الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

في مديح الكتاب المستعمل

في مديح الكتاب المستعمل
4 مارس 2014 09:15
يُنظر إلى الكتاب المستعمل بريبة مستفزة، بشبهة أكيدة، كما لو كان أنثى فقدت عذريتها. امرأة مطلقة بالأحرى، أو مومساً خاضت معترك الشارع الخلفي للحياة في أبهى الأحوال. الكتاب المستعمل عرضه منتهك، وآثار تعنيفه واغتصابه موشومة كندوب وكدمات وبثور على جلده. فصفحاته مبتورة في الغالب، والأنكى أن يطال البتر الشامت منطقة مركزية من متنه يقف عليها فهم سر تجربته، أو فك لغزية كتابته في المجمل. هذه الأضلاع المبتورة من الكتاب المستعمل تجعل القارئ مثل محقق بوليسي عليه أن يتحرى بقرائنه الخاصة لا ليكشف جريمة فقدان الصفحة، بل ليكمل بتخييله وحدوسه واحتمالية تخميناته وفرضياته الجزء الفارغ المنتصب كثقب أسود في الكتاب. لا يتوقع الكُتّاب أن تتعرض كتبهم لهكذا مصائر مأساوية. فتتحول كتاباتهم ضمن سيرورات إلى شيء نقيض. تصير الكتابة وهي منخرطة في أفق مضاعف لعبة يتجشم القارئ عناء النبش في هوامش حكايتها الطارئة وحواشي ما آلت إليه في غمرة قسوة تحولاتها. ويصير القارئ وفق ذلك كاتباً ثانياً ومضاعفاً أيضاً. الكتاب المضرّج في صورة ثانية، تجد الكتاب المستعمل مضرجاً بمرق أو دم أو حبر أو بنزين أو سائل غامض مشبوه... كدليل على أن قارئه السابق عامله بإهمال وزحزحه إلى مستنقعات خطر التلوث وزج به في أمكنة رخيصة فكان عرضة للطخات دمغت ورقه... هذه اللطخات التي تبقّع الكتاب المستعمل ليست مذمومة دائماً، فبحسب طبيعة الكتاب وهويته وجنسيته الأدبية، تصير اللطخات بقدرة قادر قيمة مضافة تغني عمق تجربة الكتاب خاصة إذا ما كان كتاباً عنيفاً وغريباً وصادماً. أي نعم أهمله القراء السابقون ولم يصونوا عرضه من الأذى، غير أن مصاحبته لهم في طقوس أكلهم وأطوار أخرى من عملهم اليومي، دليل على غواية صحبته لهم وعلى قوة أواصر صداقتهم له أيضاً. وغواية قراءته فرضت أن يواصلوا قراءته حتى ضمن أوقات انشغالهم المكرهة. ليس كل القراء طبعاً، فإهمال سافر كذلك يمكن أن يكون طبعاً إهمالاً صرفاً لا علاقة له بغواية القراءة، وإنما تقاذفته الأيادي والأقدام كما لو أنها تتقاذف جثة حيوان نافق. لتاريخ استعمال الكتاب فضيلة أخرى، تتعلق بقيمة المتعة المترسبة فيه، فمن فرط امتلاكه ومن شدة سفره وترحاله بين أكثر من شخص، وبفعل قضائه شطراً كبيراً من عمره في رفقة آخرين، يفقد طراوته، عنفوانه، ألقه، وشبابه، ويصير كما لو أن المتعة الكامنة فيه قد نضب معينها، أو استنزف منجم معادنها... كل هذا ينتاب القارئ الأخير الذي اصطاده أو حصل عليه، غير أن هذه المثالب والمواصفات العابسة ما تني تتغير وتتحول وتؤول إلى النقيض، فتصير محرضاً ومحفزاً، فثمة أسرار ثاوية في عتمات لم يسبق لها أن كشفت، وثمة مناطق مجهولة لم تتجاسر عليها مخيلة القراء السابقين، وثمة ألغاز تدخرها جهات منسية، وكل هذه العلامات الغامضة والمغناج تبهج قارئه الجديد وتحرضه على مغامرة جسورة في أقاصي الكتاب المبهمة، حتى ينتزع لذة لم يسبق لمن استعملوا الكتاب أن ظفروا بها، وكي تتحقق له متعة اكتشافات خاصة به وحده لم يسبق أيضاً لمن امتلكوا الكتاب أن حظوا بمثلها. وإلا لماذا فرطوا في قيمة الكتاب واسترخصوا ألفة بقائه معهم إلى الأبد. سفر الكتاب إذن بين أكثر من شخص وهو يوزع هبات المتعة بدرجات متفاوتة، يضاعف من غواية اكتشافه واستغوار طبقاته الحكائية والمعرفية. عكس من يرى فيه مجرد خرقة من فرط استنزاف ثروة جماله. جماله إذن سري لا