الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

داعش والكتب.. عداء تاريخي

داعش والكتب.. عداء تاريخي
18 فبراير 2015 21:35
نستغرب كيف أن داعش تأخرت كل هذا الوقت قبل أن تحرق مكتبة الموصل العريقة، مهد الحضارات. ينبغي أن نلومها على ذلك. يحق لنا أن نعتب عليها. ولكن يبدو أنها كانت مشغولة بمجزرة البشر قبل مجزرة الكتب. داعش لا تستطيع أن تفعل كل شيء دفعة واحدة. داعش منهجية، ديكارتية. لقد شُغلت المسكينة داعش على مختلف الجبهات طيلة الشهور الماضية ولم تستطع التفرغ لهذا العمل الجليل إلا الآن. قديما قالوا: «من يحرق الكتب اليوم، يحرق البشر غدا». ولكن داعش عكست الآية؛ فقد ابتدأت بحرق البشر قبل حرق الكتب. ولا ينافسها في هذا المجال الحيوي الا المرعب الشهير «توركمادا» أحد كبار زعماء محاكم التفتيش في اسبانيا. فقد حرق الكتب والبشر بالآلاف المؤلفة. ولكن كان ذلك قبل خمسمائة سنة أو أكثر. أما داعش فتحرق اليوم عام 2015. أين هو التنوير العربي؟ أين هو التنوير الإسلامي؟ ما هي الكتب التي حرقتها داعش؟ إنها كتب الأطفال، وكتب الفلسفة، ودواوين الشعر، والكتب العلمية. هذا بالإضافة إلى مجلات عربية عديدة تعود إلى أوائل القرن العشرين. لماذا حرقت كل هذه الكتب؟ لأنها «تدعو إلى معصية الله». هذا هو «الجهل المقدس» الذي تحدث عنه الباحث الفرنسي أوليفييه روا. انه أخطر جهل في التاريخ لأنه يتلفع بلباس الدين والمقدس الأعظم. والإسلام الحنيف منه براء. لمحة تاريخية هل هذه هي أول مرة تحرق فيها الكتب؟ بالطبع لا. هناك تاريخ طويل عريض لذلك في تاريخنا. ويمكن القول إنه ابتدأ مع عصر الانحطاط. فلا انحطاط بدون حقد على الكتب والمكتبات. ويرجع أحد أسباب انهيار الحضارة العربية الإسلامية وأفول العصر الذهبي العباسي – الفاطمي – الأندلسي إلى حرق الكتب وبالأخص كتب المعتزلة والفلاسفة، وكذلك الكتب العلمية المحضة. من المعلوم أن العرب إبان العصر الذهبي كانوا مولعين باقتناء الكتب والبحث عنها في شتى أنحاء العالم. كان خلفاؤهم وأمراؤهم وتجارهم الكبار يتنافسون على تشييد المكتبات العامرة وتجليد المؤلفات بشكل فاخر. ولكن بعد أفول الحضارة العربية الإسلامية والدخول في عصر الانحطاط خف اهتمامهم بالكتب حتى انعدم أو كاد. وأصبحوا يكتفون بالكتب الدينية التقليدية التي تجتر كلام الفقهاء الأوائل أو مؤسسي المذاهب. وضاقت عقليتهم وتقلص فضولهم العلمي فما عادوا يهتمون بأنواع المعرفة الأخرى. بل أصبحوا يشتبهون بها ويحرقونها لأنها تبعد عن الله تعالى أو تشكل معصية له - كما تقول داعش-. ضمن هذا السياق نفهم كيف أن الخليفة العباسي الناصر لدين الله المتوفى عام 1225 ميلادية أمر بحرق مكتبة عبدالسلام بن عبدالقادر البغدادي الملقب بالركن. وكانت مليئة بالكتب العلمية والفلسفية التي «تفسد العقل» أو تشكل خطرا على تدين المؤمنين. ولكن قبله عندما فتح السلطان محمد الغزنوي مدينة الري (أي طهران الحالية) سنة 1030 فانه قام بقتل الباطنية أي الإسماعيليين ونفى المعتزلة وأحرق كتب الفلاسفة والاعتزال. ثم استخرج كتب علوم الأوائل اليونانيين وكذلك كتب علم الكلام من مكتبة الصاحب بن عباد وأمر بحرقها. وهكذا قضي