الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عودة الغريبة

عودة الغريبة
18 فبراير 2015 21:32
غابت آسيا جبار (1936 - 2015)، وفقدت الجزائر برحيلها آخر مؤسسي الرواية الجزائرية المكتوبة بالفرنسية. خالدة شرشال التي قالت: «أكتب ضد الموت. أكتب ضد النسيان. أكتب على أمل أن أترك أثراً ما، ظلاً، نقشاً في الرمل المتحرك، في الرماد الذي يطير وفي الصحراء التي تصعد».. عادت «بالحب والفنتازيا» إلى أرضها بعد رحلة مجد صنعتها في غربتها الطويلة. اقتربت آسيا جبار في فيلم «نوبة نساء جبل شنوة» (1977)، وفي روايتها الأخيرة «لا مكان لي في بيت أبي» (2007) من تدوين سيرتها الذاتية، حتى عناوينها لم تكن بعيدة عن رمزية المكان. في فيلمها المتأرجح بين الوثائقي والروائي، اختارت «شنوة» المحاذية لمسقط رأسها شرشال، وبنمط «النوبة» (نمط من الموسيقى الأندلسية) تحدثت عن نساء الجبل عبر «ليلى» المثقفة التي تعود إلى مسقط رأسها بعدما عاشت الثورة الجزائرية في المنفى لتؤكد صفاء تواصلها بالرغم من التباين في الوضع الاجتماعي. وفي روايتها المخطوطة كتبت عن سنواتها الأولى مع فتيات ونساء الجبل عندما ذهبت الفتاة لتعيش في الجزائر العاصمة حيث تتابع دروسها وتتجول فرحة بما ترى من فضاءات المدينة وشاعريتها قبل انفجار كبير هز البلد بأكمله. بين ليلى بطلة الفيلم، والفتاة محور الرواية صور وتعابير دافعت عن الأنوثة بخطابها السردي الذي يسجل ذكريات آسيا جبار المرتبطة بذاكرة شعب، وزعتها بأسلوب ممتع على مختلف أعمالها التي لم تغفل مهمة البحث عبر سلسلة من لحظات الوعي عن إجابات لتساؤلات الهوية، الماضي والحاضر وآفاق المستقبل، دور المرأة في الثورة الجزائرية وفي الحاضر الجزائري. «ليلى» التي تحركت من أجلها الكاميرا بمشاهد سينمائية تقترب من الأدب المصور، لم تكن في حقيقة الامر سوى تلك الفتاة التي اختزلت الدور الرئيسي بتميز أكثر عن الاشخاص الاخرين في الروايات السابقة. الاثنتان تقاسمتا أجزاء من السيرة الذاتية لآسيا جبار باسمها الحقيقي «فاطمة الزهراء إماليين»، وما اختلف بينهما لم يكن سوى الجزء الآخر لدى نساء «شنوة» اللواتي تعالت أصواتهن في المغارة، وهن يعزفن نوبة الحرية والانعتاق كجزء من الذاكرة الجماعية التي تستدعي التنقيب لإخراجها إلى العلنية وترقية تواصلها عبر الأجيال المتلاحقة. وإن كانت الفتاة ليلى لا تزال تبحث عن أجوبة لأسئلتها المفتوحة على مسارات عدة، فإن آسيا جبار الأديبة الروائية والأكاديمية والسينمائية التي كانت من ورائها قد توقفت عن العطاء، وعادت روحها الأبدية لتسكن أرض شرشال على بعد 100 كلم غرب الجزائر العاصمة، عكس «محمد ديب» الذي فضل برد الشمال و«محمد أركون» الذي رقد في بلد آخر بجوار الجزائر. مغزى الوصية وصيتها للعائلة الصغيرة نفذتها العائلة الكبيرة لما تحمله من المعاني والدلالات التي ينطوي عليها تقاسمها القبر مع والدها، وهي التي ظلت تصفه بالرجل الذي يؤمن بالحداثة والانفتاح والحرية حيث كان معلما بمدرسة في قرية «قورايا» التي لا تبعد عن القرية التي ولد فيها «ألبير كامو» إلا قليلا. مدينة شرشال حيث مثواها الأخير، هي مدينة طفولتها وشبابها، وهي مدينة ذات تقاليد مدنية عريقة، تتوسط الجبل والبحر، ومنها ظلت تستقي القوة والعزيمة في نضالها الرائد لتحرير المرأة، والذي ترجمته إلى إشعاع أدبي أكسبها العالمية، وبالرغم