الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الرواية الأوروبية.. حرب على الحرب

الرواية الأوروبية.. حرب على الحرب
18 فبراير 2015 21:20
وجدت الحروب التي مزّقت بلاد اليونان القديمة صدى لها في العديد من الأعمال الشعريّة والنثريّة. تشهد على ذلك رائعتا هوميروس الملقب بـ «مربّي اليونانيين»، أعني بذلك «الأوديسه»، و«الإلياذة». ففي هذين العملين تبدو الحرب كما لو أنها شيء فطريّ وغريزيّ في الوعي اليوناني. أما الرغبة في الانتقام والتشفيّ فهي تبرز كركيزة أساسيّة في الثقافة اليونانيّة. في النشيد الثاني والعشرين من «الأوديسة»، يصف لنا هوميروس معركة طاحنة تنتهي بأرض ملطّخة بالدماء، وبرؤوس مقطوعة، وأجساد مشوّهة، وعيون مفقوءة. وهو يقارن الضحايا بالأبقار التي تلاحقها نعرة، وبعصافير هاربة من صقور لها مناقير معقوفة، وبأسماك تتخبّط في الدم. وفي «الإلياذة»، يصف المحاربين بـ «الضواري»، وبـ «الكواسر». وهم يتقاتلون بمختلف الأسلحة، وحتى بالأحجار والأرجل. وأما الحرب فتوصف كما لو أنها صراع دمويّ عنيف لا مكان فيه للضعيف، أو للجبان، أو للمتخاذل. وخلال المعارك، نحن نرى المحاربين وهم يحصدون رؤوس بعضهم البعض كما لو أنها سنابل قمح. كلّ واحد منهم يرغب في أن يصيب خصمه في المكان الأشدّ حساسيّة مثل القلب والرأس والبطن. حتى الجثث لا تنجو من القسوة. فهي تشوّه تشويها مريعا، ويمثّل بها حتى أن أصحابها يفقدون ملامحهم فلا يمكن التعرف عليهم حتى من قبل أقاربهم. وفي العصور الحديثة، نحن نعاين ارتباطا وثيقا بين الحرب والثقافة. وقد انعكست صور الحروب المرعبة التي شهدها العالم في القرن العشرين، سواء كانت اقليميّة ام عالميّة، في العديد من الأعمال الروائيّة. جحيم التكنولوجيا في جميع هذه الأعمال الروائية التي عنيت بموضوعة الحرب، نحن نعاين أن التقدم التكنولوجي والعلمي الذي تحقق للبشرية، لم يفض إلى السعادة المنشودة والى الرخاء والسلام، وإنما هو حوّل حياة الأمم والشعوب الى جحيم فيه تستعمل الأسلحة الأشد فتكا بالإنسان وبالطبيعة. وهذا ما جعل سيجموند فرويد يقول: «لقد دفع أناس اليوم بالتحكم في قوى الطبيعة إلى حدّ بعيد بحيث باتوا بمساعدتها، واعتمادا عليها، يتقاتلون حتى يخرّ فرد منهم». واذا ما كان المحاربون في العصور القديمة يعودون مبتهجين بالانتصارات التي حققوها، وبالبطولات التي أظهروها في ميادين القتال، فإن المشاركين في الحروب الحديثة يكونون في نهاية الحرب على أسوأ حال جسديّا ونفسيّا. بل قد يفقدون القدرة على التركيز وعلى التفكير بسبب التجارب المرعبة التي عاشوها وهم يجتازون قرى ومدنا مخربة، او يمشون فوق الجثث المتعفنة، او يشاهدون حرائق تأتي على الأخضر واليابس. وفي جلّ أعماله، صوّر الكاتب الفرنسيّ الكبير لوي فارديناند سيلين فظائع الحربين الكونيتين. ففي الأولى كان مشاركا. امّا في الثانية فقد كان شاهد عيان. وبقدرة فنيّة عالية، تمكّن من ان يجعلنا نعيش النفور الحاد ازاء الحروب وأهوالها وكوارثها. إن العالم بأسره عند سيلين غارق في الجريمة وحتى الضحايا انفسهم مسؤولون عما حدث ويحدث من اعمال قتل وتخريب وتدمير ونهب. ومثل سيلين ابدى الفرنسيّ الآخر هنري باربوس امتعاضه من الحرب واصفا القرن العشرين بـ «عصر الدماء». وفي روايته الشهيرة «الجحيم»، رسم صورة قاتمة لأهوال الحرب، وتأثيراتها النفسيّة على الجماعات والأفراد. وردّا على سؤال طرحه احد المحامين: ماذا يمكن ان نفعل لتجنب الحرب؟ كتبت فيرجينا وولف نصّا بعنوان: «ثلاثة جنيهات»، اكدت فيه منذ البداية ان الحرب مقصورة على الرجال الذين يحتاجون، حسب رأيها، الى اثبات قوة شخصيتهم في معارك القتال. وختمت نصها المذكور مخاطبة المحامي: «انت تقول إن الحرب شيء فظيع. لذا يجب ايقافها بأيّ ثمن. وانا كامرأة، وبرغم الاختلاف بيني وبينك في التربية، وفي التقاليد، اردّ عليك بالشيء ذاته: الحرب شيء فظيع … لذا لابدّ من ايقافها بأي ثمن». وفي عام 1924، وبمناسبة مرور عشرة أعوام على اندلاع الحرب الكونية الأولى، اصدر الألماني ارنست فريدريك ألبوماً حمل عنوان: «الحرب على الحرب» متضمنا 120 صورة كانت ممنوعة من قبل أجهزة الرقابة. وفي هذه الصور، يظهر جنود على جبهات القتال، أو هم مصابون بجراح، وأطفال يلعبون فوق الخرائب، ومقابر عسكريّة، وكنائس مدمرة، وبيوت مهدمة ومنهوبة، وغابات محروقة، ومثقفون مقتولون بالرصاص، ومشنوقون في الساحات العامة، وعائدون من المعارك بعاهات جسديّة مخيفة. وكان الهدف من هذه الصور اثارة مشاعر معادية للحرب لدى الأغلبيّة الساحقة من الناس. وقد نال الكتاب شهرة واسعة في العديد من البلدان الأوروبية. كما انه لاقى صدى مهما لدى السورياليين الذين كانوا قد ادانوا الحرب في بياناتهم النظرية، وفي نصوصهم وقصائدهم. وكان بعض السورياليين قد عاشوا هم ايضا أهوال الحرب، وعادوا من جبهات القتال بذكريات مرة. لا شيء يحدث يتفق جلّ النقاد على ان رائعة الكاتب الألماني ايريك ماريا ريمارك «لا شيء يحدث على الجبهة الغربيّة» هي واحدة من اعمق واجمل الروايات التي كتبت عن الحرب. وفي البداية واجه مؤلفها صعوبات كبيرة في نشرها. وقامت العديد من دور النشر برفضها من دون ان تقدم تفسيرا مقنعا. ولما قبلت احدى الصحف اليومية نشرها على حلقات انطلاقا من اواخر عام 1928، نشرت الجريدة الناطقة باسم الجيش الألماني مقالا شنّ فيه صاحبه هجوما عنيفا على الرواية المذكورة بدعوى انها لا تعلم الشباب غير احتقار الحرب التي بدونها لا يمكن بحسب رأيه، لأية امة من الأمم ان تدافع عن شرفها، وان تحافظ عليه. واما النازيون الذين كانوا قد شرعوا يبسطون سلطتهم على كامل انحاء ألمانيا فقد اتهموا ايريك ماريا ريمارك بأنه «جاسوس» يعمل لمصلحة فرنسا، ولصالح اللوبيات اليهودية. وعند استيلائهم على السلطة عام 1933، كانت رواية «لا شيء يحدث على الجبهة الغربيّة» من جملة الكتب التي تمّ حرقها بدعوى انها تسيء الى الفكر البطولي الألماني. وتبدأ احداث الرواية المذكورة عام 1916، اي عندما ارسل الشاب باول بويمير البالغ من العمر 20 عاما الى ساحة المعركة. وتنتهي احداثها في خريف عام 1918، اي عندما وضعت الحرب اوزارها. غير ان المؤلف لم يحدد المكان الذي كانت تدور فيه المعارك. ولعله اراد ان يوحي بأن الحرب قذرة وفظيعة في اي مكان من العالم. وخلال العقود الأخيرة، وبسبب التطورات الهائلة التي شهدتها التكنولوجيات الحديثة تحولت الحروب الى مشهد يومي على شاشات التليفزيون التي نجد أنفسنا مجبرين على الجلوس أمامها للتفرج على فظائعها على حد تعبير عالم الاجتماع الفرنسي جان بودريار. فظائع للفرجة! يقول عالم الاجتماع الفرنسي جان بودريار إنه لم يعد هناك اليوم غير الصور الخادعة، تلك التي لا هدف لها غير لجم رغبتنا في ردّ الفعل على ما يحدث... ويضيف: نعم، يمكننا أن نتظاهر ضدّ الحرب، ويمكننا أن نندد بها وبالمتسببين فيها لكننا لا نستطيع أن نمنعها! وهكذا نجد أنفسنا مجبرين على الجلوس أمام شاشات التلفزيون للتفرج على فظائعها! بزّة أراغون العسكرية رغم أنه حصل على وسام، كتب لوي أراغون يقول: «قالوا إنني من بين الذين تمّ تجنيدهم عام 1917. وأنا أقول هنا، وربما يكون لي طموح بأن أثير من خلال هذه الكلمات منافسة قويّة بين أولئك الذين يدعون إلى الخدمة العسكرية، بأنني لن أرتدي مطلقاً الزيّ العسكريّ الفرنسي في المستقبل، وسوف أرفض تلك الحلّة التي رموا بها إليّ قبل أحد عشر عاماً، ولن أحيّي أولئك الضباط المتعجرفين، ولن أحترم مراتبهم العسكريّة».
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©