الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

آباي.. المتأمِّل الحذر

آباي.. المتأمِّل الحذر
26 فبراير 2014 21:20
خيرات لاما شريف** - آباي (إبراهيم) قونانباي شاعر كازاخي عظيم ومفكر ومنوّر وضع أسس الأدب الكتابي الكازاخي القومي. ولد في العاشر من أكتوبر 1845م في عشيرة توبيكته البدوية بمحافظة سيميبالاتينسك الواقعة في جبال جنكيز. تلقى إبراهيم منذ نعومة أظفاره تعليماً أدبياً وإنسانياً عميقاً، فأحب الكتب والشعر متأثراً بوالدته أولجان وجدته زهرة اللتين كان حبهما له مناراً يهديه سواء السبيل. والدته هي التي حورت اسمه إبراهيم وأخذت تسمية آباي للتدليع، خاصة وأن هذه الكلمة تعني بالكازاخية «المتأمل الحذر». وفيما بعد اتخذها الرجل اسماً أدبياً له. بدأ في سن مبكرة يطلع على الأدب الشعبي ويدرس في البيت على يد أحد الملالي، ثم واصل الدراسة في مدرسة الإمام أحمد رضا بمدينة سيميبالاتينسك فأطلع على الأدب العربي والفارسي وقرأ أفضل نتاجات شعراء الشرق مثل الفردوسي ونظامي وسعدي وحافظ الشيرازي ويرهم. وتركت آراؤهم الإنسانية أثراً عميقاً في نفس آباي وفي تكوين آرائه. تراث آباي الفكري شعري تمثله قصائده وملامحه وتراجمه الشعرية الفريدة ونثري يمثله كتاب «الأقوال» ورسائله العميقة. ومن أهم نتاجاته الشعرية ملحمة «مسعود» (1887م) وملحمتا «الإسكندر المقدوني» و«ملحمة العظيم» التي تجسد موقفاً مميزاً من الثقافة الشرقية العريقة. وفي ملحمة «الإسكندر» يستنكر آباي جشع الغازي ويقابله بحكمة العقل المتمثلة في أرسطو. أما «ملحمة العظيم» فهي محاولة أصيلة لمعالجة حبكات الشعر الأدبي الكلاسيكي الشرقي. فيما يعلل آباي في ملحمة «مقصود» ضرورة امتلاك ناصية المعارف. وكان آباي المجدد قد أدخل أشكالاً لم تكن معروفة سابقاً في الشعر الكازاخي. فهو ظل متقيداً بأسس نظم القصيد الكازاخي، إلا أنه تمكن أن يكتشف سبلاً جديدة للاستفادة الواسعة من إمكانيات اللغة الكازاخية الأم. وجعلت قصائد آباي الشعر الكازاخي أكثر غنى من ناحية التنوع في الصياغات والموضوعات. يتميز شعر آباي بأكبر قدر من البساطة التي تقربه من السهل الممتنع إلى جانب روعة الأسلوب الفني الذي يجسد المهارة والتفنن والموهبة الشعرية الأصيلة. وإلى ذلك كان آباي ملحناً لأشعاره وأشعار غيره يتحلى بذوق موسيقي رفيع واطلاع واسع على الموسيقى الشعبية. تراث آباي الذي يمثل قمة في الشعر الكازاخي هائل عظيم. ويحتل مكانة مميزة في هذا التراث كتابه النثري «الأقوال» الذي عرض فيه آراءه الأخلاقية والفلسفية والإسلامية. «كتاب الأقوال» ثمرة التأملات العميقة والإرهاصات المقلقة والطموحات النفسانية النبيلة، الصياغة اللغوية الدقيقة والعبارات البليغة وصدقية الكاتب العميقة ونزعته الإنسانية وطموحاته المتسامية وحكمته المؤثرة كل ذلك يضع «كتاب الأقوال» في مصاف أعظم نتاجات الفكر البشري الأدبية. المضمون الأساسي لـ «كتاب الأقوال» يدور حول تأملات