السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

صناعة التأملات

صناعة التأملات
26 فبراير 2014 21:14
الشارقة (الاتحاد) - إذا اعتبرنا أن السينما هي مجاز بصري يشتبك فيه التعبير الفني للكاتب والمخرج والممثل، مع ديناميكا الصورة ومتطلباتها، فإن هذا المجاز لا ينفصل عن البيئة الصادرة منه والحاضنة له أيضاً. وعند التطرق للحراك السينمائي المضطرد والمتنامي لدى عدد كبير من السينمائيين الشباب في رأس الخيمة، فإن علينا أن نبحث عن جذور ومسببات ومنابع هذا التوهج الفني الذي جعل من الأفلام السينمائية التي يتصدى لها سينمائيو رأس الخيمة هي الأكثر تميزاً، والأكثر توهجاً، وفوزاً بالجوائز في المهرجانات والمحافل السينمائية المحلية والخليجية، وحتى العربية والإقليمية. فخلال السنوات العشر الماضية، أصبح لكتاب ومخرجي السينما في رأس الخيمة رصيد إبداعي يمكن الإشارة إليه بقوة، والرهان عليه كأحد الروافد المهمة والمغذية للمشهد السينمائي الأوسع في الإمارات، ويبدو أن أصداء المكان والعزلات الفارهة فيه، واحتفاظ المعالم العمرانية القديمة في رأس الخيمة بحضورها الطازج وتأثيرها النوستالجي والاستعادي الحميمي، هي عناصر غالبة هنا، ومهيمنة على النسق السردي والتكوين الجمالي للأفلام التي ينتجها مبدعو رأس الخيمة، وفي ذهنهم المتّقد بالأخيلة، ملمح واضح عن إمكانات الصورة السينمائية وتأثيرها التفاعلي والسحري لدى المتلقي. أسماء وأفلام خلال السنوات العشر الفائتة كان الفيلم القادم من رأس الخيمة هو العنصر الأكثر تأثيراً وإثارة للنقاش، عندما كان يعرض في مسابقة أفلام من الإمارات، أثناء البدايات السينمائية الواعدة بالمجمع الثقافي بأبوظبي، وبالتحديد في العام 2001، وبالتوازي مع ظهور طاقات سينمائية مبشرة احتضنتها هذه المسابقة بإشراف مؤسسها ومتبنيها الشاعر والسينمائي الإماراتي المبدع مسعود أمر الله، وكانت مشاركة سينمائيي رأس الخيمة في المسابقة مشتملة على ميراث بصري وحكائي خصب، هو صنيع تأملات فردية، ومفردات شعبية، وعلائق اجتماعية ممتدة وعريقة بين سكان رأس الخيمة وبين طبوغرافيا البيئة المحيطة، وبكل ثرائها وتنوعها، في الجبال والصحاري والسواحل ووسط الحواري والفرجان القديمة، والأحياء الحديثة الخارجة من ضباب الصحراء ومن الغناء الشجي للنهّام القديم، الساهر على وجع البحر، كان حضور هذه الأفلام محمياً أيضاً بنكهة ثقافية ريّانة ومكتنزة، هذا إذا اعتبرنا أن السينما هي بنت تجربة حياتية حافلة، وهي مخاض لانتباهات واعية وخبرات مؤسسة على التعاطي مع فنون تتحرك في أفق تخيلي لاهب وفتّان ومدهش، كما في فنون القصة والرواية والمسرح والتشكيل والموسيقا وغيرها، ومن هذا المعطف الثقافي الواسع الأردان والأشبه بجبة الساحر، المتحكم في قانون الإغواء والتأويل البصري، خرجت أسماء سينمائية لافتة من رأس الخيمة، وفي توجهات عدة تدخل في صميم الاشتغال والعمل السينمائي، سواء في السيناريو، أو الإخراج، أو التصوير أو تصميم المشاهد أو المكساج والمونتاج، ونذكر من هذه الأسماء وليد الشحي، وعبدالله حسن أحمد، وناصر اليعقوبي، وحمد الحمادي، وحمد صغران في مجال الإخراج، وأحمد سالمين، ومحمد حسن أحمد في مجال كتابة السيناريو، وأحمد حسن أحمد المتخصص في تصميم السينوغرافيا السينمائية، مع مشاركة فاعلة من المخرجين أنفسهم في عمليات التصوير والمونتاج السابقة واللاحقة في التسلسل الإجرائي والفني اللصيق بصناعة الفيلم. قدم هؤلاء السينمائيون أفلاما روائية قصيرة وتسجيلية ما زالت عالقة في الذاكرة السينمائية المحلية، وكان لها دور كبير في صياغة حالة فنية مشجعة وبيئة جاذبة للأجيال الجديدة، ولطلبة وطالبات الإعلام