الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مهرجان الحصن.. سِحرٌ مستقطع من الزمن

مهرجان الحصن.. سِحرٌ مستقطع من الزمن
18 فبراير 2015 23:59
عام جديد آخر يطل على العاصمة الإماراتية «أبوظبي» وهي تعيش طقساً احتفالياً، يعود بها إلى ذاكرة بعيدة مستحضرة ومقتطعة من الزمن القديم، هو ذاته ذلك الزمن الجميل. حيث للفضاء المكاني وقعه الخاص على أرواحٍ متعبة ومثقلة، أنهكتها الخطوات في واقعٍ، هو اليوم، لا يشبه أبداً ذاك الذي رحل قبل سنين طويلة، ولا يمكن له أن يجاريه حتى... رضاب نهار في رقعةٍ تمتد على مساحة 17 ألف متر مربع، يتمركز مهرجان قصر الحصن في دورته الحالية التي تقام في الفترة من 11 ولغاية 21 فبراير الجاري، بين شارع النصر وشارع الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم وشارع الشيخ زايد الأول، بينما تفصله عن مياه الخليج العربي مجموعة من الأبراج الشاهقة الشاهدة على عظمة «مبنى» هو الأول في تاريخ المكان. للمشهد سحره ونكهاته كإعلاميين، بدأت تحضيراتنا للمهرجان قبل أسابيع من افتتاحه، محاولين أن نؤطّر الحدث بإطاره التاريخي والاجتماعي للمنطقة. وأن نصل إلى قراءات ثقافية جديدة ومختلفة، ليس لقصر الحصن كمعلم عمراني يلخص سيرة وطن، فحسب، إنما أيضاً لأولئك الذين ارتبطوا به على مدى أعوام، عايشوه، وعاشوا فيه، وصاروا يشبهونه حتى في ملامح وجوههم، إذ صارت العظمة صفة مشتركة بين جميع الأطراف. وعبر عملية البحث، وصلنا إلى العام 1761 وما قبل، حين قام الشيخ ذياب بن عيسى، شيخ قبيلة بني ياس بتشييد برج لمراقبة وحماية المياه العذبة بالقرب من شاطئ أبوظبي، مروراً بعمليات التوسعة والتجديد وما كان يحيط بها من ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية، إلى أن وصلنا إلى الهيئة الحالية للقصر.. وعلى الرغم من كثرة الموضوعات والدراسات التي تناولت التآلف الراهن بين قصر الحصن، المبنى الأثري التاريخي، وبين الأبراج العمرانية الحديثة الآخذة بالارتفاع والالتفاف من حوله، يبقى للاحتكاك المباشر مع هذا المشهد سحره البالغ في عين المتلقي من جهة، وفي روحه من جهة أخرى، ليشعر وكأنه يقف أمام معجزة تفرض الدهشة على كل من يحاول التفكير بحيثياتها. حوار أجيال عبر جولة ميدانية على أرض الحدث، يمكن للمساحة الكلية للمهرجان وما عليها من بيوت ومرافق ومحال تجارية بنيت مؤخراً وفق الصيغة التقليدية للنظم البنائية المعمارية آنذاك، أن تبدو وكأنها «موقع» لتصوير فيلم سينمائي يبحث في الهوية الإماراتية، ويسعى إلى ربط الأجيال بعضها ببعض، من خلال صيغ ثقافية وأخرى فنية من قلب البيئة المحلية. ولعل انتشار كاميرات التصوير الفوتوغرافية والتلفزيونية، برفقة إعلاميين إماراتيين وعرب وأجانب، يزيد من بلورة الموقف بهذا الشكل ويدعو إلى الكثير من التفاعل، ومن الانتعاش. وإذا ما تخيلنا قدرة لقطة ثابتة واحدة أن تستوعب المكان كله، بكافة تقسيماته وانعكاساته الحية والمباشرة بين الماضي والحاضر، نكتشف أن للتراث وجوه عديدة، قد تكون إحداها بمنتهى الحداثة والمعاصرة. وتجدر بنا الإشارة، عند هذه النقطة، إلى جهود المهرجان في رسم وتصوير البيئات الأربع لإمارة أبوظبي، جنباً إلى جنب، كنسخة مصغرة جداً عن الخارطة الإماراتية، وما تحتويه من عناصر وتفاصيل توحي بالأصالة، مثلما توحي بالتطور. فضلاً عما يظهره من تنوع ثقافي وإنساني، ويقدمه باعتباره خياراً مثالياً للتعايش في أي بلد من بلدان العالم. ومن الصحراء إلى الواحة إلى الجزيرة وبعدها إلى البحر، ثمة نكهات تنتشر في أرجاء الموقع بروائح مختلفة، يمكن لمن لا يعرف الجذور والتقسيمات البيئية للمنطقة، أن يحسبها واحدةً. إلا أنها في الحقيقة تفوح من مواد وأغراض لا تشبه بعضها البعض أبداً، حيث يحدث وسط هذا الازدحام الهائل أن تختلط المذاقات والروائح وتعبر من عندك دون أن تستطيع تصنيفها، ظناً منك أنها وكما الموسيقى، مؤثرات تصعّد شدة الحدث لا أكثر. قراءة تراثية معاصرة يكمن التحدي الأكبر اليوم من إقامة مهرجان قصر الحصن بشكل سنوي، في إعادة قراءة التراث بطريقة ثقافية، تنهض على دراسة موضوعية للمعطيات المتوارثة والموجودة بين أيدينا، لا في قراءته بطريقة شكلانية ظاهرية فقط. الشيء الذي يضع على عاتق المثقف، الإماراتي