الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تحوّلات دراكولا

تحوّلات دراكولا
18 فبراير 2015 21:40
يعرف القراء قصة دراكولا التي كتبها المؤلف الأيرلندي برام ستوكر. إن لم يعرفها بعضهم قراءة، فلا بد أن يعرفها فيلماً. فقد أخذت هذه القصة تظهر في السينما منذ عام 1922. وفي عام 2009 وحده ظهر 217 فيلماً عن دراكولا، فاحتل هذا البطل المركز الثاني بعد البطل الشهير شرلوك هولمز (223 فيلماً أي بفارق ستة فقط). ولم يكن مؤلفها برام ستوكر رجلاً عادياً- كصديقه أرثر كونان دويل- بل كان رجلاً صاحب إرادة قوية حقاً. فمنذ الولادة ظهر أقرب إلى الطفل المعاق، فلم يمش منتصباً حتى بلغ السابعة من عمره. كان سقيماً تنبو عن مرآه الأنظار. بيد أنه وعى وضعه فحقق ما يشبه المعجزة، فتعلم أحسن تعليم، وتدرب بدنياً على أفضل تدريب، فصار صاحب جسد سليم متكامل متناسق، حتى أن زوجته- التي كانت فائقة الجمال، تهافت عليها الخاطبون- فضلت أن تقترن ببرام ورفضت أوسكار وايلد المتقدم لخطوبتها، والذي صار فيما بعد صديقاً لستوكر. وكان مثال الرجل المكافح المتقن لعمله، فلم يعرف عنه سوى السمعة الطيبة. أما في الرياضة فقد صار بطلاً مشهوراً، من ألمع نجوم كرة القدم، وأحرز تقدماً في اللياقة البدنية، وتمتع بصحة وافرة مدى العمر الذي قضاه على هذا الكوكب. عرضنا شيئاً من حياته الخاصة لنقنع القارئ أن الرجل بطل حقيقي، ومحب للخير، فلم يخطئ بحق أحد، ولم يؤذ أحداً، بل كان قدوة في العمل والإخلاص... ومع ذلك التهمه دراكولا. وقد وجدت، بموجب اهتمامي، أن القسم الأعظم ممن يعرفون الكونت دراكولا جيداً، لا يعرفون شيئاً عن سيده وصاحب الفضل عليه برام ستوكر، مؤلف الرواية... فالمكتوب التهم الكاتب، والوهمي افترس الواقعي، والمطبوع على الشر أودى بالمطبوع على الخير، وصاحب الإرادة الخبيثة محا صاحب الإرادة الطيبة. وقد لاقى صديقه السير أرثر كانون دويل المصير ذاته، فقد كان بطلاً هو الآخر، ونال مرتبة «السير» لأعماله العلمية والإنسانية، وهو طبيب ماهر، له مكتشفات وطرائق معالجة عدة. خلق شخصية سماها «شرلوك هولمز» فالتهمه على الفور. لم يمهله طويلاً، فصار الناس يعرفون تفاصيل أعمال هيتشكوك ولكنهم لا يعرفون شيئاً عن هذا الطبيب النبيل، الذي اعترف لستوكر أن روايته «دراكولا» أعظم رواية قرأها في حياته. الثيمة الجوهرية لدراكولا تصنف رواية «دراكولا» ضمن نوع يطلق عليه «الرواية الغوطية» التي تقوم على الرعب والإثارة. فهي في رفّ يشمل آلاف القصص الغوطية، يصعب إحصاؤها بالدقة المتوخاة. سوى أن رواية دراكولا لها وضع خاص، فهي تقف إلى جانب الروايات التي تعالج موضوعاً اجتماعياً عميقاً، أمثال «فرنكنشتاين: برميثيوس العصر الحديث» لماري شيللي و»انهيار منزل آل أشر» لإدغار آل نبو، و»مرتفعات ويذرنغ» لإميلي برونتي. أما الروايات الغوطية الأخرى فليس لها حظ من الشهرة، ولا حتى أفلام هيتشكوك. إن كل تلك الروايات والأفلام تدهش وتجذب ولكنها لا تثبت في الذهن مثل دراكولا وما شابه دراكولا. الثيمة الجوهرية لدراكولا هي التي طرحها إدغار آلن بو وماري شيللي، وهي أن هناك طبقة شعرت أن التطورات الجارية ليست في صالحها، وأنها في طريقها إلى التلاشي، فآل أشر منطوون على أنفسهم في منزل من أعظم المنازل- كان- ولكنه آيل للانهيار، وأركانه آيلة إلى السقوط، فهي هنا متفسخة وهنا مضعضعة وهنا شقوق تأوي إليها خفافيش الليل... وهو منزل منفرد في واد تحيطه الغابات والأدغال الموحشة. وفرنكنشتاين يمثل العلم البروميثي وكيف سيقضي حتى على أصحابه من الطبقات الرفيعة الذين ظنوا أنهم يستقوون به، فانقلب السحر على الساحر. وما «مرتفعات ويذيرنغ»؟ إنها بكل بساطة أسرة رفيعة المقام يتحكم فيها ويذلها «ويثكليف» الخادم الوضيع، وصاحب النفس الحاقدة. وعندما يفلح خادم وضيع في تدمير أسرة محترمة، فإن هذا يدل أن هناك ظروفاً قاهرة تجري في الحياة المحيطة. هذه هي الروايات التي فرضت نفسها، وكلها تعالج موضوع الأرستقراطية في مواجهة الظروف الجديدة، التي تجري بهدوء وصمت مثل أفعى الليل، لا يسمع لها حسيس ولا فحيح، إلا عندما تقترب كثيراً وتصبح خطيرة جداً، وهذا ما قصده هيغل عندما قال «بومة منيرفا لا تطير إلا عندما يحل الظلام» فكل فرد يقرر أعماله بوعي، ولكن مجموع أعمال البشر تخط لنفسها طريقاً خاصاً وتفرض نفسها. اختار ستوكر لبطله لقب «كونت» للدلالة على طبقته المنهارة. أراد دراكولا أن يطيل أمد عرقه النبيل، أو الذي ظن أنه نبيل. ولكن كيف؟ بالدم الأرستقراطي فقط. أحس أنه ينهار، فبحث عن أرستقراطية لا تزال قوية، فوجدها... إنها الأرستقراطية الإنكليزية، فخطط أن يذهب من قلعته المنعزلة في جبال ترانسيلفانيا إلى بريطانيا، بحثاً عن دم يدعم حياته. هذه هي الثيمة الجوهرية لدراكولا. موقف مخالف كان هذا رأي دراكولا، أي ستوكر، لأنه عاش مع الأرستقراطية وأعجب بسلوكها وتصرفها وعاداتها الدقيقة المدروسة الصارمة، وقد أثر فيه الممثل هنري إرفنغ، النموذج الأكمل للشخصية الأرستقراطية. وقد رافقه في رحلته إلى أمريكا، ودعي معه إلى البيت الأبيض من قبل رئيسين للجمهورية هما وليم ماكينلي وتيودور روزفلت، وعاين الأجواء التي توحي بأن الأرستقراطية لا تزال قوية في بريطانيا وأمريكا. حتى يبقي دراكولا على حياته اضطر للانتقال إلى بريطانيا، المكان الوحيد الذي يقدم له الغذاء الذي يطيل الحياة. وكل الأحداث تخدم هذه الثيمة الأساسية للرواية، لكن الأرستقراطية البريطانية لا تسلم نفسها بسهولة لأرستقراطية ترانسيلفانية منهارة، فينشب الصراع. لكن هناك موقفاً مخالفاً لموقف ستوكر وهو موقف الكاتب البريطاني د. هـ. لورنس في روايته الشهيرة «عشيق الليدي شاترلي» فيذكرنا على الفور برواية «مرتفعات ويذرنغ» فالخادم يطيح بالأرستقراطية هناك، وهنا نجد «حارس الغابة» الشاب الممتلئ حيوية، يطيح بالأسرة الأرستقراطية. ومنذ الصفحات الأولى نجد السيد شاترلي يعود من الحرب العالمية الأولى مشلولاً، ومع ذلك يتشبث بالبقاء، بل يصل إلى حد أنه يطلب من الليدي شاترلي أن تنجب له وريثاً من أحد أصحابه الأرستقراطيين، ولكن صاحبه يفشل في منحه طفلاً لعجز متأصل فيه، إشارة إلى الشلل العام التي أصيبت به طبقته. وعندما يرى الليدي شاترلي حاملاً يفرح بأن سلالته ستتابع حياتها وتكمل مسيرتها في استغلال المناجم وإنشاء المصانع، ولكنه يصاب بخيبة أمل عندما يعلم أن حارس الغابة هو والد الجنين. نحن هنا أمام نظرتين مختلفتين فيما يخص مدى صلاحية الأرستقراطية للحياة. ولو تعمقنا الروايتين لرأينا أنهما متقاربتان في أن الأرستقراطية البريطانية هي الأخرى تعاني من وضع سيئ. وتبرز أمامنا الصيغة الداروينية التي تأثر بها ستوكر وهي الصراع من أجل الوجود، وهو صراع للسيطرة على منابع المادة المغذية. ومن هنا نفسر سبب تكاتف الأرستقراطية البريطانية في وجه أرستقراطية منهارة، لم يعد لها قوة تبقيها مهما كانت جبال ترانسيلفانيا حصينة ومهما كانت قلاع كرواتيا ورومانيا منيعة. التحوّلات الحديثة لم يجزم ستوكر أن الأرستقراطية البريطانية قوية بحيث تقاوم بطاقة موفورة، بل كاد دراكولا يمزقها. وجاءت التطورات الحديثة لتثبت أن المركب المركّب الصناعي العسكري حل محل الأرستقراطية، وهو اليوم يقود العالم. فمن العسير جداً اليوم