ينضب، ويحتاج إلى خارطة مغامرة لاكتشاف كنزه الخفي باستمرار... لا بد أن حسرة دامغة تعتري قارئين فرطوا في كتب ملعونة، ثمة كتب نفقدها كما لو أننا نفقد أصدقاء أو أقرباء لا يمكن الاستغناء عن ضرورة حضورهم العاتي. كتب تختفي تحت ضغط إكراهات لقيطة. وحين تصير في ملكية الآخرين نمني النفس بأن يثمنوا قيمة ما سقط بين أيديهم ويحسنوا معاشرة هذا المخلوق الرمزي الغريب: الكتاب. الكتاب المستعمل في سيرورة تحولاته، لا يصير محتفظاً بالنص الأصلي لمؤلفه، ثمة كتب مستعملة تجد نصوصاً إضافية مسطرة على هوامش متونها الأصلية، كأن تلفى ملاحظات مكتوبة بقلم الرصاص أو الحبر وخطوطاً مسطرة تحت سطور فقرات بعينها كما لو كانت المناطق الأخطر التي تدخر معنى الكتاب. وحين تمعن النظر في الفقرات المسطرة لا تجد أي أثر لخطورة المعنى التي قدرها القارئ السابق، وتجدها كامنة في فقرات أخرى منفلتة لم تقف عندها بصيرته. أما الملاحظات المدبجة كطلاسم في الهوامش فتصير نصوصاً موازية للكتاب مهما كانت غير مقروءة وغامضة، فجماليتها دامغة كرسوم غامضة تحتفي بالكتابة وتفسرها وإن أخطأت القراءة والفهم والتفسير والتأويل. فيصير الكتاب مضاعفاً غير طبيعته البريئة الأولى، وتتضاعف غواية قراءته لأنه حظي أولاً بعناء التفسير المحبر على حواشيه وهو ما استغرق زمناً واستهلك طاقة، وثانياً لإمكانية تحبيره من جديد بملاحظات أخرى غير ملاحظة القارئ السابق، ليصير وفق ذلك غابة شائكة المداخل والمخارج. الرائحة والرطوبة ما ينفر القارئ من الكتاب المستعمل هو رائحته، رطوبته وطروس الغبار التي تعتمره، لكن اهتراءه هذا وتجذر العتاقة في أوصاله، يذكي حساً مثيراً بالمقابل، فالكتاب المنقوع وكريه الرائحة يشبه جثة نبش عليها في قبر، جثة مخلوق دفن حياً وبعض الحياة لا يزال يدب في ورقة من وريقاته إن عثر عليها القارئ يمكن أن تعيد الحياة لكل الكتاب. روائح الكتاب المستعمل تومئ باحتطابه لدفء الكائنات التي صاحبته، فهي موجز رائحة قراءته في المجمل، وهو لذلك مخضرم ينفرد بحكمة العتاقة ويختص بسر الأسرار، سر الزمن. هناك كتب مستعملة فاقدة للغلاف، بل وحتى العناوين، واسم المؤلف، كتب مجهولة تماماً تتيح للقارئ مجازفة أثيرة، وتفخخ رحلة قراءته بكمائن مرغوبة يحدق بها في انتشاء خاص، ولذة جسورة تستدرجه نحو حافة النص. القارئ هنا كما لو زج به في متاهة، على حدوسه أن تكون يقظة تماماً، وعلى خبراته أن تكون متوقدة حتى يتعرف على رائحة الأسلوب، ويصيب في كشف اسم الكاتب اللامعلوم، بل واستبيان العنوان وتخيل حتى لوحة الكتاب... كل كتاب مستعمل هو كتاب مضاعف، فمخيلة القارئ لا تني تستعرض سيرورة ترحاله بين القراء السابقين. سفره بين المكتبات والخزانات والمدن. ألم معاشراته لشخوص ومتعة رفقته لشخوص آخرين. الهبات الجليلة التي وفرها لكائنات والمآسي التي كان طرفاً فيها لكائنات أخرى. كل الوجوه التي خاضت قراءة الكتاب المستعمل، أو نظرت إليه بشكل عابر، تندلق من مراياه لحظة قراءته، تندلق مثل نهر أطياف تستشري في ذهن قارئه الجديد... وملمس الكتاب في صورة من الصور هو نفسه تلمس تلك الوجوه والأيادي التي تصفحته وأمسكت به وداعبته... تلك تمتمة هاجستني حول الكتاب المستعمل وقيمته وغوايته، الكتاب المستعمل الذي ينتصب في خلفية التجربة كشبح رسم أفقاً للمغامرة والمعنى، فكان شطراً خصيباً ومركزياً لأسرار هذه التجربة والمجازفة... تمتمة جنحت بسديميتها إلى هذه الضفاف المزبدة، ولم أتقصد أبداً أن تكون مديحاً...
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©