في كليات التقنية برأس الخيمة، ونذكر من هذه الأفلام: «بنت مريم»، و«آمين» و«أحمد سليمان»، و«الفستان» و«ريح» و«حارسة الماء» و«باب» و«تنباك» و«الفيل لونه أبيض» و«مساء الجنة» و«سبيل» و«آخر ديسمبر» و«بصيرة» وغيرها من الأفلام التي تجاوزت وبحماس فني كبير، ضفة الفكرة إلى ضفة الفعل، وكان الناتج حقلا بصريا ماتعا وموفورا على حكايات وتلاوين مشهدية ناطقة بصوت المكان ومعبرة عن هوية عميقة كجذورها، ومنفتحة على فضاء الحداثة والمعاصرة أيضاً. تواصل الفنون ولا يبدو هذا المناخ البصري الخاص جداً، والمبثوث في الفيلم شعراً ونثراً وسرداً، وكأنه مناخ منفصل عن أركيولوجياً الجسد الثقافي في رأس الخيمة، ولا يبدو كذلك معزولاً ونائياً عن جغرافيا الحنين، الذي تمنحه البيئة والطبيعة بكرم وسخاء بالغين. لم ينفصل السينمائيون في رأس الخيمة عن روايات ومرويات وانطباعات علي أبو الريش مثلاً، والذي أرّخ لجماليات المكان ورجفة الروح وسحر الخرافة الشعبية في رأس الخيمة، كما لم يؤرخ لها أحد من قبل، وبكل هذا المخزون اللغوي المكتمل بجذوة الشعر والسرد معاً، لم ينفصل سينمائيو رأس الخيمة عن قصيدة التفاصيل المرهفة في شعر أحمد العسم، أو في قصص الراحل جمعة الفيروز المتوّجة بشهوة الأسطورة، من أول البحر إلى آخر الجبل، لم تنفصل السينما هنا عن الرحلات التوثيقية الشاهقة والمستحيلة التي تصدى لها الباحث عبدالله عبدالرحمن وهو يطارد ذاكرة كبار السن وحفريات الجن ومسالك الطفولة اللامرئية، والذاهلة في فردوس المتاهة والحلم. الحديث عن المشهد السينمائي في رأس الخيمة له أن يقودنا أيضاً إلى بدايات ظهور هذا الفن الإشكالي الصادم، في فترة عرفت الكثير من التحولات الاجتماعية وظهور القوافل السينمائية، ودور العرض التجارية مثل (سينما النخيل)، خصوصا في حقبة الستينات وما تلاها من سنوات شهدت حراكا ثقافيا وتعليميا ساهم في ولادة جيل توّاق للمعرفة، أسس للعديد من الظواهر الإبداعية في رأس الخيمة، وكان لهذا الحراك المضطرد أثر مطبوع في تكريس أسماء لامعة حملت على عاتقها مسؤولية الحفاظ على الوعي التنويري في المكان، وتهيئة الأجيال القادمة للاستزادة من هذا الوعي التنموي الجديد والمختلف والطموح. نقاش وجدل وللتعرف أكثر على تفاصيل هذا الحراك السينمائي المتنامي والمتميز في رأس الخيمة، التقى «الاتحاد الثقافي» مجموعة من الشباب المشتغلين في هذا الحقل الفني الشائك والفاتن في آن واحد، وفي منطقة ما زالت تحتفظ بمعالمها البكر وبطموحات سينمائية تتجاوز سقف الحلم، وفي هذا السياق يشير المخرج وليد الشحي ـ الذي يعمل حالياً على تنفيذ فيلمه الروائي الطويل الأول له بعنوان «دلافين» ـ إلى أن خصوصية الحركة السينمائية في رأس الخيمة ناشئة أساسا من النقاش والجدل المثمر بين السينمائيين وبين الأسماء الثقافية الراكزة هناك، سواء في حضورهم الشخصي وتجاوبهم وتفاعلهم مع هذه النقاشات، أو من خلال إبداعاتهم الموثقة في مجالات القصة والرواية والشعر وإسهاماتهم المسرحية كذلك، خصوصاً ـ كما أوضح الشحي ـ أن المسرح في رأس الخيمة ظل هو الرافد المهم لاكتشاف الممثلين وجذبهم إلى حقل السينما والوقوف أمام الكاميرا السينمائية التي يختلف التعاطي معها، مقارنة بالأداء على الخشبة أو أمام كاميرا التلفزيون. وأكد الشحي أن التنوع البيئي والجغرافي في رأس الخيمة، واحتفاظ الأحياء الشعبية بطابعها القديم، ووجود هذا الأفق المفتوح الذي لم تحجبه قامات الإسمنت العالية، هي عناصر ساهمت وبشكل مؤثر في تحول رأس الخيمة إلى ديكور طبيعي ضخم جذب الكثير من صناع السينما في الإمارات لتصوير أفلامهم في مناطقها المختلفة، خصوصا إذا كانت هذه الأفلام تتناول قصصا