نقرأ القصة نكتشف واقعيتها عبر حوار بين طالبة في أوروبا اسمها «مريم» - ولنقل ليس بالضرورة أن تكون القاصة مريم الساعدي هي نفسها بطلة النص - تحاور زميلة لها اسمها «سارة» ومن الغرابة أن الاسمين معاً يحيلان إلى «الشرق»، «مريم وسارة» المرتبطان بالنبيين عيسى وإبراهيم ولا معنى أن يكون اسم مريم أكثر سعادة من اسم سارة أو العكس، هذا أولاً، وثانياً وبعد أن تقص الساردة في النص وهي «مريم» حكايتها مع سارة كما تقول في بداية النص «1»: «سارة الإنجليزية، إلى أي حد كانت تشبهني! هي شقراء، بيضاء، بعينين زرقاوين لا شيء في ذلك يشبهني». ويبدأ التعارف بينهما قبل الدخول إلى قاعة المحاضرة في النص «2»: «ابتسمت بشمس أحستها تتسلل إلى قلبي وسألتها: ما اسمك انت؟ أجابت: «سارة» النص «1» في مقدمة القصة، والنص «2» قرب خاتمتها، ولكن ما الذي أضاف النص الثاني ما دامت القاصة قد قدمت بأن هناك فتاة اسمها سارة ، لذا يصبح سؤالها عن اسمها لا مبرر له وجوابها باسمها لا مبرر له أيضاً، إلا حين يحذف الاسم من النص «1». هذا النص لم يقدم دهشة، بل قدم حالة إنسانية بسيطة بين طالبتين إحداهما عربية والأخرى غربية أما طبيعة التناقض إن وجد أو التشابه فلم يبرز بشكل يدعو للتساؤل أو الدهشة أو ما يثير الغرابة عند المتلقي. في قصة «العجوز» مسحة صراعية مهمة يمكن للكاتبة أن تستغلها ليبني عليها الكثير من التناقضات بين عالمين اجتماعيين يعيشهما المجتمع، الآباء بتمسكهم بعوالمهم التقليدية والأبناء باكتشافهم عوالم حداثية متغيرة عما هو تقليدي. وربما تثار هنا الكثير من التساؤلات ومنها هل ثمة صراع بين ما هو تقليدي وما هو حديث في البنية الاجتماعية الخليجية. امرأة عجوز تعيش لوحدها، عزلة تامة مع «رائحة أغنامها وصدأ صندوقها العتيق» ولأن أبناءها قد غادروها بمنازل فارهة وزوجات أنيقات ومجتمع أرقى لم يعد انتماء المجتمع الذي تمثله العجوز إلى الحاضر متصلاً بل ترى ثمة قطيعة بينهما. أما الأبناء فإنهم حاولوا مراراً أن تعيش الأم لديهم في قصورهم الفارهة بعيداً عن الماضي بل تمسكاً بالحاضر المتغير. هنا ينشأ صراع استطاعت القاصة أن تقدمه لنا بوضوح غير أن ما لم تستطع أن تكتشفه هو أنها أدخلت ذاتها طرفاً في النص فقدمت صورة غير منسجمة للعجوز بينما أوحت للمتلقي بانسجام مجتمع الأبناء وبإنسانيتهم العالية الشفية ولم تقدم للمتلقي طبيعة الصراع بين ما هو تقليدي وما هو حداثي وهو ما اكتشفته في بداية نصها إلا أنها لم تغنه في التصوير. في قصة «توم الإسباني» ثمة صراع أيضاً، ولكن لم يأت من «علي» الطرف الآخر بل من «توم» الطرف الأول، حيث سلطت القاصة الضوء على توم الإسباني ولم تكشف عن شخصية علي إلا في نهاية القصة عندما جاء إلى الجامعة وثوبه الأبيض ملطخ ببقعة. في قصة «عيناوية» وبالرغم من أن القاصة