السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الساخرون

الساخرون
20 ابريل 2008 00:16
كنت جالسا في المنزل، الجو عادي هادئ، فلا جديد يهز جلوسي الصامت لدرجة أن الملل بدأ يدب في أطرافي ولم يكن هناك من حل سوى التقاط جهاز الريموت كنترول حتى لا أدخل في دوامة من التفكير بعد نظرة خاطفة على ''الكراكيب الشخصية'' المتراكمة في نفسي أو الذاكرة المأساوية لتلك الكرة التي تعلو جسدي ويطلق عليها علماء التشريح في العصور القديمة والحديثة كلمة مبسطة جدا هي: الرأس!· والحق، كان اللجوء للريموت حلا عظيما مع أنه يتكرر كل يوم، ولكني كنت محظوظا هذه المرة، فقد فتحت التلفزيون المبرمج لبدء العمل على آخر محطة تمت مشاهدتها، فظهر أمام وجهي مسلسل عربي، ولكن لله الحمد والشكر من قبل ومن بعد، فقد صادفت المسلسل في نهايته وتحديدا في آخر لقطة من الحلقة، حيث تم تثبيت الكادر لتجميد التعبير على وجه الممثلة، وانطلقت الموسيقى فبدأت أسماء الممثلين والفنيين في الظهور، وعلى الرغم من أن ''تترات'' نهاية مسلسلات هذه الأيام لا تشبه شيئا سوى دليل الهاتف عبر تقديم الشكر والامتنان لكل الجهات التي ساعدت في إنتاج وتصوير المسلسل، فلا يبقى اسم مطعم أو بوتيك ملابس أو صالون أو مول أو محل عطور أو مقهى أو مدرسة أو روضة أطفال أو مؤسسة أو مستشفى أو شركة أو وزارة أو حتى بقالة، إلا وظهرت في سلسلة مسلسلة أمامك·! رغم كل ذلك ابتهجت وتهللت وشعرت بفرحة غامرة فقد منَّ عليّ الخالق بهذه اللحظة الرائعة التي وفرت علي الكآبة والشعور بالضيق الناتج عن نكد المسلسلات الذي له أول وليس له آخر، وحماني من خفّة ظل ممثلي هذه الأيام التي تهد الجبال، ولغة الحوارات والأحاديث التافهة التي تجعل المشاهد يشعر بالتفوق والرقي تجاهها مهما كان تعليمه بسيطا، ناهيك عن تكرار الموضوعات، وهو تكرار لا يعلم الشطّار فحسب، ولكنه (يعلّم) بوضوح علامة الرقم (11) على جبين حتى الميت الذي انتقل إلى رحمة الله، لو قاموا مثلا بوضعه أمام شاشة التلفزيون بدلا من الذهاب به إلى المقبرة مباشرة ليشهد عذابا دنيويا أشد من عذاب القبر، الذي نسأل الله العلي القدير أن يخفف عنا ويقينا وإياكم منه· لكن فرحتي لم تطل كثيرا فقد عاجلتني المحطة إياها بطعنة فاصل إعلاني يقول: ''ابقوا معنا، التالي المسلسل الخليجي، ''دموع في عدسات لاصقة''·!! فقلت في نفسي: ''يا إلهي، أخرج من مصيبة فأقع في طامة أكبر وألعن، مرة أخرى سأكون وجها لوجه مع الشفايف المنفوخة والكحل المرصوف على مساحة متر مربع وكتل الماكياج الإسمنتي المسلح والدراريع والفساتين المكشكشة والعدسات اللاصقة الملونة بألوان لا تجدها حتى في عيون أغرب وأندر القطط الشيرازية، مرة أخرى سأكون أمام الكاميرا التي تملأ كوادرها الوجوه والموسيقى والدموع والبكاء والنواح المنساب من شراشف الأسرة و درابزينات السلالم العملاقة لبيوت لا تشبه سوى قصور أحلامنا، مرة أخرى سأكون بمواجهة مشاهد طويلة عريضة مع البطلة وهي تتحدث في الهاتف وهي تقود السيارة في طريقها إلى المستشفى، وعندما تصل هناك لزيارة أبيها الذي أصيب بمختلف الكسور والرضوض والخدوش وقرر الأطباء أن يجروا له عشر عمليات في فقرات الظهر والرقبة والأضلاع وأربطة الركبة، لا لشيء سوى أن حضرة العزيز، أمسك صدره في المسلسل وقال : آخ·· آخ·· آخ ثم وقع من على الكرسي في الصالة''!!