على العصر البويهي الرائع الذي ازدهرت فيه العلوم والفلسفات ازدهارا قل نظيره. ومعلوم أنه كان امتدادا للعصر الذهبي، عصر هارون الرشيد والمأمون العظيم. ثم جاء المغول أو التتار لكي يدمروا نهائيا الحضارة العربية الإسلامية ويدخلوننا في ليل الانحطاط الطويل. كان ذلك كما هو معلوم عام 1258 حيث حرقوا بيت الحكمة التي أسسها الرشيد والمأمون. بل وحرقوا بالإضافة إليها 36 مكتبة أخرى عامة في بغداد. ورموا كل ذلك في مياه دجلة. ويقال بأن النهر تلون بالأزرق والأحمر طيلة عدة أيام من كثرة الأجساد والمخطوطات التي رميت فيه. لقد امتلأ بالحبر والدماء، والأمثلة كثيرة... وإذا ما انتقلنا إلى الأندلس وجدنا نفس الظاهرة تتكرر. فالعصر الذهبي تلاه عصر الانغلاق والانحطاط. فالخليفة الأموي العظيم عبدالرحمن الثالث الملقب بالناصر كان مولعا بالكتب ولعا شديدا، وكذلك ابنه الحكم الثاني. وقد شيدا في قرطبة أعظم مكتبة في أوروبا آنذاك. وكانت تضم ما لا يقل عن أربعمائة ألف كتاب. ولكن هي الأخرى أيضا تعرضت للحرق والدمار لاحقا. ولا ينبغي أن ننسى حرق المكتبة الشخصية لابن رشد أكبر فيلسوف عربي في ذلك الزمان. أخيرا لنترك العصور القديمة ولنقفز قفزة هائلة إلى الأمام وصولا إلى اللحظة الراهنة. ماذا حصل في مدينة طرابلس اللبنانية؟ نفس الشيء. نكاد نقول: ما أشبه الليلة بالبارحة! فقد هجم السلفيون المتشددون على مكتبة «السائح» الشهيرة التي كانت تضم أكثر من ثمانين ألف كتاب وأشعلوا فيها النيران. ولحسن الحظ فان صاحبها الأب ابراهيم سروج لم يكن فيها والا لاحترق هو الآخر أيضا. وماذا كان رد فعل هذا الكاهن المسيحي الطيب والمحترم؟ لقد قال: «أسامح الذين حرقوا المكتبة وأصلي لله كي يحمي طرابلس». يا ظلام (الجهل) خيِّم... إننا نهوى الظلاما. تكفير عباقرة العرب والمسلمين لقد نكب العرب والمسلمون بهذا التيار الظلامي الإرهابي الذي دمر الحضارة العربية الإسلامية ماضيا وحاضرا. ولا يزال سيفه المسلول مسلطا على رقاب المثقفين العرب منذ ألف سنة وحتى اليوم (أي منذ صدور نص الاعتقاد القادري عام 1017 ميلادية حيث أبيحت دماء المعتزلة ولوحقوا في الأمصار. ثم منذ تكفير الغزالي للفلسفة والفلاسفة)، وقائمة هؤلاء الذين تم تكفيرهم طويلة، لكننا نعرض لبعض النماذج. أولا: ابن سينا نبتدئ بشيخ الإسلام أحمد ابن تيمية الذي ترفع داعش لواءه وتحتمي «بلاهوته القدسي أو علمه الرباني» لكي تبرر جرائمها الشنعاء في قطع الرؤوس أو حرق الأجساد! وهذه بدعة غير موجودة في الإسلام ولكنهم وجدوا لها تخريجة عند ابن تيمية المعصوم! فما رأيه بابن سينا؟ يقول لا فض فوه: كان هو وأهل بيته وأتباعه معروفين عند المسلمين بالالحاد. وقال ابن قيم الجوزية: انه امام الملحدين الكافرين بالله ورسوله واليوم الآخر. وقال ابن الصلاح: ابن سينا كان شيطانا من شياطين الإنس. وقال الكشميري: ابن سينا الملحد الزنديق القرمطي. وقال الشيخ صالح الفوزان في عصرنا الراهن: انه باطني من الباطنية، وفيلسوف ملحد. وقال الشيخ سمير المالكي في كتابه الصادر مؤخرا بعنوان: «الرد على من عظّم الفلاسفة الملاحدة»: «كان يلقب بالشيخ الرئيس، وكان من الإسماعيلية، وهي فرقة باطنية، من