مريم الساعدي استطاعت أن ترسم شخصية «أسمهان عبد المنعم» بشكل واضح المعالم، إلا أننا نبصر موقفاً جلياً إزاء تلك الشخصية، ففي حديثها عن عائلة أسمهان تقول: «جاؤوا إلى العين منذ عقود يعملون مثل طواحين الهواء، ففي حلب عشيرة كاملة تنتظر رغيفها كل شهر، أسمهان تشرب دواء السعال كل ليلة، ليس لأنها تسعل، ولكن لأنه يساعدها على النوم حين تنام لا تفكر في أنها تحب العين، ولكن لا تنتمي إليها وفي أنها تنتمي لحلب ولكن لا تحبها». أعتقد أن هذا النص ما هو إلا إسقاط القاصة على الشخصية ولم يكتب من داخل الشخصية نفسها ،اذ هو توصيف خارجي كان يحمل موقفاً من الضروري ألا يكون داخل النص، أما الساردة هنا فهي القاصة نفسها، إذ لم توكل لإحدى الشخصيات أن تقوم بالسرد، وهي في الآن نفسه لم تنب عن إحدى الشخصيات بالسرد على أساس الضمير الغائب. «أسمهان بدوية أكثر من البدو» هكذا تصفها القاصة ولنسأل هذا الرأي لمن؟ .. القصة هي علاقة ثلاثية بين أسمهان السورية وعائشة وأخيها حمد.. وجميع الشخوص في عمر متقارب ولأن أسمهان تحب حمد فإن عائشة الوسيط والصديقة تغري أسمهان بحب أخيها وفجأة تعلن عائشة أمام الجميع عن خطوبة حمد لإحدى قريباته. الحكاية لا تحمل الدهشة، تقول: «في المنزل.. ترى عائشة بقعة حمراء تبلل سجادة غرفتها، تنتفض مندهشة، وتنادي على الخادمة لتنظف المكان». ربما أجد قصة «مرت سنة» أكثر القصص نجاحاً لعدة أسباب منها أن القاصة لعبت على تغيرات الذات بتغيرات الزمن التي تستدعي بالضرورة تغيرات في الذاكرة. «حين التقينا كان فصحاً، كانت إجازة الجامعات الأميركية، بدوت لي عالماً بذاته. وبدوت لك العالم كله». وتصل القاصة إلي نقطة الالتقاء: «وكنا فقط أنا وأنت.. كل الحقيقة.. وحبنا جوهر الأشياء هكذا عرفنا كيف يحل الحب، كل أزمات الكون.. دون أن يحلها». ويفترقان بعد أن كانا يتصوران ألا يفترقا أبداً بعد شهرين عدنا، كل لدياره لا غضاضة فالديار قريبة وحبنا يقربنا دوماً، ولكن ما يحصل غير ذلك أبداً. هذا النص يغور في داخل العلاقات الإنسانية يستبطن كينونتها بشكل شفيف وهادئ، ليس فيه موقف متعال، ليس فيه تدخل من القاصة، اذ أن كشف هكذا علاقات اجتماعية ضرورة، وخاصة إذا كان النص قصيراً جداً، استطاع أن يلملم كيان العلاقات ويطرحها في لحظة. وهناك ما يشبه هذا النص في المجموعة القصصية وهو نص «فايزة وزينات وسلوى» المدرسات اللواتي بقين في الذاكرة، وآخر هو نص «سميحة عبد النور». أما قصة الحب والبترول في لوحة جدارية فتبدو فيها المواقف واضحة حين تبتدئها: «لا يرون فينا سوى آبار نفط.. لن يحبونا بصدق قط استيقظي». ولا أعتقد أن هذه البداية موفقة.. لأنها تناقش بعقلانية رؤيا الآخر أما النص الأدبي فهو شعور بالآخر، اكتناه له، لسلوكه إزاء حدث يحصل له الآن. أو ربما حصل في الماضي. هنا تتشكل