تراثية قديمة، أو مستوحاة من الحكايات الشعبية الموثقة أو الشفهية، وأضاف الشحي بأن هذا الزخم الإنتاجي، جعل الكثير من شباب رأس الخيمة الطموحين للعمل في السينما يتعرفون على تفاصيل هذه المهنة وأسرارها وخباياها، ومن هنا ـ كما قال ـ ظهرت فكرة تكوين مجموعات سينمائية مستقلة تضم عددا من المبدعين المتناغمين في الرؤى والأفكار، لإنتاج أفلام قصيرة في البداية، تكون بمثابة اختبار لهذه الحساسية الجديدة في المكان ولدى الشباب أنفسهم، وذكر منها مجموعة «أجراس» ومجموعة «فراديس» التي ما زالت إلى اليوم تقدم أفلاماً متميزة وناضجة وتسعى لتقديم أفكار ترويجية للسينما وخصوصا للفيلم السينمائي الطويل، والذي يشهد حاليا ـ وكما نوه الشحي ـ حضوراً ملموساً من خلال مشاريع يتم التحضير لها للمشاركة في المهرجانات السينمائية القادمة. روح الفريق ويرى المخرج الشاب حمد الحمادي المنتمي للجيل الثاني من السينمائيين في رأس الخيمة، أن العمل السينمائي المتواصل في المكان هو نتاج لعمل روح الفريق بين محبي هذا الفن الطليعي، بحيث يتحول كل مشروع سينمائي جديد إلى احتفالية إبداعية وإلى مختبر حقيقي يجمع كاتب السيناريو والمخرج والممثلين والتقنيين وكذلك المتطوعين من أبناء رأس الخيمة ومعهم أيضا طلبة وطالبات كليات التقنية، وهو الأمر الذي شبهه الحمادي بالوصفة السينمائية الخاصة التي لا نجدها في المشاريع السينمائية الأخرى بالمنطقة، والتي غالبا ما يتم الاستعانة فيها ـ كما قال ـ بشركات الإنتاج الأجنبية والكوادر الفنية التي لا تعرف شيئا عن خصوصية وهوية المكان. وأشار الحمادي إلى أن وجود فرع اتحاد كتاب وأدباء الإمارات في رأس الخيمة كان له تأثير واضح في تطوير الحركة السينمائية، وتنمية مهارات ومعارف الشباب الشغوفين بهذا الفن، خصوصا من جهة تخصيص الاتحاد في مبناه القديم قسما خاصا للسينما كانت تعرض فيه الأفلام العالمية وتقام فيه الندوات السينمائية، وكان تدور تحت سقف المبنى ـ كما أشار الحمادي ـ نقاشات مثمرة حول هذه الأفلام وحول الأبعاد الثقافية والجمالية للفيلم، وكيفية توظيف القصص وتحويلها إلى حكايات بصرية مشوقة على الشاشة. أرضية متينة أما المخرج ناصر اليعقوبي، فيحيل أسباب تميز الفيلم الذي يتصدى له الشباب السينمائيون في رأس الخيمة إلى وجود أرضية ثقافية متينة ساهمت في وجود همّ حقيقي لتفعيل دور السينما في هذا المشهد الإبداعي العام، موضحا أن الإمكانات البسيطة في بداية العمل السينمائي بالإمارة لم تشكل عائقا أمام السينمائيين للبحث عن منافذ إنتاجية بديلة تدعم هذا الحراك المتواصل والذي رافقه في بداياته ـ كما يقول اليعقوبي ـ الكثير من الجهود الشخصية والتضحيات الذاتية، والتي ساهمت اليوم في بلورة الكيان الناضج والطموح لهذه السينما. وأضاف اليعقوبي إن ظهور مشروع «فيللا سينما» في العام لماضي برأس الخيمة، كان نتاجا لهذا الحماس المتواصل في خلق بيئة مناسبة للسينمائيين في رأس الخيمة كي يتواصلوا تحت مظلة واحدة، وفي مكان بات أشبه بخلية النحل ـ كما وصفه ـ للتباحث والنقاش حول وسائل تنفيذ وتمويل المشاريع السينمائية الجديدة، سواء المشاريع المقدمة من السينمائيين المخضرمين أو من قبل طلبة التقنية. وثمن اليعقوبي دور الشيخ المهندس سالم بن سلطان القاسمي الرئيس الفخري لفيللا سينما الذي يدعم ماديا ومعنويا المشاريع الفيلمية الجديدة، والتي يسعى من خلالها السينمائيون في رأس الخيمة ـ كما أوضح اليعقوبي ـ إلى إيصال أصواتهم وإبداعاتهم إلى متذوقي ومتابعي الفن السابع، سواء في المهرجانات المقامة في الإمارات، أو في المحافل السينمائية الخارجية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©