غلاة الشيعة، ومن أخبثها، فاجتمع فيه ثلاث بلايا: هذه والفلسفة والمنطق. وقال الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء: له كتاب الشفاء وغيره وأشياء لا تحتمل. وقد كفره الغزالي «في المنقذ من الضلال» وكفر الفارابي. وذكره الذهبي في الميزان وقال: فلسفيّ النحلة ضال. وزاد:لا رضي الله عنه». ثم يتابع الشيخ المالكي قائلًا في مقدمة الكتاب: «فصرت ترى من يمجد الكافر النصراني، عدو الإسلام والمسلمين، لأنه عالم في الذرة أو في الفلك أو نابغة في الطب والعلوم. بل قد يمجد ويعظم اليهودي والنصراني والملحد لشهرته في الفن والرقص والموسيقى والشعر الماجن.. ومما يلاحظ أيضا تمجيد أولئك المنتسبين إلى العروبة والإسلام من الزنادقة والملاحدة وتفخيمهم وتعظيمهم على أنهم قادة في الفكر أو الشعر كما صنعوا مع الهالك الزنديق نزار قباني الذي أعلن كفره واستهزاءه بالله وبالدين واليوم الآخر».. لاحظوا مدى غطرسة مشائخ السلفية الوهابية الذين أنجبوا داعش. ولكن نزار قباني وحّد العرب كلهم حول صوته وشعره يا شيخ! لقد أدخل الفرحة إلى قلب كل عربي.. لقد أنعش لغة العرب بشكل غير مسبوق. من منا لا يتذكر قصيدته العصماء في رثاء زعيم التنوير العربي طه حسين؟ لقد هزت القاهرة هزاً: ضوء عينيك أم هما نجمتان كلهم لا يرى وأنت تراني ارم نظارتيك ما أنت أعمى انما نحن جوقة العميان! ثانياً: الفارابي قال عنه ابن العماد في شذرات الذهب: اتفق العلماء على كفر الفارابي وزندقته. (لاحظوا كلمة علماء هنا. قد تعتقدون أنهم علماء بالذرة أو بالفلسفة أو بالفكر. أبدا لا. المقصود بالعلماء هنا رجال الدين المتحجرون: أي علماء بالجهل وجهلاء بالعلم). انهم عالمون «بالجهل المقدس» فقط. ثالثاً: أبو بكر الرازي قال عنه ابن القيم في كتابه اغاثة اللهفان: إن الرازي من المجوس، وإنه ضالٌّ مضلٌّ. رابعاً: الخوارزمي قالوا عن محمد بن موسى الخوارزمي: إنه وإن كان علمه صحيحا إلا أن العلوم الشرعية مستغنية عنه وعن غيره. (هنا نلاحظ سمة أساسية من سمات عقلية القرون الوسطى في المسيحية كما في الإسلام. فهي تعتقد أن العلوم الدينية ليست فقط فوق كل العلوم وإنما يمكن أن تغني عن كل العلوم من فيزيائية وفلكية وطبية الخ.. كل ما عداها ثانوي لا يعتد به. هنا تكمن الظلامية المطبقة للعصور الوسطى التي انتهت في أوروبا نهائيا منذ زمن طويل. ولكنها لا تزال متواصلة في العالم الإسلامي ومسيطرة على شرائح واسعة منه وبخاصة التيارات السلفية الوهابية). خامساً: الجاحظ والآن ماذا قالوا عن الجاحظ؟ هل نجا من براثنهم يا ترى؟ أبداً لا. قالوا عنه بأنه سيء المخبر، رديء الاعتقاد، تنسب اليه البدع والضلالات. وقال عنه الخطيب بسنده: إنه كان زنديقا كذابا على الله ورسوله وعلى الناس. هكذا نلاحظ أن مؤسس النثر العربي وأحد مفاخر العرب على مر العصور مدان هو الآخر أيضا. وقل الشيء ذاته عن ابن الهيثم وثابت بن قرة والمعري والتوحيدي ونصير الدين الطوسي والكندي وكل عباقرة العرب والإسلام. وقل الشيء ذاته عن نزار قباني ونجيب محفوظ وطه حسين وفرح أنطون و فرج فوده ومحمد أركون، الخ، الخ.. كلهم مدانون سلفا ومكفرون من أولهم إلى آخرهم. وهذا أكبر دليل على مدى