مجمل الصراعات من الذات والآخر أي خصوصية العلاقات الاجتماعية لا عمومية المواقف. قد تأتي عمومية المواقف داخل المتن الحكائي لكن ضمن رؤى جدلية، يحاور فيها الذات الآخر. لا أن تكون هي المؤسس للنص. «شِفَاهٌ أيْبَسَها الرُعب» للشاعرة الإماراتيّة لميس فارس المرزوقي كلمات ترسم تباريحِ الطفولة محمّد رجب السامرّائي لا بد لأيّ عمل إبداعيّ في المشهد الثقافي من عملية توصيل وإبلاغ برسائل تصل للأذن قبل العين أحيانا. ولعلّ في مقام الشعر العربيّ أن يوظف إحساس الشاعر بقوافيه المتهادية المتساوقة التي ترسل إشارات المحبة وتدغدع شغاف القلب بالإيقاع والوقع الجميل لموسيقى القصيدة. وإذا قيل قديماً «إنّ الشاعر العباسيّ البحتري كان يغرفُ من بحر، والفرزدق ينحت من صخر»، وحيث المتتبع لكلا الشاعرين فسوف يجد أنّ الأول امتاز برقّة الشعر، وسلاسة ألفاظه، وحلاوة ديباجته، بينما غلبَ على شعر الثاني الصلابة والقسوة، وقد قال الفرزدق عن نفسه: «أنا عند الناس أشعر العرب، وربما كان نزع ضرسٍ أيسرُ عليَّ من أن أقول بيت شعر». إذن من حقّ أيّ قارئ اليوم للشعر العربيّ الحديث خاصة ما يسمى «بقصيدة النثر» أن يرى حيواته في القصائد لأنّه هدف الشاعر والمبدع ليتذوق ويحسّ بجمال المُتعة والفائدة على حدّ سواء، ومن حقه ـ القارئ ـ أن يُشارك الشاعر مثلاً في انطلاقه وإبحاره وتحليقه في فضاء الشعر وأوزانه من خلال نصوصه وصوره الشعريّة المتعددة، لأنّ التواصل شيء يجب على كلّ مبدع أن يضعه كشرط للتواصل والألفة الدائمة بين المبدع والقارئ. ويلحظ نقاد الأدب العربيّ اليوم ظاهرة تكتنف الشعر العربيّ الحديث ألاّ وهو الإبهام الذي يرتبط بتركيب الجملة أي إنّهُ صفة نَحويّة أساساً تقوم على التعقيد في التركيب اللغويّ ـ ولا علاقة لها بالتفكير الشعريّ المُتسِم بالخيال ـ وكما يقول هربدت ريد: «إنّ الخيال بديل المعرفة». وتنثال تلكم الرؤى في المجموعة الشعريّة الأولى للشاعرة الإماراتيّة لميس فارس المرزوقيّ والموسومة بـ»شِفَاهٌ أيْبَسَها الرُعب»، والصادرة مؤخراً عن دار كنعان للدراسات والنشر في سورية، في 86 صفحة من القطع المتوسط، وتضمّ واحداً وثلاثين قصيدة من دون عنوانات لها ولم تؤرخ لكتابتها، ولعلّ الشاعرة قد وزعت قصائدها على الأشهر السبعة ذات الأيام الحادية والثلاثين في العام. وتحاول الشاعرة لميس المرزوقي في مجموعتها الشعريّة الأولى هذه أن تُكرِّس اسمها وتواجدها على المشهد الثقافيّ الإماراتيّ لتلون قصائدها بقوافيها وموسيقاها وصورها الشعريّة المختلفة، مثلما تلون لوحاتها بريشتها وألوان قوس قزح، إذ لكونها قد قدمت قصائد من قبلُ، فهي فنانة تشكيليّة شاركت في عدّة معارض فنيّة آخرها معرض «تعابير إماراتيّة» الذي شاركت فيه مع مجموعة من التشكيليين وضمّ 165 عملاً في أبوظبي، وقدمت أعمالاً