السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

إبداع ترفع له القبعة

إبداع ترفع له القبعة
18 فبراير 2015 21:20
إنها آسيا جبّار، الروائية والمناضلة والكاتبة والسينمائية، العربية، البربرية، المسلمة، والفرنسية، والفرانكوفونية، والمتوسطية، والمعروفة في العالم كله، التي لم تقرأها الثقافة العربية بكل مرجعياتها، ولا الفرنسية أيضا. إنما لم نسمع بها إلا في ذروة إنجازاتها: الترشح لنوبل، والدخول للأكاديمية الفرنسية، وهو ما اعتُبِر في الثقافة العربية انتصارا لثقافة لم تنتصر لهذه المرأة، سواء على مستوى ترجمة أعمالها أم تكريمها كما جرى مع الكثير من الأدباء العرب الذين يكتبون إبداعاتهم بالفرنسية ولا زالوا أحياء، حتى الجزائريين من بينهم فلقد تُرجم محمد ديب وكاتب ياسين، وعُرفا جيدا في المشرق العربي، على سبيل المثال، فيما ظلت آسيا جبار غائبة عن المشهد باستثناءات قليلة ليس من بينها صدور عمل لها بالعربية، بل بالفرنسية، فيُحتفى به في بعض الأوساط الإعلامية الثقافية والنقدية العربية – الفرانكوفونية دون أن يتم تجاوز ذلك إلى فعل أوسع، وكأن هذا النوع من الممارسة النقدية هو ضرب خاص يستهدف نوعاً من المثقفين العرب الذين يتقنون الفرنسية دون سواهم، بالتالي فهم الأجدر بالاطلاع على كاتبة من طراز رفيع مثل آسيا جبار، التي من غير الممكن تخيّل أنها لم تكن تريد ترجمة كتبها إلى لغتها الأم وثقافتها الأولى. في أية حال فإن ما جرى ترجمته لآسيا جبار، من بين قرابة ثلاثين كتاباً لا يتجاوز الأربع روايات: «العطش»، و»القلقون»، و»القبرات الساذجة»، وذلك خلال الستينات من القرن الماضي وربما لتركيزها على أوضاع المرأة الجزائرية إبان الثورة على الاستعمار الفرنسي، ثم «بوابة الذكريات» في مرحلة لاحقة، ومتأخرة على منفاها الاختياري. نصيرة المرأة في أعمالها الأولى اتجهت آسيا جبّار نحو المرأة في المجتمع الجزائري من وجهة نظر امرأة شابة ومثقفة على نحو لافت للنظر، هي أيضاً القريبة إلى أوساط الثورة الجزائرية والمدافعة عنها بحماسة في أعمالها ذاتها. إنما فيما بعد، ونتيجة لقربها من الثورة، وجّهت نقدها المتسلط باتجاه الثورة ذاتها، أي نحو السلطة «الثورية» التي ساقها أولئك الذين لم يخوضوا غمار الثورة نحو مآلات شخصية ومآرب استعمارية. ولعل هذا ما عمّق لديها الإحساس بالعزلة، خاصة وأنها تبنّت الكتابة بالفرنسية مثل أبناء جيلها من روائيي الثورة الجزائرية الأوائل الذين اختاروا الكتابة بالفرنسية، مثلما اختاروا الاستمرار في الدفاع عن القضية الوطنية الجزائرية ذاتها بعد الاستقلال لجهة فضح السلطة من جانب والاستعمار من جانب آخر. كان هذا الخيار، بالنسبة لآسيا جبار وأقرانها، سلوكاً ثقافياً وجمالياً وجد تعبيره الفني والسياسي في الرواية ثم في السينما في بعض الأحيان. سياسيا – ثقافيا معا، كان يُنظر إلى آسيا جبار في بعض الأوساط المثقفة الجزائرية على أنها من موقعها الأدبي تقف إلى جوار جميلة بوحيرد في موقعها السياسي النضالي. هي التي شاركت في باريس في نهاية الخمسينات والستينات في عدد من الإضرابات المتصلة بالنضال الوطني الجزائري. جرح شخصي أضف إلى ذلك، أن هناك جرح «شخصي» في حياة آسيا جبّار، وهو أنها لا تُنجب، وعندما تزوجت من أستاذ لغة عربية جزائري، قامت بتبني طفلين أحدهما ذكر والآخر أنثى. وفي هذا الزواج عانت الأمريْن ولم تنقذها قوة شخصيتها ولا ثقافتها العالية ولا أنها باتت روائية