استفحال هذا الداء السلفي العضال في أعماق الأمة العربية الإسلامية. ينبغي الاعتراف بأن ابن تيمية «لا يزال يحكم العالم العربي من قبره» كما قال خالد غزال في احدى مقالاته اللامعة. وعلى أي حال فإن الأمة العربية تقف الآن على مفترق طرق بين عبقرية الانفتاح/وعبقرية الانغلاق. ولكن هذه الأخيرة هي المنتصرة تاريخيا وهي الطاغية على حياتنا وثقافتنا ما عدا بعض الجزر الصغيرة المعزولة هنا أو هناك. انظروا المدارس والجوامع والجامعات وكذلك العائلات والفضائيات. كلها تشكل حاضنة اجتماعية ضخمة للانغلاقات. وأخيرا ينبغي الاعتراف بأن العقلية السلفية المتقوقعة على ذاتها بشكل مدهش ومحكم تقدم للروح الخائفة طمأنينة ما بعدها طمأنينة. يكفي أن تغرق في الكتابات السلفية لمدة خمس دقائق فقط لكي تدرك ذلك. يكفي أن تدخل في أجوائها لكي يخيم عليك الماضي. حتى أنا كدت أقع في المصيدة! ولم لا؟ ألم أكن سلفيا من الطراز الأول في طفولتي؟ ألم أكن مفعما «بالجهل المقدس»؟ ثم خرجت من «السجن الأصولي» بقدرة قادر وانفتحت على العالم. من هنا جاذبيتها للملايين الضائعة وصعوبة التخلص من فكاكها أو أسرها. ولكن هذه العقلية اذا ما زادت عن حدها تحولت إلى «حقيقة إرهابية» قد تدمر العالم العربي بل والعالم كله اذا لم يفككها وينزع لغمها. بهذا المعنى فإن داعش تمثل ضرورة تاريخية أو حظاً استثنائياً. فلولاها لما تجرأنا على الاقتراب من اليقينيات المقدسة التي تقتل أو تشرّع القتل ربانيا. لولاها لما كان تفكيك الانغلاقات اللاهوتية الموروثة أمرا ممكنا. هل نقول شكراً لداعش؟ على أي حال بدءا من هذه اللحظة سوف يبتدئ الفكر بشكل جدي في العالم العربي. قبل ذلك كانت الأيديولوجيات السطحية والشعارات الديماغوجية تغطي على كل شيء وتوهمنا بأننا أصبحنا تقدميين ماركسيين اشتراكيين ونحن لا نزال في أعماق أعماقنا غير ذلك! المعرّي.. دار العلم من أشهر حوادث حرق الكتب على يد الخلفاء حرق مكتبة سابور في بغداد. وكانت قد أسست عام 381 هجرية من قبل وزير بهاء الدولة البويهي. وكانت تضم أكثر من عشرة آلاف كتاب. وقد حرقها الملك السلجوقي طغرل بك عام 450 هجرية. ومعلوم أن الانحطاط الفكري للعالم الإسلامي ابتدأ بالسلاجقة المعادين للعلم والفلسفة. وكان من بين المترددين على مكتبة سابور هذه أبو العلاء المعري. وقد ذكرها في ديوانه الشهير «سقط الزند» باسم: دار العلم. وهناك دار علم أخرى أضخم وأعظم هي تلك التي أسسها الخليفة العزيز بالله الفاطمي بالقاهرة. وكانت تضم أكثر من ثلاثة ملايين مجلد. هي أكبر مكتبة عرفها العالم الإسلامي. وقد دمرت هي الأخرى أيضا. حرق الفيلسوف في عهد الخليفة أبي يوسف يعقوب المنصور، تمت مصادرة جميع الكتب التي تحتويها مكتبة ابن رشد. وكانت تضم بالإضافة إلى مؤلفاته، كتب الفارابي وابن سينا وبقية العلماء والفلاسفة. وقد تم تجميعها في الساحة العامة لمدينة قرطبة وأضرمت فيها النيران. وأرغم ابن رشد بالقوة على مشاهدة مكتبته وهي تحترق وسط تكبير الغوغاء وصراخهم بتحريض من رجال الدين الداعشيين قبل «داعش». وقال عندئذ عبارته الشهيرة: «إن روحي تموت بموت الفلسفة!».
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©