الكاتب عن مغزى الحياة ورسالة الإنسان وعن الشعب المعذب. وكان آباي متيماً بشعبه، ولذا جاءت كلماته تئن بالألم لآلام الشعب في ذلك العصر العصيب. فكان يدعو بحماس شديد إلى التخلص من الذنوب العيوب الموبقات التي تحط من كرامة الإنسان، ويناشد الناس أن يتساموا ويطمحوا إلى ارتقاء ذري الكمال الروحي في المقام الأول. ويطالبهم بأن يسلكوا طريق المعرفة ويمتلكوا ناصية الصنائع والفنون ويأخذوا عن الشعوب الأخرى ما لديها من انجازات في هذه المجالات. فلا يمكن احتلال الموقع اللائق بين شعوب العالم العظيمة إلا عن هذا الطريق. إبداعات آباي قونانباي اليوم ملك للبشرية جمعاء. وهي تخدم قضية نبيلة سامية، قضية التقارب بين الشعوب والحضارات. تراث آباي الذي يفوق التقدير منشور بستين لغة من لغات العالم. فيما يلي مختارات من نصوص آباي قونانباي في كتابه «الأقوال»، وفيها تأملاته عن أحوال شعبه وبلده، في بعد إنساني شامل: القول الأول دخلتُ معترك الحياة وذقت حلوها ومرها. سرت على الدرب طويلاً، حتى بلغت من الكبر عتياً، خائراً منهوك القوى. مللت من متاعب الدنيا وزهدت في ملذاتها. وجدت كل ما فيها زائلاً فانياً عقيماً، وتيقنت من وضاعة الوجود. فيم اشغل نفسي وكيف أعيش بقية عمري؟ أنا حائر لا أجد جواباً يشفي الغليل. هل آخذ زمام القيادة وأحكم في الناس؟ كلا، الناس لا تنصاع لحكم حاكم أو أمر آمر. فليتحمل هذا العبء الثقيل من يرغب في كسب داء عضال، وليضطلع به فتى متحمس لا يزال ساخن الفؤاد. أما أنا فأعوذ بالله من عبء لا طاقة لي به. هل أرعى الماشية؟ كلا، لا جدوى من هذا العمل، فليمارسه الأبناء طالما هم في حاجة إلى الدواب. لن أعكر صفو بقية أيامي في السهر على الماشية من أجل نفع المنتفعين واللصوص والمتسولين. هل أنهل من منابع العلم؟ كيف أبلغها وما من أحد أتجاذب معه أطراف الحديث في العقل والذكاء؟ فلمن أنقل المعارف التي كدستها وممن أسأل عما أجهله؟ ما جدوى المسطرة والفرجار في سهب خال؟ من يشتري بضاعة البزاز في غياب الخياط؟ المعارف تفرز المرارة وتجلب الشيخوخة قبل الأوان، فلن تجد من يشاطرك الأفراح والأتراح. أم أكرس نفسي للعبادة والفقه؟ أخشى ألا أوفق في هذا المحراب. فهو يستوجب الدعة والاستقرار. وأنا لا أعرف الهدوء والاطمئنان لا في البدن ولا في الوجدان. فأي تقوى بين هؤلاء الناس، في هذه الأنحاء؟! أم أسهر على تربية الأطفال؟ أنا عاجز عن هذا العمل أيضاً. بودي أن أربيهم لكنني لا أعرف كيف. ماذا أعلمهم؟ أي حرفة؟ ولأي غرض؟ ولأجل من؟ كيف أرشدهم وأوجههم وأنا لا أرى مجالاً للانتفاع من معارفهم؟ ولا أجد لنفسي منبتاً في هذا البستان. وأخيراً استقر رأيي على رفقة الحبر والورق، لأسجل أفكاري وخواطري وأرتاح. وإن وجد أحد فيها قولاً يغنيه ويرضيه فليسجله أو يحفظه عن ظهر قلب. وإن لم يجد الناس نفعاً في أقوالي وغنى في خواطري فستبقى لي وحدي. ولا شاغل يشغلني عنها بعد الآن. القول الثاني في طفولتي سمعت الكازاخيين يسخرون من الأوزبكيين قائلين: يا من نسيتم محيا الشجاعة المليح ورافقتم الجبن والهلع حتى صرتم تخشون ظلّكم، لماذا تستقبلون القادم بصدر مفتوح وتستغيبونه حالما يروح؟ وعندما يلتقي الكازاخيون التتر يتهكمون عليهم ويلسعونهم بسوط الملامة ملصقين بهم تهمة الخوف من ركوب الإبل وسوء الفروسية والتعب من السير على القدمين بل ولا يبخلون عليهم حتى بنعت البلادة والغباء. ويقول الكازاخيون عن الروس: يا لسذاجة هذه الرؤوس الشقراء، حالما يرى الواحد منهم قرية كازاخية يهرع إليها ناسياً مقومات العقل والرشاد، راغباً في سماع الأراجيف والإشاعات والترهات، مصدقاً كل ما يقال. وفكرت آنذاك بفخر واعتزاز: «الحمد لله، الكازاخ خير أمة أخرجت للناس». شعرت بالارتياح والانشراح لما سمعته الأذن ورأته العين. أما الآن فلا أجد نبتة إلا وهي من غرس الأوزبكيين، ولا أرى صقعاً لم تطأه أقدام الباعة الأوزبكيين ولا تقع يدي على مصنوع إلا وهو من عمل الصناع الأوزبكيين. يعيشون في إلفة ووئام ولا ينشدون الحزازات والخصام. وكانوا، قبل وصول التجار الروس، يزودوننا بثياب الإحياء وأكفان الموتى، ويشترون ماشيتنا بالجملة عندما يتشاجر الابن مع أبيه طمعاً بها. وفي ظل الحكم الروسي بادر الأوزبكيون قبل غيرهم إلى تبني المستجدات والمستحدثات. ولذا تجد بينهم البكوات والوجهاء والملالي وعلماء الدين، وترى عندهم الحذاقة والمهارة والأبهة والوفرة والتأدب والتقوى. وأرى إلى التتر فأجد بينهم جنوداً مغاوير ورجالاً لا يلين لهم عود في مواجهة الصعاب، يتقبلون الموت بهدوء وسكينة، ويحرصون على المدارس والكتاتيب ويلبون داعي الدين ويجيدون الكدح والعمل وكسب الثروة، ويحبون الزينة والثياب ويقبلون على المرح والألعاب بين الرفقة والأصحاب. أما نحن الكازاخيين فنعمل في خدمة بكواتهم وباياتهم بأبخس الأثمان. وهم إذا دخل وجيه منا دارهم طردوه قائلين: «هيه، يا كازاخ، هل كنسنا أرض بيتنا لتدوس عليها بجزمتك الوسخة؟». قوتهم تكمن في إقبالهم على تعلم الحرف والصنائع والكد بلا كلل، فلا يضيعون الوقت جزافاً في النزاعات والمشاحنات المهينة. أما عن الروس المتنورين النبلاء فحدِّث ولا حرج، ولا وجه للمقارنة بيننا وحتى بين خدمهم. كيف تبدد تباهينا وتلاشى زهونا؟ وكيف خفتت ضحكاتنا المرحة؟ القول الثالث لاحظ النابهون الفطناء من زمان أن ضحكة الأحمق كنشوة السكران. السكر يؤدي إلى سوء السلوك، ولا يسفر الكلام مع السكران إلا عن وجع الرأس والأسنان. وعندما ينساق المرء إلى حياة البطر والضحك الفارغ يضيع ضميره ويعتزل الأعمال ويقترف أخطاء لا تغفر، فيتعرض للثأر والانتقام إن لم يكن في الدار الفانية، ففي الآخرة بلا ريب. الإنسان الميّال إلى التأمل والتفكير يلمّ شتات أفكاره دوماً، سواء في شؤون الدنيا أو قبيل المنية. لمّ الشتات في الأفعال والأقوال أساس السلامة والرخاء، فهل يعني ذلك أن علينا أن نفتح صدورنا دوماً للحزن والاكتئاب؟ وهل يجوز للنفس أن تتأسى ولا تذوق طعم المرح والضحك؟ كلا، لا أدعو إلى التأسي دون سبب. ولكن ينبغي أن نفكر في البطر المؤسف الذي يعشش في نفوسنا، ونسعى إلى التخلص منه بالانشغال في علم يعود بالثمار. ما يشفي النفس وينقي الفؤاد هو العمل المثمر الحكيم وليس اللهو الفارغ. ضعاف النفوس ينطوون كالقواقع ويغلقون الأبواب وينغمسون في التأملات والاكتئاب، فلا يجدون سبيلاً إلى السلوى والعزاء. إذا كنت تضحك من حماقة السفيه لا تفرح ولا تتشف لحماقات الآخرين. ينبغي أن يتملكك الغضب، فلن تكثر من الضحك على هذه الصورة. الضحك المؤسف ضحك مرير. أضحك بإعجاب وأفرح بإخلاص إذا رأيت امرؤا امتلك الخيرات وفعل المعروف واجترح مآثر غدت قدوة لمن يقتدي. فالقدوة الحسنة تعلمنا ضبط النفس في الوقت المناسب دون الانسياق وراء نشوة الجذل. ليس كل الضحك يحظى بالاستحسان. فمن الضحك ما لا يصدر عن الفؤاد بالسبيل الذي مهده الله، بل يكركر بطنين فارغ لغرض واحد هو القهقهة الرنّانة. يولد الإنسان في هذه الدنيا باكياً ويغادرها آسياً. وفي الفاصل بين هذين الحادثين يخفق في تذوق السعادة الحقيقية ويقصر عن ادراك قيمة الحياة التي وهبها له الخالق. فلا يقدرها حق قدرها، ويهدرها بطيش وجنون في خلافات مهينة ومجادلات لا تليق بكرامته. ولا ينتبه على نفسه إلا بعد فوات الأوان حين تشرف الحياة على نهايتها. وعند ذاك يدرك أن كل كنوز العالم لا تسوى شروى نقير ولا تسعفه في إطالة عمره يوماً واحداً. القول الرابع الكآبة تعكر صفو النفوس وتشل الأبدان وتقيد الحرية وتجري في آخر الأمر ألفاظاً من الأفواه أو تسيل دموعاً من المآقي. رأيت أناساً يبتهلون إلى المولى سائلين: «اللهم أجْلُ عنا الغمّة وامنحنا خلو البال كالأطفال». يتصورون أنفسهم مظلومين مثقلين بالمشاغل والهموم والمصائب، وكأنما هم أكثر حكمة من الأطفال، في حين تفصح حكمهم وأقوالهم المأثورة عن حقيقة تلك المشاغل والهموم: «إذا كان مقدراً لك أن تعيش حتى الظهر زود نفسك باحتياطي يكفيك حتى العصر». «بالنسبة للفقير حتى الأب يغدو غريباً». «ماشية الكازاخي من لحمه ودمه». «وجه الغني صبوح ووجه الفقير كالجلمود». «الفارس كالذئب يكسب طعامه في الطريق». «جموع الرجال الموقرين تشغل مراتبها بين الناس وتحرص على خيراتها من التبذير والبطر». «اليد التي تجيد الكسب تجيد العطاء». «الحق حليف الأثرياء»، «واهب الخيرات ينزع ستار الاستلاب»، «إذا انعدم الأمل في الوجهاء لا تأمل في معونة الخالق». «إذا كنت جائعاً تردد على المآتم»، «احذر البركة العميقة والجماعة القاسية القلوب». وما أكثر هذا النوع من الحكم والأمثال. فعم تتحدث يا ترى؟ لا يعني الكازاخي بالعلم والمعرفة، ولا بالوئام والعدل، كل ما يريده هو الثراء، لكنه لا يعرف السبيل إليه، ولذا يتحايل ويتفنن في اجتذاب الثروة من الغير بالتزلف على الأقل، وأن أخفق تراه يضمر العداء الشديد للدنيا وما فيها. ولا يستكنف عن تجريد أبيه من آخر ما لديه، ولا يرى في ذلك عاراً أو شناراً. والناس لا يستنكرون سلوك الذين يستأثرون بماشية الغير بالتضليل والدناءة والابتزاز والسلب والنهب وما إلى ذلك من فنون التحايل والخداع. فما الفرق بين عقولهم وعقول الأطفال؟ الأطفال يخشون الموقد المستعر، أم الكبار فلا يرهبهم لظى السعير. الأطفال يشعرون بالخجل والحياء، أما الكبار فلا يعرفون الخجل على الاطلاق. فهل يتفوقون على الأطفال في هذه المزية؟ لو لم نعطكهم ما نملك ولم نسمح لهم بتبذير ما يملكون، ولو لم نهبط إلى دركهم ومستواهم لأشاحوا عنا بوجوههم. كل هذا ونحن نميل إليهم ونهواهم من صميم الفؤاد. القول الخامس تقول حكمة كازاخية: «الوحدة بداية النجاح والحياة أصل الرخاء». لكن الكازاخيين لا يعرفون قوماً أجمعوا على وحدة الكلمة، ولا يدرون كيف يبلغ الناس الوفاق والوئام. إنهم يتصورون ذلك في اجتماع الماشية والأموال والطعام. وإذا كان الأمر كذلك فما جدوى الثراء وما ضرر الفاقة؟ وهل للكدح من أجل الثروة معنى بدون التخلص مسبقاً من الأهل والأقرباء؟ كلا، الوحدة في اجتماع الكلمة، وليس في اجتماع الأموال. يمكن توحيد أناس متباينين من حيث المنشأ والأخلاق والدين بإغداق الماشية عليهم بسخاء. ولكن بلوغ الوحدة بثمن كالماشية هو بداية فساد الأخلاق. فالأخوة يجب أن يعيشوا في وئام لا لأنهم في تبعية لبعضهم البعض، بل لأنهم يعولون على قدراتهم وقواتهم ويعلق كل منهم آماله على مصيره الشخصي. وألا ينسون الخالق ولا يعيرون بالاً للعمل، ويسعون للإساءة إلى بعضهم البعض. يغوصون في الأحقاد والضغائن ويفترون أحدهم على الآخر وينشغلون بالخداع والتضليل. فكيف يبلغون الوحدة في هذا الحال؟ «الحياة أصل الرخاء». ما المقصود من تلك الحياة؟ هل هي مجرد الوجود كي لا تفارق الروح البدن؟ هذا الوجود متوفر وموجود حتى عند الكلاب. من يعتز بمثل هذه الحياة يرتعد هلعاً أمام الموت ويكره الآخرة. يفر من العدو هارباً بجلده جباناً مجللاً بالعار، يتهرب من العمل متوانياً كسولاً، ويدير ظهره للرخاء الحقيقي والثروة الحقة. كلا، ليس هذا هو المقصود من تلك الحياة، المقصود بها حياة الروح وصفاء العقل. اذا كنت حياً وروحك ميتة لن تبلغ كلمةُ العقل مكمن وعيك، ولن تتمكن من كسب لقمة العيش بالكد النزيه. الكول الكذاب والطفيلي المهذار شجاع بمظهره، جبان بمخبره، ولا يعرف للخجل سبيلاً. إذا كنت على هذه الصورة لا تحسب نفسك من الأحياء، فالموت بورع وتقوى أفضل من حياة كهذه. القول السادس يولد الطفل في هذه الدنيا وارثاً غريزتين. الأولى رغبته في الأكل والشرب والنوم. تلك حاجة البدن، بدونها لا يقوى أن يكون ملاذاً للروح، ولا ينمو ويترعرع. والثانية هي النزوع إلى المعرفة. الرضيع يتوق إلى الأشياء الساطعة الصارخة، يدسها في فمه، يتذوقها، يضعها على خده، ينتفض عندما يسمع صوت الناي والمزمار. وعندما يكبر قليلاً يهرع على نباح الكلب وأصوات الدواب وضحك الناس وبكائهم، ويفارقه الهدوء ويضطرب ويسأل عن كل ما تراه العين وتسمعه الأذن: «ما هذا؟ ولماذا؟. تلك هي حاجة الروح والفؤاد، تلك هي الرغبة في رؤية كل شيء وسماعه والتعود عليه والتعلم منه. لن يغدو الإنسان إنساناً إلا بعد أن يكتشف أسرار الكون الظاهرة والخفية، المرئية والمستورة، ويستوضح كل الأمور والأشياء. وإن لم يفعل لن تختلف كينونته عما هب ودب. لقد ميّز الله الإنسان عن الحيوان من البداية بأن منحه الروح والعقل والفؤاد. فلماذا لا ننشد، عندما نكبر ونكتسب المزيد من الذكاء والفطنة، ولا نجد اللذة التي كنا في عهد الطفولة نجدها في حب الاستطلاع الذي يلهينا عن الطعام والمنام؟ لماذا لا نسلك سبيل التواقين إلى المعرفة؟ ليتنا نوسع بلا كلل أفق اهتماماتنا ودائرة معارفنا التي تغذي الأفئدة والعقول. ليتنا ندرك أن مصلحة الروح أسمى بما لا يقاس من مصلحة البدن، فنجعل حاجات البدن خاضعة لإرادة الروح. وللأسف لم نفعل ذلك. كنا نتصايح ونزعق فلم نتزحزح إلى أبعد من كومة الروث في طرف القرية. كانت الروح تتحكم فينا في عهد الطفولة فقط. وعندما ترعرعنا وكبرنا لم نسمح لها أن توجه تصرفاتنا. لقد أخضعنا الروح للبدن، وصرنا ننظر إلى كل ما حوالينا بالعين وليس بالعقل، ولم نعد نثق بخلجات الفؤاد. نكتفي بالمظهر الخارجي لما تبصره العين ولا نجهد أنفسنا للتعمق في الأسرار الكامنة متصورين أننا لن نضيع شيئاً يستحق الاهتمام بسبب هذا الجهل المطبق. ونرد على نصيحة الناصح قائلين: «عش كما يحلو لك، أما أنا فأعيش قدر ما أستطيع»، «الفقير بعقله أغنى من الغني بعقل الغير». نحن عاجزون عن تقدير حكمة الناصحين ولا نفهم ما يقولون. لا شرارة في الفؤاد ولا إيمان في النفس، فما الفرق بيننا وبين الدواب إذا كنا نرى بالعين وحدها؟ كنا في الطفولة أفضل مما نحن عليه الآن. كنا أطفالاً آدميين، نسعى إلى معرفة المزيد. أما الآن فنحن أسوأ من الدواب. الدابة لا تعرف شيئاً، ولا تطمح إلى شيء، ونحن لا نعرف شيئاً، ولكننا نجادل حتى تبح أصواتنا دفاعاً عن جهالتنا، مدعين أن جهلنا هو عين المعرفة والصواب. القول السابع الناس يبتهلون إلى الخالق عز وجل كي يهبهم ذرية وأطفالاً. ما حاجة المرء إلى الطفل؟ إنه يريد وريثاً، يريد من الابن أن يعيل والديه في الشيخوخة ويقيم الصلاة على روحهما بعد الممات. فهل هذا كل ما يريده؟ ما الغرض من الوريث؟ بسبب خوفك من بقاء التركة دون مالك بعد الموت؟ أيجدر بك أن تحزن لما يبقى بعد غيابك؟ أم أنك تشفق على تركها لغيرك؟ وهل كنزت ثروة طائلة حتى تشفق وتأسف عليها إلى هذا الحد؟ الولد الطيب فرحة وبشرى والولد الرديء عبء ثقيل. فمن يدري أي طفل يمنحك الله عز وجل؟ وهل كانت الإهانات التي تحملتها طول عمرك قليلة منقوصة؟ وهل كانت المساوئ التي جنيت قليلة منقوصة؟ فلهذا ترغب في ميلاد طفل تُربّيه على الدناءة والإساءة وتحكم عليه بنفس الإهانات التي ذقت طعمها؟ أتريد لابنك أن يقيم الصلاة على روحك بعد الممات؟ إذا كنت عملت المعروف ونهيت عن المنكر في حياتك فمن لا يقيم الصلاة عليك بعد الممات؟ ولكن إذا كنت لم تفعل سوى المساوئ والشرور فما نفع صلوات ابنك؟ وهل يفعل الحسنات التي قصرت أنت عن فعلها؟ إذا كنت تريد الطفل لأفراح الآخرة فأنت ترغب في موته في سن مبكرة. وإذا كنت تريده لأفراح الدنيا فأين رأيت كازاخيا يلد ابناً يحنو على أبويه عندما ينمو ويكبر، ويحميهما من العذاب؟ وهل تستطيع أمتك، وهل تستطيع أنت أن تربي ابناً من هذا الطراز؟ أتريد له أن يعيلك عندما تبلغ من الكبر عتيا؟ هيهات. لا أحد يعلم هل ستبلغ من الكبر عتيا أم تسلم الروح قبل ذلك الأوان؟ وهل يكبر ابنك مشبعاً بالرأفة والرحمة حتى يسهر عليك في الشيخوخة؟ إذا كنت تملك ماشية سيسهر عليك الكثيرون. وإذا كنت لا تملكها فلا أحد يعلم من سيعيلك وكيف. ولا أحد يعلم هل سيجهد ابنك في مضاعفة خيراتك أم يبذرها. طيب. لنفترض أن الخالق تكرم عليك فوهبك ابناً. فهل أنت قادر على توفير التربية الجيدة له؟ كلام. سضيف إلى خطاياك الكثيرة خطايا ابنك. من أيام العمر الأولى ستخدع ابنك واعداً إياه بكيت وكيت. وستشعر بالارتياح لتمكنك من خداعه. على من تنحي باللائمة عندما يكبر على الكذب والرياء؟ تعلمه بذاءة الكلام وشتم الناس، وتدافع عنه في كل المناسبات «لا تمسوا هذا العنيد»، وتتغاضى عن طيشه. وعندما ترسله إلى الكتّاب تبحث عن الملا الذي يتقاضى أقل الأجور، وتكتفي بتعليمه القراءة والكتابة، وتعلمه التحايل والدناءة، وتغرس في فؤاده الارتياب بالأتراب وتعوده على عادات السوء. أتلك هي التربية؟ وهل تتوقع الرحمة من صبي كهذا؟ يتوسل الناس إلى الخالق عز وجل أن يهبهم المال. فما حاجة المرء إلى المال؟ أم تتوسل إلى الله؟ أجل، توسّلت إليه، ومنحك ما لا ترغب به. وهبك القوة لكي تكد وتكدح وتكسب. فهل تنفق قواك في العمل النزيه؟ كلا. وهبك الله القوة لتتعلم، ومنحك العقل والقدرة على استيعاب العلوم، ولكن لا أحد يدري علام أنفقت تلك القوة والطاقات. فمن يخفق في كسب الثروة إذا كد بلا كسل وكدح بلا ونى وأبدع في فطنة وذكاء؟ لكنك لا تريد هذه الأمور. أنت تريد كسب المال بتخويف الآخرين وتضليلهم وابتزازهم. فهل هذا ابتهال؟ إنه نهب وسلب وابتزاز. إنه من قبيل ما يفعله الذين باعوا الضمير وضيعوا الشرف. ولنفترض أنك كسبت الماشية بهذه الصورة. فلماذا لا تستفيد منها في توفير التعليم لابنك على الأقل؟ لا خير ولا إيمان بدون التعليم. ولا تبلغ الصلاة والصيام والحج غاياتها بدون المعرفة. ولم أر في حياتي شخصاً كسب الثروة بالنهب والسلب وأنفقها في سبيل الله، فالكسب الحرام ينفق على المحرمات. ولا يبقى من تلك الثروة أثر سوى مرارة الخيبة والحقد والأضغان. وعندما يرى المرء المال في حوزته يتباهى به ويصعر خده. وعندما ينفقه ويبدده يتباهى بأنه كان غنياً في زمن ما. وعندما يلم به الفقر والإملاق يهبط إلى مستوى الشحاذة والاستجداء. سفير جمهورية كازاخستان في دولة الإمارات العربية المتحدة*
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©