الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الإنسان بين العقل الحر والعقل المقيد

19 ابريل 2008 00:44
قام عصر التنوير الأوروبي بإضعاف السلطة بكل أنواعها، مفسحاً المجال للعقل أن يستغل قدراته في رفد الحياة إجمالاً بكل ما هو إيجابي ومتطور· ومن هنا أطرى عصر التنوير مارتن لوثر الذي قام بهذه المهمة بدءاً، إذ أضعف بإصلاحه السلطتين المتمركزتين اللتين كبلتا العقل آنذاك، وهما سلطة أرسطو فلسفياً والبابا سياسياً وعقائدياً· واليوم تبدو مجتمعاتنا العربية أحوج ما تكون إلى إضعاف سلطة المرجعية الغيرية والتقليد من أجل إفساح المجال للعقل الخاص أن ينطلق في التفكير الحر· إن العقل الحر يرجع إلى ذاته مفكراً في شؤونه، أما العقل المقيد فيبحث عمن يرجع إليه ليبصره حتى بأخص خصوصياته· هذا الجدل بين المرجعية الذاتية والمرجعية الغيرية هو الذي يحتدم من أجل بلوغ نهاية حاسمة لابد منها لاستعادة البشر حرية التفكير في مصائرهم وحياتهم وحتى رؤاهم في الحياة· هنا تكون المرجعية الذاتية مرجعية تنويرية، وبالمقابل تكون المرجعية الغيرية ضد التنوير، وللأسف مازال الأعم الأغلب من بني البشر ذوي نزعة اتكالية، لا يجرؤون على التفكير الحر، ولا حتى على الأكل والشرب من دون رخصة مسبقة تحددها لهم المرجعية الغيرية· وبهذا فإن هذا النمط من الرجوع الأعمى - الذي يتذرع بأطروحة رجوع ''الجاهل إلى العالم'' - يؤبّد ويدعم أساس التبعية الفكرية عبر التضحية بهبة العقل· فعلى وفقها يتنازل طرف عن حقه في إعمال العقل لطرف آخر· ومهما راعى الطرف الثاني شؤون الطرف الأول بحرص وتدبر وحكمة، فإن الأساس الذي تبنى عليه هذه العلاقة هو أساس يفتقر إلى الحرية والتحرر· لقد كان هناك مسعى نظري لعقلنة هذا النوع من المرجعية والتقليد بدعوى أنه عمل عقلي أيضاً، فـ''الجاهل'' حين يرجع لـ''العالم'' لحل مشكلاته كالمريض الذي يرجع للطبيب لعلاج أمراضه· إن هذا الرأي يقوم على مماثلة الجاهل - العالم بالمريض - الطبيب؛ وهذه المماثلة لا توفر الأساس الذي يدعم ضرورة المرجعية ولزومها؛ فهو على مستوى العقل يعزز أسس التلقين الأجوف والتسليم الأعمى للآخر بدلاً من إرساء دعائم ''الوعي الذاتي''، إنه يكرس التبعية بدلاً من ''استقلال الرأي''· هذا في الحقيقة نمط من التبرير العقلاني لإبقاء ''الجاهل'' جاهلاً وبمسيس الحاجة إلى آخر يعلمه كل شيء، وفي فعل التعليم هذا تجريد له من العقل والتفكير· يوفر هذا الطرح أساساً راسخاً لنقد المرجعية الغيرية فكرة ومنهجاً في الحياة الإنسانية، نقد يطول طرفي العلاقة، فينبه ''الجاهل'' على ضرورة وإمكانية أن يبلور وعي خاص أو طريق في الاختيار، ويفضح ''العالِم'' في كونه لا يهيئ الأرضية لخلق إنسان يفكر بالأصالة عن نفسه· إن المرجعية الغيرية نوع من الاستعباد الإرادي· يتغذى هذا الاستعباد الإرادي من إرث ضخم من تاريخنا القديم والحديث؛ إرث تعهد بتعطيل العقل تعهداً كبيراً، وحرص على رعاية الاستعباد ما أمكنه ذلك· إن قدر المجتمع المتكل والمتوكل هو أن يبقى حبيس عقدة الخوف وفقدان الثقة· إنه لا يريد أن ينهض بعبء المسؤولية، بل هو ينيط بالآخر المرجع المسؤولية كلها· فرأس المجتمع يكف عن التفكير، إنه لا يفكر، بل ينيب عنه رأساً آخر ليفكر عنه، ليضمن هو بذلك سلامة عدم التفكير التي يضاهيها بالنجاة· في الواقع، لقد تخلصت المجتمعات المتحضرة من هذا النمط من التفويض؛ تفويض قوامه علاقة استعبادية، وصارت تشارك في كل شيء يخص شؤونها، لأنها في الأصل حررت العقل واستعملته للتفكير· فكلما تراخت قبضة المرجعية الغيرية تحرر العقل، ''عقل المجتمع''، وكلما انحسر تفكير المرجعية نيابة عن المجتمع بدا المجتمع مكلفاً بالتفكير بالأصالة عن نفسه· وتلك مأثرة العقل الحر، عقل المرجعية الذاتية الذي يرى المرجعية الغيرية قمعاً لإرادته ورؤيته، قمعاً للمرجعية الذاتية· تنشأ المرجعية الغيرية من الخوف من التفكير، من الخوف من تحمل أعباء الاختيار· وما الخوف هنا سوى ''تحوط'' أقصى تمارسه الذات ضد ذاتها· وهي بتعاظم هذا التحوط الأقصى تنتعش وتكتسي وثوقية يعز نظيرها، بينما تشحب ألمعية الذات، وتنزوي إرادتها أمام تعاظم الإرادة المطلقة للمرجعية· لذلك، يتطلع المجتمع المقيد إلى المرجعية الغيرية في جميع مفاصل الحياة؛ لا يتخذ رأياً بصدد أي شيء إلا بتوجيه منها، لا يلبس ولا يأكل إلا برخصة منها، يُقدم على الشيء بوصية منها، ويُحجم عنه نفسه بوصية منها أيضاً· تمارس المجتمعات الحرة مرجعية ذاتية، وتنتعش فيها الفردية التي هي أساس الاختيار الحر والواعي· ولم تتخلق الحرية في هذه المجتمعات إلا بعد تشكيل فردية الإنسان· أما المجتمعات المسلوبة الإرادة فهي التي تمارس المرجعية الغيرية، وتخبو فيها الفردية ومن ثم لا وجود فيها للاختيار الحر والواعي· ولغياب الفردية والاختيار الحر تعيش هذه المجتمعات عيش العبودية المشرعنة التي تعيش انتهاك الذات بلا وعي منها· والسلطة فيها متركزة القوة حتى لتبدو موشوراً يلم بأطرافه أشعة الضوء كلها ويركزها لصالح رؤية محددة· من هنا يأتي وجوب التصدي إلى هذه المعضلة، ودحض مشروعيتها حتى تعود إلى المجتمع نفسه مسؤوليته عن تسيير أوضاعه والتخلص من أقسى أنواع اغتصاب الوعي الجمعي· ومن هنا أيضاً لا بد من تأسيس المرجعية الذاتية، ودعمها، وتشريعها ضمن محاولة جديدة لخلق إنسان حر جديد·
المصدر: واشنطن
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©