أن تجد في السلطة رجالاً من أمثال ديغول أو تشرشل أو فرانكلين روزفلت. اليوم يقفز إلى السلطة مثلين للمركب الصناعي العسكري. وهو مركب يجمع أسباب القوة الحقيقية، بها يمكن تنظيم العالم، بحسب المصالح، لا بحسب القيم الأرستقراطية أو غير الأرستقراطية. في المناطق المتخلفة لا يوجد هذا المركب الصناعي العسكري، بل يوجد عسكر هزيل يشبه دراكولا الذي كلما شعر بضعفه ازدادت أعماله الشريرة، وراح يمتص دماء الآخرين. ومن هنا نفسر الانقلابات العسكرية في هذه البلدان. وكل المشاريع التي يقدمونها عبارة عن شعارات وطنية وشعبية، ولكن كل الأعمال التي يمارسونها ليست سوى أعمال دراكولا للحفاظ على المصادر التي تحافظ على الاستمرار. وإذا كان دراكولا دمر حياة فتاة راقية من أجل البقاء، فإن هؤلاء يدمرون مدناً راقية وجميلة من أجل البقاء. ففي هذه النقطة لا مكان للمسالمة والمساومة والتعاقد. ولو أتيح لهم الانتصار لشكلوا أرستقراطية جديدة، أي لأقاموا مركباً صناعياً عسكرياً، ولكن تنقصهم النظرة البعيدة التي تحلت بها الطبقات الصناعية في الغرب. وما الشعارات المطروحة سوى تغطية لما يقومون به من تهافت على المصالح العاجلة من غير التفكير في حركة التاريخ واتجاهه. وإمكاناتهم أقل من طموحاتهم بكثير، مثل دراكولا الذي شعر أنه في طريق الانهيار فازداد عنفاً لاعتقاده أنها الوسيلة الوحيدة للبقاء. وهذا ما سارت عليه السلطات المغتصبة في البلدان المتخلفة، فلم تستطع تثبيت دعائم القوة الحقيقية من جهة، وفاتها، من جهة أخرى، أن تدرك المسار العام للتاريخ في العصر الحديث. فمرة تتفيّأ شعارات قومية ومرة شعارات وطنية، ومرة شعارات الاشتراكية عسى أن تضلل الناس وتبعد عن أبصارهم ما تفعل، وأحيانا يطرحون مسألة التحرير المحلية، وأحياناً يوسعون الغطاء فيطرحون شعار وحدة إقليمية، لو تحققت لما كان لهم دور فيها، وأحياناً يستغلون الدين، وأحياناً يسعون لإقامة تحالف عالمي... وهكذا. إنهم يعيدون إلى الذاكرة تصرفات السير شاترلي وعجز صاحبه عن تقديم وريث له. فعلى الرغم من القوة الاقتصادية وجبروت الإدارة ومد العلاقات إلى أبعد ما يكون، شعر شاترلي- أخيراً- أن التصدع من الداخل لا يمكن رأبه، وأن القوة مهما توافرت غير قادرة على تأجيل السقوط الحتمي، ففي لحظة انقلبت المناجم التي كانت مصدر قوة، إلى مصدر ضعف، وصارت عنوان انحطاط لا وسيلة تقدم وازدهار. وعلى الرغم من الروايات التي ظهرت بعد دراكولا تزعم المزاعم، لتبقي على سلطته، أمثال رواية «دراكولا الذي لم يمت» أو «ابن دراكولا»... وما أكثرها! فإن رواية ستوكر أكدت موت دراكولا، ونهاية تلك الأرستقراطية الهزيلة في جبال ترانسيلفانيا الضخمة. سلطة الفن التهام المكتوب للكاتب ظاهرة قديمة لم تبدأ مع برام ستوكر. ألم يلتهم غارغانتوا صاحبه رابليه؟ ألم يكن سرفانتس بطلاً في حروبه ووطنيته وحبه لإسبانيا؟ من يذكره اليوم أمام الفارس الوهمي ذي الوجه الحزين دون كيشوت دي لامنشا؟ بل إن تابعه سانشو بانزا بات يذكر أكثر منه بما لا يقاس. ستجد الملايين يذكرون فرنكنشتاين، ولكنك قلما تحظى بمن يعرف شيئاً عن ماري شيللي صاحبة الرواية. ولماذا نذهب بعيداً؟ اليوم نرى الظاهرة ذاتها تتكرر، فها هو «هاري بوتر» يحتل النفوس والعيون والقلوب، وتتألف جمعيات الصداقة باسمه، وتروج قصصه، وتعرض في أفلام، وتحقق أعلى المبيعات وتعود بأعظم الأرباح... هل يذكر أحد جوان رولينغ مبدعة هذه الشخصية الخيالية؟... إنها سلطة الفن التي ما بعدها سلطة أبداً. وحدها السلطة الباقية؛ فلا عجب إذا التهم دراكولا صاحبه.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©