· الانتقام في ثياب الاستسلام! حين تكون الأطباق التي أمامنا في المطعم بطعم الزقوم بالباشميل، أنظر إليها مع جلسائي كما ينظر المحكوم عليه بالإعدام على آخر طبق في حياته· الجميع ينتظرون المعلم لـ''تهزيئه''· وحين يحضر وأكون مشغولاً بالتحسّر على الأكل الذي سندفع ثمنه ولن نأكله، تنطلق الأفواه بالاحتجاج، فيعتذر الرجل وبالطبع لا يرد عليهم لأن عددهم كبير والجوع كفيل بتحويلهم إلى مصاصي دماء· لكن حين أنتبه أنا لحضور صاحب المطعم، أبدأ الكلام قبل أن ''يشرشحه'' الآخرون، فأقول: سجِّل عندك، ثمانية زبائن سيصبحون دائمين من اليوم، والله حرام مضت أيامنا وتقدمنا في العمر ولم نأكل عندكم إلا اليوم، يا خسارة السنوات الماضية، كأننا لم نعشها· يرد بعد أن ينتفخ صدره من الفخر: بالهنا والعافية، والفضل يعود إلى طباخينا المحترفين· نخرج من المكان والجميع مذهول مني خصوصاً حين أودع المعلم وأوصيه أن يسلّم على ''المحترفين'' واحداً بعد الآخر· الأمر نفسه يحدث إذا أساء أحد العاملين في المطعم المعاملة، كأن سجّل الطلبات وهو يتحدث إلينا كلاجئين ينتظرون المعونة، أو وضع الأطباق بشكل استفزازي· فوراً أطلب المعلم وأشيد بأخلاق العاملين معه وأسأله: هل تخضعونهم إلى دورات تثقيفية في فن التعامل مع الزبائن؟ يرد: بالطبع، فنجاح المطعم يقوم على حُسن التعامل أولاً، ثم يأتي الأكل· وفي أثناء المغادرة، أتعمد التبسّم في وجه ذلك العامل· وحين نسير في الشوارع، وأكون راكباً معهم، لا يتركون من ينحرف على سيارتنا في حاله، بل لا بد من تأديبه أو على الأقل تنبيهه· وإذا أضاءت سيارة خلف سيارتنا مصابيح الإنارة العالية بشكل متكرر ومزعج، يتعمدون السير ببطء لمعاقبته على سوء سلوكه· لكنهم حين يركبون معي، إذا لمحت سيارة تحاول الانحراف على سيارتي، أفسح لها الطريق لتنحرف على كيفها، وإذا أضاء من خلفي إنارته، ربما أخرج من الطريق ليسير هو عليها· جلسائي وأصدقائي ومن يركبون معي يحترقون غيظاً من تصرفاتي، ويقولون إنني مستسلم وطيب إلى حد السذاجة، ومتسامح إلى حد التفريط في حقوقي، وحقوقهم، لكنني أقول لهم إنني الوحيد الذي أستطيع إغلاق مثل تلك المطاعم·· وإلى الأبد· وأنا الوحيد الذي أرد الصاع صاعين للسائقين المتهورين·· وإلى المقبرة· يقولون بملل: كيف؟ أقول: أنتم بإعلان غضبكم، تفيدون المطعم من حيث لا تدرون، فصاحبه، سيحاول تحسين مذاق طعامه، وضبط أخلاق عماله، لكنه سيعتبر كلامي شهادة تقدير لمطعمه، ولن يحاول تحسين شيء، وكلما ذكر له أحدهم سلبيات مطعمه، تذكر كلامي وقال في نفسه: يكفي وسام النجاح الذي وضعه ذلك الرجل السمين على صدري، يقصدني أنا·· وهكذا سينام في العسل إلى أن يتفاجأ بأن عدد زبائنه صفر· والأمر ذاته مع السائقين، فأنتم تقوّمون سلوكهم وسيعرفون معكم بأن القيادة فن وذوق، لكنهم سيعتقدون معي أن جميع السائقين في العالم مثلي، وستكبر فكرة الانحراف على الناس في رؤوسهم، وسيعتبرونها حقاً من حقوقهم إلى أن يتورطوا مع سائقين شرسين يوقفون سياراتهم في عرض الطريق ويترجلون منها ويمنحونهم ما شاءوا من الصفعات والركلات، أو أنهم سيقودون سياراتهم بتهور أكثر إلى أن يصطدموا ويتدهوروا ويذهبوا في ستين ألف داهية· والفرق بيني وبينكم، أنكم تحرقون أعصابكم لتفيدوا الآخرين، وأنا أفيد نفسي بأن لا أحرق أعصابي على أحد، لأنه هذا الـ ''أحد'' سيحترق من تلقاء نفسه· لأول المعرفة دهشتها التي قد ترتعد لها فرائصك وكل جوارحك، وكذلك هي الصدمة قد تفعل فعلها المماثل، فلا تملك إلا أنك تندهش وتندهش حتى تنكمش وتتحول إلى مخلوق آخر يجهل خصائصه، مخلوق مركب فاقد تدريجي لإنسانيته وكينونته!