من إقامتها الباريسية وعملها بأمريكا فإنها لم تنس تدوين وصايا الروح الجزائرية التي سافرت بها إلى أجزاء أخرى من المعمورة، التي سارعت الكثير من رموزها الأدبية والسياسية إلى تقديم العزاء، والتنويه بالمسار الحافل للمرأة الثابتة على مواقفها وقناعتها الروحية والفكرية بنفس القوة التي خاضت بها الكفاح المسلح ضد الاستعمار، حيث لم تمنعها دراستها في في فرنسا من المشاركة في تظاهرات الطلبة الجزائريين المؤيدين للثورة الجزائرية في 19 ماي 1956 بمقولتهم الشهيرة: «الشهادات لن تصنع منا أحسن الجثث». مع تداول شبكات التواصل الاجتماعي لخبر وفاتها، وحتى قبل أن يتأكد الخبر رسميا عبر الجرائد ووكالات الأنباء، ومن قبرها في الروابي الخضراء المطلة على زرقة مياه البحر في حضرة مقام الولي «سيدي أمعمر»، استرجعت العائلة الأدبية المحلية والعالمية عبر كلمات النعي مكانة المرأة التي وصفها الرئيس «بوتفليقة» بأنها عاشت في الأجواء العالية من الفن والأدب، لم يرتق إليها إلا من حباه الله بفكر نيّر وإحساس مرهف وخيال مجنح وقلم صوال في خبايا الزمان، جوال في طوايا النفس والوجدان، مسافرا بغنى الجزائر في كل مفرداته عبر الكلمة ونضارة الفكر إلى أقاصي المعمورة لتري الناس أكمل صورة وأنقاها عن وطن، عاشت له بفنها وعلمها، فأثرت تراثه الأدبي وأغنت تراث الإنسانية بجواهر خالدة ستبقى عقدا متلألئا في جيد الأدب العالمي وحلية نفيسة لبنات وأبناء وطنها على الدوام. هويات متعددة يشهد أهل البلدة الذين احتلت مدينتهم صدارة الحدث بعودة ابنتهم إليها، أنها حفظت في باكورة حياتها ما تيسر لها من آيات الذكر الحكيم في المدرسة القرآنية قبل أن تتوجه إلى مدارس المنطقة لتنهل من العلوم والمعرفة وتوسع من مداركها بعد نيل شهادة البكالوريا صعدا في مدارج التعلم والتثقف، وهي التي أصدرت في ظرف شهر أول رواية «العطش» (1957) قبل أن تبلغ الـ 20 من العمر، وفي السنة التالية (1958) ستنشر روايتها الثانية: «القلقون»، ثم رواية ثالثة (1962) بعنوان «أطفال العالم الجديد»، وهي ما تزال طالبة في المدرسة العليا للمعلمين بفرنسا، ومنها سارت لتصبح أول سيدة عربية عضوا في الأكاديمية الفرنسية منذ 2005، وتلقي بين أعضائها ونخبها كلمتها التاريخية عن الاستعمار كجرح كبير عاشه أجدادها لأربعة أجيال يوما بيوم، ونساء جبل «شنوة» اللواتي أعدن لها بصيرتها وفرنسيتها تنورت بهن، و«ابوليوس» و«ترتوليان» و«القديس أوغسطين» عظماء من بلادها، و«ابن رشد» و«ابن عربي»و «ابن خلدون» الذين فضلوا المنفى خدمة للعلم.. إنها الرؤية التي جعلت الرئيس الفرنسي «هولاند» ينعي صاحبتها بالفقيدة ذات القناعات والهويات الفكرية المتعددة. في رواياتها الأخرى: «بعيداً من المدينة»، «نافذة الصبر»، «الحب الفانتازيا»، «ظلّ السلطان»، «شاسع هو السجن»، «ليالي ستراسبورغو»، «أبيض الجزائر»، «وهران لغة ميتة» التي تروي فيها معاناة المرأة الجزائرية في مرحلة تصاعد الإرهاب الهمجي في تسعينيات القرن الماضي، قطعت آسيا جبار أغلال التقاليد ونفضت عنها ثياب الركود والجمود وكشفت للعالم شخصية المرأة الجزائرية الحرة وقدرتها على اقتحام عالم الفكر والأدب الذي فقد كاتبة من الطراز الراقي، مثلما خسرت اللغة الفرنسية قلما مبدعا يصعب تعويضه، بينما فقدت الجزائر اسما حصل على 15 جائزة دولية منها الجائزة الدولية للأدب (الولايات