تحديداً، شاعراً وروائياً وقاصاً وموسيقياً وتشكيلياً ومسرحياً وسينمائياً، مهمة كبرى تطالبه بتناول العناصر الراهنة وإعادة طرحها من جديد، مستفيداً مما يحاول هذا الكرنفال إلقاء الضوء عليه. ومنه فإن أية زاوية من زوايا المكان، أو أي ركن من أركانه، تصلح لتكون مادة أو دراسةً فنية بأبعاد فكرية، كلوحة أو قصيدة أو فيلم... نظراً لما تتضمنه من مفردات جمالية تحمل قيمة ثقافية عالية من دون شك، ولما تعرضه من حيوات قديمة وحاضرة تقف على الخط الفاصل بين التراثي والحديث، وأحياناً تتماشى مع النمطين اللذين تجدهما ملتصقين هناك. بدوره، يضمّ المجمع الثقافي الذي لخّص في وقتٍ ما، الحياة الثقافية في إمارة أبوظبي - وكان أشبه بالمنارة المستقطبة لأعلام الفن والفكر والثقافة من جميع أنحاء العالم - عدة أقسام تركز على توثيق الذاكرة الحديثة للإمارات في السنوات القليلة الفائتة. وذلك باستخدام المعارض والصور والإحداثيات للخارطة القائمة الآن، وحفظها كونها ستصبح مستقبلاً تراثنا القديم. وتعكس الجولات داخل المجمع، مدى الاهتمام الحالي بالتعرف على أبرز المحطات في المشهد الثقافي الإماراتي في أبوظبي، والرغبة بالحصول على معلومات توثيقية تؤرشف التاريخ وتضعه بين أيدينا. دراما تفاعلية للدراما حضورها الدائم والرئيسي في مهرجان قصر الحصن منذ يومه الأول، وبالعموم، يوجد شرط ضمني متفق عليه بين المشاركين فيه، وبين الزوار. يقوم على إعادة تجسيد أحداث وقعت في الماضي، الآن وهنا. ومن المفترض بالتالي، تصديق الحدث والتماهي معه وفق تفاعلات متفاوتة تبعاً لطبيعته أولاً، وتبعاً لمدى قابلية الزائر على التفاعل. وفي حديثنا عن التفاعل نتوقف بعض الشيء عند بعض المحطات التمثيلية الحاصلة في المهرجان، كتلك التي تصوّر بالصوت والصورة وبوجود الديكور الكامل بأدق تفاصيله، العرس في أبوظبي قبل عقود طويلة. وكان من الرائع فعلاً استقبال التهاني من قبل الزوار لأهل العرس، كمحاولة للتصديق بأقصى حالاته، حتى أن كثيرين شاركوهم الرقصات والتقطوا صوراً تذكارية مع العروس الجالسة على مقعدها الخاص طيلة العرض. أيضاً لجأ المهرجان إلى صيغة المسرح الجوال و مسرح الشارع وفق تقنياتهما البسيطة وفعّلها كعروض متفرقة هنا وهناك على أرض الموقع. فقد قامت مجموعة من النساء بالزي الإماراتي القديم، وهنّ يحملن «جرار الماء» فوق أكتافهن، بإبداع حوارات درامية قدمنها بصوتٍ عالٍ حول مواضيع تبرز النظرة التقليدية للفتاة، الشيء الذي سمح لمجموعة من النساء الأخريات من زوار المهرجان بالرد عليهن بحوارات ذات نفس معاصر. وبالتالي اكتمل المشهد المسرحي مبيناً التمازج الحضاري بين الأجيال بالاعتماد على الحوار والنقاش. وثمة مظهر ثانٍ من مظاهر المسرح الجوال قدمته الشرطة بزيها التراثي، عندما عرضت مقتطفات من مواجهتها لنمط الحياة في ذلك الحين. أيضاً جميع الرقصات والأهازيج التي أبرزتها الفرق المحلية هي نوع من أنواع المسرحة والتمثيل، مخترقةً قواعد المسرح التقليدي الذي يقوم على انفصال خشبة العرض عن صالة المشاهدة، وعلى متفرج سلبي لا يتفاعل مع الحدث، فكثيرون هم الزوار الذين شاركوا بالعرض ودخلوا ساحة الرقص، حتى من النساء. امرأة الزمان الماضي الحضور النسائي الإماراتي الكثيف طيلة أيام المهرجان، كمشاركات وزائرات ومنظمات، لا بد وأنه لم يأتِ عن عبث أبداً. حيث أنه يقترن وبكل تأكيد، بالدور الفاعل للمرأة الإماراتية في أبوظبي قبل قرون. سواء داخل قصر الحصن أو خارج أسواره. ويكشف حضورها عن مدى قدرتها على المشاركة في كافة نواحي الحياة، وقدرتها أيضاً على تحمل الصعاب والتحديات التي لطالما واجهت الإماراتيين قديماً. ويرسم مستقبل دولة الإمارات العربية المتحدة، الذي يمنح المرأة فرصة الانخراط في مجالاتٍ مختلفة من العمل والإبداع، تماماً مثلما يمنحها للرجل. بالمقابل أن لوجودها شكلاً ثقافياً وآخر فنياً، يتجلى بوضوح في التمثيليات الدرامية، الإشراف على ورشات العمل ذات المضمون التربوي والتعليمي الفني، تحضير النكهات والمذاقات الإماراتية بامتياز، إبراز المنظومة التراثية بتحولاتها المتأرجحة بين فقرات تسلسل زمني يعود إلى القرن الثامن عشر، وإلى ما قبله بالطبع..
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©