ترقى إلى مقام الحروفيّة في الفنّ التشكيليّ من خلال «ألوان1، وألوان 9، وألوان»، باستخدامها خامات متعددة في تنفيذ لوحاتها. ومجموعة «شفاه لأيبسها الرعب» وبغلافها الذي خطته أنامل المرزوقي أيضاً، هي من القصائد التي يمكننا أن نطلق عليها مجازاً القصيدة ذات الوقع أو النَفَس المُمتد صوب التواصل في خيال الشاعرة والتي تشي للقارئ بانهمار فيض من مزون لوعة الفراق والبِعَاد بعد طُول غياب، ما منح المجموعة لرؤية الشاعرة وبلغة أقرب إلى المُناجاة والصَبابَة صوب الحبيب المُنتظر في ذلكم الدرب الطويل الموغل مع السراب الراحل مع خيوط الفجر النديّ والأفق اللامتناهيّ. فقد أرتبط الإنسان منذ الأزل ارتباطاً وثيقاً بالأرض التي وُلِدَ فيها وشبّ ودَرَجَ، وينموّ هذا الارتباط مع الإنسان حين يَكبُر، وقد أذكى البُعْد والغربة حنين الشاعرة لميس في قصائد مجموعتها البِكْر حتى أشجاها، وألهب أشواقها فهاجت من شوقٍ مَخزون طَروبٍ فأسبلت لخيالها العنان للاستذكار واستجلاب طيوف الذكريات الأولى التي تتماهى في صور شعريّة عديدة. ولعلّ أولى قصائد المرزوقي ترسم للقارئ ظلالاً من الوجع الإنسانيّ الذي خيّم على لغتها حين نظرت إلى الطاولة ورأت الورود الجافة، والغبار الذي أعتلى عينيه ـ الحبيب ـ الذي نأى عن الديار ولم يبقَ لها سوى المفردات وأصوات لا تتذكر كيف سيصبح الموت، وقد نقل قلبها الموبوء ليس من مَرضٍ ما، إنّما بالحبيب: «إلى الورود التي جفّت على الطاولة فوق أكوام التعب إلى غبار من السنوات ظلّ صامتاً بين عينيك ماذا سأقول؟ وكلّ ما أعطتني إيّاه مجرد كلمات أصوات لا تتذكر كيف يكون الموت كيف سأنقل لكَ قلبي الموبوء موبوءٌ بك ولا بُدّ من محرقة تبتلع الأيام ........................ ». إنّ للزمان والمكان حضورهما اللافت في مجموعة «شِفَاهٌ أيْبَسَها الرُعب» فالشاعرة تحنّ وتتكئ عليهما لنشدان الرجوع إلى تلك الأيام والسنين فازدانت قصائدها من مفردات: «بلاد، أزمنتي، أزمان، أرض، الزمن الرابع بعد الألف الألف، الأمة، أيامك...». وكلّها تدور في فلك الزمكان، ذلكم الراحل منذ هاتيك السنين، ففي القصيدة الثانيّة للمرزوقي، نجد الزمن فيها يعود كبؤرة يشعُ سَناها صوب جلد الزمان، وهي دون ذراع فلا تستطيع التحليق عالياً، وطفولتها ليس فيها اليوم من طيف خيالها سوى أقلام رصاص مكسورة تجرح أصوات الأوراق التي تخطّ عليها أبياتها الحزينة: «كفراشة من خشب تقفُ دون ارتعاش رغم الصقيع دون اعتراف على جلد الزمان ما جدوى أن يكون لنا ذراع حين لا نملك أن نطير الطفولة... لاتتجاوز أقلام رصاص مكسورة تجرحُ أصوات الأوراق....» إنّ ذكريات الطفولة حاضرة بصورة كبيرة في قصائد الشاعرة لميس المرزوقي، وهي التي غالباً ما تهرب من واقعها المُعاش إلى تلكم الذكريات المُستجلبة من خزانة الصور الأولى المُدهشةالأثيرة. فحكايات الأطفال تتشابه مثل بدايات الأزمان، وها هي تبوح بحكاية «ليلى والذئب» المعروفة من وجهة نظرها، لكنها تستفهم عن مدى صدق هذا التراث المُتداول في الثقافة والمِخيال الشعبيّ شِفَاهاً، وتتساءل الشاعرة فيها: هل حقاً حدثت ذات يوم، بل إنّها ترمي من أنّ حكايات الجدّات هي محضّ خرافة: «حتى أجمل ما نحلم به... ماضٍ كان لكن... هل فعلاً كان؟ هل حدثت تلك القصة يوماً أم أنّ خيال الآباء خلق الماضي كله.. وخلق كلّ ما بعد ألـ»كان يا ما كان» لم يخبرني أحد لحكايات الأيام شكل آخر إنّ الماضي لايعني أن يحصل من قال بأنّا نحيا أحداثاً صارت؟ من يقنعني أنّ حكايات الجدات ستبقى؟ لن أحكي يوماً عن شيء كان لن أخدع أرواحاً أخرى مَن منّا لم يَدْرِ بأنّ الأشياء... ما كانت يوماً؟». ثم تستنطق الزمن البعيد المُمتد إلى الرابع بعد الألف الألف لكي تهرب من حاضرها الرتيب وترجع متلهفة إلى الصمت المُطبق في الماضي السحيق لأنّها تجده حاضراً مؤتلقاً فيه في قولها: «فمن يُقلِّبُ أزمنتي لتعود قديمة لأعود هناك... حيث الزمن الرابع بعد الألف الألف حيث الصمت المُطبق وأنتَ... وأنت هناك». وكما يرتبط الشعر بالأسطورة من حيث المنشأ إذ كلاهما قائم على المجاز، والمجاز خرافة أو أسطورة لخصت في عبارة شديدة مازالت تحمل أهم خاصيّة من خاصيات الخرافة وهي لامنطقيتها. ونجد الشاعرة المرزوقي قد وظفت واتكأت في عدد من قصائدها على أسماء المدن القديمة والأساطير القديمة نحو «مدينة آشور»، وأسطورة «أونيس» من حضارة بابل في الحضارة العراقيّة في قصيدتها رقم «15». فالأسطورة التي اتكأت عليها الشاعرة في قصيدتها تلك تحكي ما كتبه «برعوشا» أحد كهنة مدينة بابل التاريخية في العراق تقريراً عن تقاليد شعبه، قال فيه: «في السنة الأولى من «الدنيا» ظهر في الخليج كائن اسمه «أونيس» جسمه كلّه جسم سمكة... وله تحت رأس السمكة رأس آخر، ويتصل بذنب السمكة قدمان مثل قدميّ الإنسان... أعتاد أدونيس أن يمضي نهاره بين الناس ويقدّم لهم معرفة من وثائق مُدونة وجميع أنواع المعرف والحِرَف، علمّهم تشييد المدن وتأسيس المعابد وَسَنِّ القوانين ومسحِ الأراضيّ وجعلهم يعرفون استعمال البذور وجنيّ الثمار... ولميس فارس التي يندمل جرحها حين تناديه وهو في مدينة آشور القصيّة رغم النأيّ عن الديار فإنّه هو الأول الذي يحمل كلّ القصصّ، وإنّها لا تُبَالي بألوان لوحتها ولا بأقلامها، لأنّه هو كان وَرَقُ أيامها البِيْض: «كم صبحاً راح وجاء؟؟؟ وأنت هناك على الموعد... عند السور... عند مدينة آشور... تُراقب أونيس العائد مِن صخب الموت يترك كلّ الأحباب هناك يتفحص قبل النطق وجوه الأيام مسبحة زرقاء تغفو فوق الكلمات المُرّة تتحدى كلّ وجوه اللوحة وكلّ الأصوات...».
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©