الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

في يدٌ إلهية للمخرج الفلسطيني إيليا سليمان:

في يدٌ إلهية للمخرج الفلسطيني إيليا سليمان:
14 يناير 2009 00:30
بعد انتاجه وعرضه العام ،2001 ترى المشاهد عينها تتكرّر على أرض الواقع، على الرغم من أن فيلم ''يدٌ إلهية'' للمخرج الفلسطيني إيليا سليمان ساخر متهكّم مرمّز إلى أبعد حدود في غالبيته، وقليلة تلك الرمزية المبرّرة التي تمرّ في مشاهد قصيرة مفاجئة وغير متوقّعة ككلّ المشاهد تقريباً· ففي حين تجد العنف والدم على أرض الواقع، فالفيلم عبارة عن مشاهد قهر داخلي غير ملوّن، فحتى الدموع فيه هي الوحيدة المبرّرة حين يكون الممثّل ايليا سليمان يقطّع بصلة· لكأن الدمع كان يحتاج إلى مبرّر ما كي ينطلق عفواً متخطياً أقصى حدود الألم في عمقه، متفجراً بصمت لكأن الكلام لا ينفع، أو أنه لم يعد ينفع· فيلم حواري روائي بالدرجة الأولى من دون حوار، من دون سيناريو للعبارات، فقليلة لا بل نادرة المحادثات التي تمرّ، لأن الزمن زمن انتظار عبثي ومملّ ورتيب، لكأنه انتظار ميّت لإعلان موته علناً· هكذا تمرّ مشاهد لشخصيات متعدّدة ترسم حياة الناصرة، حياة الانتظار تحت الاحتلال، لا تغيير فيها ولا تحوّل، حركات تتكرّر، جيرة يشوبها قلق غير معبّر عنه سوى بالرتابة، فهو القلق الأكبر، هو المشاهد المضحكة المبكية··· هي الناصرة وليست الناصرة، التي يبتدئ الفيلم بها، حيث رجل يلبس رداء بابا نويل ''جورج ابراهيم'' ويحمل سلّة هدايا، يركض لاهثاً صعوداً في التلة ليصل إلى القمة وخلفه يلهث ملاحقاً له من دون كلل ثلّة من الشباب، لنجد حين يقف ويستدير أنه مطعون في صدره بسكين، غير أن الدماء شبه دماء، لا تلوّث قميصه الأبيض وكأنها طعنة رمزية من الصعب تفسيرها بهذه البساطة بالرغم من وضوحها· الممثل إيليا سليمان فتى يعيش في القدس والممثلة منال خضر فتاة تعيش في رام الله، والشخصيتان تلتقيان في سيارة على نقطة تفتيش اسرائيلية - حاجز الرام-، وبصمت تلتقي أيديهما، وتتفتح عيناهما على مشاهد الذل والعنف والألم التي يعاني منها كل فلسطيني يريد المرور إلى القدس· سيارة اسعاف للهلال الأحمر تتعرّض للتفتيش والانتظار، وسيارات اسرائيلية تمرّ من دون الوقوف على الحاجز··· قرار اغلاق الحاجز، تعمّد إذلال الناس··· وأمام كل ذلك تبلغ الرمزية بسخريتها حدّها الأقصى حيث تمرّ منال كأنها خارجة من إعلان تلفزيوني بسيرها وتعبر الحاجز أمام دهشة الجنود الذين لا يعرفون ماذا يفعلون· وبعد مرورها ينهار برج المراقبة، وليست صدفة لأنه إعلان تمرّ فيه فتاة جميلة تعقد لسان الجنود وتذهلهم· ويحتشد الرمز أيضاً حين يقود إيليا سليمان سيارته فيأكل فاكهة مشمش ويرمي عجوتها على دبابة اسرائيلية، فتنفجر وهو متابع لقيادته السيارة بشكل عادي··· إعلان آخر··· دعاية أخرى لا مقدمة ولا نهاية لها··· منال تختفي من لقاءات الحاجز مع ايليا لكنها تتحوّل إلى المرأة المقنّعة الخارقة··· تخرج من الـ ''بلاي ستايشين'' بشخصية تشبه شخصيات المحاربين المقنعين في الألعاب الالكترونية، فتربح المعركة في مشهد آكشن غير واقعي· يموت والد إيليا بجلطة إثر فقدانه لسيارته ومنزله وأدوات مهنته، وهو حدّاد، على مراحل وبالأوراق الرسمية، نتيجة عدم تمكّنه من دفع الضرائب أو لسبب ما، فلا حوار يفسّر الأحداث، فقط الصمت المشحون والانتظار وتكرار مشاهد لحياة تفتقد الأمل··· لا يبكي إيليا إلا وهو يقطّع بصلة في المطبخ، حجّته للانفجار، للتعبير عمّا يعتمل في داخله من ألم··· يبكي حبّه المرهون بحاجز، يبكي اختفاء حبيبته التي تتحوّل إلى شخصية وهمية تخرج من فيلم أو لعبة الكترونية··· مشهد يفسّر كيف يعتمل الصراع داخله وكيف يعبّر عنه، على إشارة حمراء يضع شريطاً غنائياً باللغة الانجليزية ليمرّر رسالة إلى الذي احتلّ أرضه في السيارة الثانية، المدني الملتبس بهويته المدنية، مع العلم