المتحدة- 1996) وجائزة السلام لأصحاب المكتبات الألمانيين (فرانكفورت- 2000) والجائزة الدولية بابلو نيرودا (إيطاليا- 2005)، وكان يمكن أن يسجل إسمها في قائمة أرقى الجوائز العالمية بعد ترشيحها ثلاث مرات لنيل جائزة نوبل للآداب، لكن الأبواب أغلقت مباشرة بعد نجيب محفوظ. حفّارة التاريخ الراحلة التي قامت بتدريس التاريخ بجامعة الجزائر بعد عودتها من فرنسا سنة 1962 وإلى غاية 1980 قبل أن تقرر الهجرة من جديد، اشتغلت على الأرشيف الاستعماري الفرنسي وتحدثت عن جرائمه، فكانت أول من كشف عن محرقة «أولاد رياح» وإبادة قبيلة بأكملها على أيادي الجيش الفرنسي، وروت تفاصيل الحكاية في رواية «الحب الفانتازيا» سنة 1985، وتروي في رواية «امراة بلا ضريح» (2002) قصة المجاهدة الشهيدة «زليخة يمينة عوادي» التي قاومت الاستعمار إلى جانب زوجها، متحدية بطش الجيش الفرنسي واستبداد التقاليد لترفع السلاح وتختلط بالمجاهدين، حاصرها الجيش الفرنسي في الجبال بأعالي شرشال وقادها إلى السجن حيث عذبت وقتلت ودفنت في مكان مجهول لا يعرف أحد مكانه إلى اليوم، أخفاها العسكريون خجلا من عار الجريمة البشعة ضد امرأة شجاعة ربما ذكرتهم ببطلتهم «جان دارك»، فسارعوا إلى إخفاء جثتها صونا للعار والفضيحة. وأيقونة الأدب الجزائري المعاصر التي مارست الكتابة الأدبية والأكاديمية باللغة الفرنسية لأكثر من 50 سنة، ترجمت مجمل أعمالها إلى 30 لغة ما عدا العربية التي لم تترجم إليها إلا عدة روايات، لتكون جبار معروفة في الخارج أكثر من انتشارها في بلدها وفي الفضاء الأدبي العربي، رغم أن قلمها النبيل ظل لصيقا بصوت الإنسان الجزائري الذي أكسبها وعيا بأمازيغيتها وجزائريتها، وحتى بعدها الإسلامي مثلما تجلى في روايتها «بعيدا عن المدينة المنورة» التي أبرزت فيها دور المرأة المسلمة في صياغة التاريخ بالتركيز على دور نساء عظيمات كفاطمة وعائشة. لم تمارس آسيا جبار المعارضة السياسية رغم تحرر كتابتها من قيود الرقابة الذاتية، لكنها ظلت تؤمن بدور الأجيال الجديدة في تحقيق المستقبل الزاهر بعد ماضٍ مجيد وحاضر لم يستقر.. وتدعوها إلى عدم الوقوع في فخ التمييز اللغوي التصفوي «الفرانكوفيلي»، بقدر ما تطالبها بالتفتح على القراءة بلغات أخرى، والإطلاع على فنون الكتابة والتشبع من معاني القيم الممهورة بالمحبة والسلام والتعايش في كنف الأسرة الإنسانية. مثل هذه الرؤية النبيلة حققت تجاوبا معها وبكل اللغات التي وصفتها بـ«مدرسة في الأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية»، مثلما وحد رحيلها جميع المثقفين الجزائريين على دعوة الجهات الرسمية إلى مراجعة العلاقة والتواصل مع النخبة المثقفة بعيدا عن ممارسات التهميش والتغييب.. إنه النداء الذي أطلقته جمعية أصدقاء آسيا جبار في دعوتها إلى إحياء ذكراها بالاهتمام بإنتاجها الأدبي. الرواية والسينما كتبت آسيا جبار «نوبة نساء جبل شنوه» عام 1957 وحولته إلى فيلم عام 1978. ويعتبر هذا الفيلم أول أعمالها السينمائية. لفت انتباه النقاد الأجانب والعرب بصورة كبيرة. يقوم النص على أحداث عديدة تتأرجح بين الحقيقة والخيال: وفيه تصور جبار جانباً من حرب التحرير الجزائرية ودور المرأة الجزائرية في هذه الحرب. وهو مزيج من الروائي والتسجيلي، ويسير في اتجاه تجريبي وجمالي متميز.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©