الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مطاردة الاختلاف

مطاردة الاختلاف
21 مايو 2009 03:11
انشغل العديد من النقاد والكتاب العرب والمستشرقين بحضور كتاب أرسطو «فن الشعر» في الثقافة العربية وكيفية تعامل الفارابي وابن سينا وابن رشد معه لحظة قراءتهم له قصد شرحه وتمثّل مقولاته. غير أن هؤلاء النقاد، عرباً ومستشرقين، كثيراً ما عدّوا الاختلاف بين نص أرسطو ونصوص الفلاسفة العرب تحريفاً وسوء فهم. ولم يقع النظر في التغاير باعتباره ميدان عمل الاختلاف، بل وقعت مطاردته مطاردة عنيدة قصد محوه أو التشهير به واعتباره انحرافاً وتشوّهاً وتباعداً عن الأصل. لم يقع التفطن أيضاً إلى أن طريقة انتقال النص اليوناني وطريقة حضوره وما يحدثه من جدل ممكن تصبح في حد ذاتها دالّة. فهي التجسيد الفعلي لمقولة المثاقفة، لا سيما أن المثاقفة إنما تحدث بطريقة قصدية واعية ولا يمكن أن تأتي اتّفاقاً وبختاً. لذلك كثيراً ما يوهم النص اليوناني الذي جرى عليه النقل أنه لم يتبدّل ولم يتحوّل. لكن النقل في حد ذاته سفرٌ وانتقالٌ، هجرةٌ وترحال وتغرّبٌ. لذلك يكون الترحال دائماً سفراً مملوءاً بالمفاجآت لأنه يتضمّن إمكانية اللقاء بالجديد والغريب والمختلف. ويتضمّن أيضاً إمكانية نسيان الماضي أو تناسيه وقطع الصلات بالأصول والجذور. حتى أنه لا يمكن للفكرة أن تهاجر من ثقافة إلى أخرى وتوسّع لها مكاناً في تاريخ الثقافة التي استقدمتها إلاّ متى ما كانت تلك الثقافة قد هيّأت الشروط التي تدخل على تلك الفكرة المستقدمة قدراً من التحويل يجعلها قابلة للانصهار في فضاء ثقافي غير فضائها الأصلي. إن قراءة النص المهاجر أو الفكرة التي عبرت من ثقافة إلى أخرى بشدّها إلى ما يُعتقَدُ أنه أصلها من شأنه أن يمحو التغاير ويطارد الاختلاف. بل إن هذا الصنيع من شأنه أن يُفقر مقولة المثاقفة نفسها لا سيما حين يعتبر أن العلاقة بين النص المهاجر وطريقة حضوره في ثقافة أخرى ولغة أخرى لا تعدو عن كونها علاقة الأصل بالنسخة أو تسمية مختلفة لشيء واحد. عديدة هي النصوص التي هاجرت وأدخل عليها النقل والسفر تغييرات وتبدّلات. عديدة هي القراءات والدراسات التي اعتبرت التبدّل تشوّهاً ومسخاً أو خلطاً وسوء فهمٍ. لكن النصّ المنقول يظلّ طافحاً بالإيماءات إلى ما جرى عليه من تبديل. والتبديل حركة تتمّ في السرّ. ذلك أن بعضها يعود إلى ثقافة متقبّل النصّ، وبعضها يرجع إلى سلطان اللغة التي نقل إليها النص. لا يمكن للقراءة، في هذه الحال، أن تقي نفسها من خطر محو الاختلاف إلاّ متى تجنّبت النظر في النصّ الذي جرى عليه النقل في ضوء ما تعرفه عن النص الذي تعدّه الأصل الثابت. فتتعامل مع النصّ الذي استُقدم ونَطَق في لغة غير لغة منتجه لا على أنه مجرّد نسخة بل على أنه لحظة مفارقة لما يعتقد أنه أصلها الثابت. فللّغة أحابيلها ومكائدها. وللثقافة المتقبّلة مهما لزمت الحياد كلمة تقولها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©