الإسرائيلي على سيارته، وقبعته التي تدلّ على ديانته· لا العبرية ولا العربية، اللغة الانجليزية كانت سبيل إيليا سليمان لايصال صوته، لإقامة تحد أو حوار، فالحال متأرجح وثمة الكثير من اللا مبرّر له وغير المفهوم··· وينتهي الفيلم بمشهد مؤثر فيه عبارات خفيفة تدخلك أكثر بالعالم الرمزي، والدته تجلس إلى جانبه على الكنبة وطنجرة الضغط على النار ينفذ منها الهواء الساخن المضغوط، فتسأله والدته أن يطفئ النار عبر قولها إنه يكفيها كأن يكفي الطعام هذا الضغط فقد استوى، لكأنها حياة الفلسطينيين المضغوطة، لكن إيليا لا يتحرّك لإطفاء النار ولم يصدر بعد عن طنجرة الضغط الصفير، فهل هي حال من الانتظار العبثي كحال سكان القدس والناصرة الحزينة الرتيبة؟ لا يقدّم ايليا أية أجوبة ولا يطرح أي خطاب ولا يحاول صناعة نقاش، لأن المشاهد تتكلّم وإن غاب عنها الحوار، تتصاعد وتيرتها الدرامية من دون حدث معيّن من الممكن التأريخ له أو جعله بمثابة العقدة· لا ايديولوجياً ولا شيء، ما خلا نفخه لبالون عليه صورة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات واطلاقه في الجو فيدخل البالون مدينة القدس متخطياً الحاجز··· وفي هذا المشهد رمزية قد تتعدّد تفسيراتها ولكنها تبدو ككل الفيلم رمزية لا تنشد اتخاذ مواقف سياسية، هو الانسان الفلسطيني بكل ما يعانيه··· فلسطيني اكتفى من تعليب قضيته فقادها إلى مستوى فني واقعي وخيالي في آن، ناقد للذات وناقد للظروف المحيطة، متألم وساخر، متهكّم وعبثي، قصص غير مترابطة يربطها زمن وجغرافيا وتوحيد في المعاناة، زمن متقدّم تكنولوجياً ولم يبق إلا الصمت مع ايليا، الصمت القاتل للتعبير، صرخته مركّزة داخلياً كاستغاثة لقدرة غير انسانية، ليد إلهية تتدخل لإنهاء هذا العذاب وهذه العبثية القاتلة حيث تحول الانسان إلى مجرد منتظر للا شيء ، كما ''في انتظار غودو'' لصامويل بيكيت، غودو الذي لا يأتي··· غير أن هناك رسالة تشير إلى امكانية الانفجار في لحظة ما، ولكن على ايليا ابقاء طنجرة الضغط أكثر على النار، أو أن الحياة في الداخل تشبه الطنجرة، وثمة متنفس متقطع للبخار الهادر وربما تنفجر من كثرة الضغط· فلكل مشهد أكثر من تأويل وأكثر من فكرة، ولربما هذا ما ميّز الفيلم وأكسبه بجدارة عدة جوائز عالمية، منها العام ،2002 جائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان السينمائي، وجائزة ''سكرين'' العالمية في مهرجان السينما الأوروبية لفيلم غير أوروبي· غير أن ترشيح النقاد لفيلم ''يد إلهية'' للأوسكار ضمن فئة أفضل الأفلام الأجنبية العام 2003 كان مشهداً إضافياً للفيلم، حيث أن مؤسسة هوليوود رفضت ترشيح الفيلم بدعوة أنه ليس هناك دولة تدعى فلسطين وليس من الممكن ترشيح فيلم لا ينتمي إلى دولة معترف بها· وكان المخرج ايليا سليمان الذي ولد في الناصرة العام ،1960 قد نال جائزة أحسن فيلم العام 1996 عن أول أفلامه ''دليل الاختفاء''، وذلك في مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي في ايطاليا· ويذكر أن فيلم ''يد إلهية'' أنجز بمقدرات بسيطة جداً سينمائياً وتمكّن من فرض تميّزه من الجانب الفني بمستوى عالٍ جداً نسبة إلى المستوى العالمي في صناعة السينما· الفيلم انتاج مشترك فرنسي، فلسطيني، مغربي وألماني· مدّته ساعة و32 دقيقة· الفيلم عائلي بامتياز ومن المفيد حضوره عدة مرات للراغبين في التعمّق بجوانبه الفنية التقنية والفكرية· لا يحتوي على مشاهد العنف بجانبها الدموي على الرغم من حضورها بقوة على ساحة الواقع، ولكنّه يظهّر قوة العنف الممارس على الشعب الفلسطيني في مشاهد بسيطة صامتة ومؤثرة· تعابير الوجوه والصمت كانت كلها مجتمعة أقوى وأبلغ من أي حوار أو سرد أو تجارب لصناعة فيلم مكتمل العناصر الدرامية والتي تبحث عن بداية وعقدة وحل ونهاية
المصدر: أبوظبي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©