معروفة، بل أورد ابنها في حوار نُشر بعد موتها أن الرجل كان يحبسه معها في خزانة الملابس لعدة ساعات. وهو «ابن» بحكاية غريبة تحتاج إلى سلسلة من الروايات عن الوضع الاجتماعي في الجزائر إبان أفول الاستعمار عن أراضيه. واقع الحال أن ما أنقذ آسيا جبار من هذا الوضع الإنساني المزري هو ثقافتها وإبداعها وتجربتها الإنسانية. وربما كان اختيارها الهجرة من الجزائر، على نحو نهائي، أواخر السبعينات من القرن الماضي هو تلك الحياة التي كانت تتوق إليها في وطنها لكنها خسرتها على كل صعيد. فهاجرت إلى سويسرا أولا ثم استقرت في باريس. هناك، وفي الأعمال التي كتبتها آسيا جبار في أرض لغة كتابتها، بدت آسيا جبّار أكثر تعبيرا عن ثقافتها الرفيعة والرصينة مثلما عن إحساس فريد بالعزلة منحتها، كما حققت لها، قوة في الشخصية وإثبات حضور الذات واعتدادا كبيرا بهذه الذات التي كانت تخفي جروحا عميقة الغور لم تظهر عيانا على سطح الكتابة. فقد أصّرت لدى دخولها إلى الأكاديمية أن يحفر الحرفين الأولين من اسمها بالعربية إلى جوار اسمها بالفرنسية على غمد السيف الذي تسلمته في حفل استقبالها بالأكاديمية الفرنسية، حيث تسلّم السيف من رئيس الأكاديمية هو تقليد متبع لدى مؤسسة مهمتها الحفاظ على اللغة الفرنسية وتجديدها. وفي إثر ذلك الحفل، وفي لقاء مع آسيا جبار للقناة الفرنسية الناطقة بالعربية «فرانسواز كاتر» لا يزال موجودا على اليوتيوب، أشارت إلى أن تكون المرأة الخامسة التي تدخل الأكاديمية الفرنسية وتحوز المقعد الخامس في الدرس الأكاديمي هو أمر يدعو للتفاؤل ذلك أن الرقم خمسة في الثقافة العربية والاسلامية يشير إلى عدد أصابع يد فاطمة الزهراء – اسمها الذي أصرت على حفر الحرفين الأولين منه على غمد سيفها الفرنسي. وعندما سُئلت عن فرنسيتها المميزة، قالت آسيا جبّار بثقة: «نصي الفرنسي هو حياكة ثلاث لغات معا: العربية والفرنسية والانجليزية». ربما من المفيد هنا القول بأن محمد ديب كان يعتبر الفرنسية التي يكتب بها، أي التي تخصه، عبارة عن «غنيمة حرب»، قي سياق دفاعه عن اختياره الفرنسية لغة لروايته. في ذلك الحديث ذاته لـ «فرانسواز كاتر» قال أحد أعضاء الأكاديمية الفرنسية: «عربية، بربرية، ومسلمة، وفرنسية، وفرانكوفونية، ومتوسطية، ومعروفة في العالم كله، ولذلك، حتى لو لم تكن مقروءة جيدا في فرنسا، فإنه لشرف للأكاديمية أن تعترف بها». في أية حال، فقد أوصت المرأة أن تُدفن إلى جوار والدها، الذي أصرّ على أن تتعلم الفرنسية إلى جوار العربية، وإلى جوار أخيها أيضاً في مقبرة تلك المدينة الساحلية التي ولدت في قرية إلى جوارها، والتي استقبلت نهاية القرن الخامس عشر «الموريسكيين» الفارين من محاكم التفتيش الاسبانية. وقد حدث ذلك بعد أن نشرت سيرتها الذاتية بهذا العنوان – المفارقة: «لا مكان لي في بيت أبي»، أي لا مكان لي في بلدي. ومع ذلك فكأنما، بوصيتها تلك، كانت تضع حداً فاصلًا بين شخصيتين حملتهما في داخلها على نحو معذِّب: فاطمة الزهراء إيمالحين، وآسيا جبار، حدا فاصلا بين الجسد والإبداع، حدا فاصلا بين الاغتراب، بمعناه الوجودي، وبين الأرض التي شهدت طفولتها والتي فيها نمت بذرة ثقافتها التي حملتها إلى تقاطع ثقافات جعل منها بالفعل رمزا أدبيا أنثويا عربيا شديد الإخلاص والصدق في التعبير عن ذاته وبالتالي التعبير عن الآخرين جميعا، إنما بكبرياء غير مفتعل جدير برفع القبّعة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©