، فربما تجد نفسك وقد صبحت وعيناك برزتا كخنجرين، ونابك قد استقر أسفل فكك، أو دقات قلبك تحولت إلى درامز مسعور!، وتلك الأظافر قد تمعدنت كأسياخ من فولاذ، فالتوحش لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن يتشكل فجأة، فتتابع الصدمات المتكررة يؤدي إلى أكثر من ذلك، إلى حد أنك لن تفصل زلزلة صدمتك عن مركز أرصاد الزلازل، لقوة الاهتزاز تأثيره المباشر الذي بدوره سيحدد حجم الانهيار والخراب فيما بعد، فوجه الشبه يكمن بالسقالة التي سقطت من على ارتفاع شاهق فوق رأسك، وكل ذنبك هو أنك في لحظة ما قررت تغيير طريق وجهتك، لتتلقى وعدك دون سابق إنذار، ولكن هيهات هيهات!، ففي قمة وجعك وغمرة فجيعتك وارتجافك، وسخونة مصابك وانكسار دمعتك، ربما ستحاول أن تستجمع قواك وتنبش عقلك، لتستحضر كل الحكم اليابانية والروسية والصينية والهندية والإنجليزية وكل ما دون في المراجع والأساطير من حكم وأمثال وقياس، في محاولة منك للبحث عن تفسير وتبرير للموقف تواسي به روحك، ويساعدك في لملمة جراحك إلى أن تنجلي دهشتك!، ولكن عندما تأن عليك مواجعك، لتصل بك غصة قلبك إلى أن تحبس مجرى أنفاسك، حينها ستتخلى عن حكمتك وحلمك وودعك وستفكر في الاتجاه المعاكس، خصوصاً عندما يستقر في عقلك الباطن إنك ظلمت واضطهدت دون جرم أو ذنب تستحق عليه هذه الدهشة!، فلن تفي ولن تخدم حالتك حكمة ذلك المعلم والمؤدب الفضال، الذي فرك أذنك يوماً ما واضعاً حكمته في ذهنك، ولا وصية أو تجربة ذلك الصديق المخلص موفراً عليك عناء التجربة ونتائجها، ولكن ربما ستهرول حاملاً جرحك ودهشتك وبرودة أطرافك ورجرجتها، وطقطقة أسنانك وزيغان عينيك، علك أيها المكلوم المفجوع تسعفك قدميك وتصل بك إلى بيت البركة العجوز، علها تهديك شيئا من أسرار حكمتها وما تحفظه من أورادها وتضعه في صدرك، ربما يبرأ جرحك وتنجلي دهشتك وتسترجع أنفساك وتبصر من جديد! * أيها المكلوم المصدوم!·· لا تكترث لعبث العابثين·· أولئك الذين ضيعوا الدرب حتى ضيعوا الحب·· فلك طريق ولهم طريق·· ضمد جراحك واصطبر ولا تيأس لطالما بقي في قلبك إيمانك·· * همسة: مهما تكن حساباتنا دقيقة، تبقى للمفاجأة حساباتها!· أطفال آخر زمن! لطالما كان الصغار أكبادنا التي تمشي على الأرض، ولطالما كانوا الملائكة الذين يضيفون طعماً للحياة في أي بيت، لكن هذه الصورة كما يبدو صارت في طريقها للاختفاء بعد أن صار الصغار ''عفاريت تمشي على الأرض''· كنت أظن الأطفال لطفاء ودودين بحكم أن لدي إخوة صغاراً، لكن هذا الظن تكسر على صخرة الواقع بعد أن صرت أشاهد أفعال الصغار في الأماكن العامة والأعراس والعيادات والأهم من ذلك في الجمعية المجاورة حيث تراهم يعتلون عربات التسوق ويزمجرون بصراخ وهم يرتدون على رؤوسهم ''طناجر'' صغيرة من قسم الأواني ويمسكون بأيديهم لفة تجليد ورقية يعاملونها معاملة السيوف، مثل هؤلاء الصغار تظنهم في حرب ضروس خاصة حينما تراهم ينقضون انقضاضاً على قسم المأكولات والمشروبات ''رعاهم الله وحفظهم''· في العيادات يتبارى الصغار في مسابقة لاختبار أقوى الحبال الصوتية في حناجرهم الصغيرة وكل واحد يرغب في إيصال صوته لأبعد مدى ممكن، ويتنافسون في إبراز قدراتهم الصراخية ما بين متألم وخائف من الحقنة وهناك أيضاً من يحاول أن يلفت انتباه الجميع إلى أنه أحق من أخيه المريض في حضن والدته التي تحضر معها أربعة أطفال أصحاء حاصلين على دكتوراه في إثارة الفوضى لتكشف على طفل خامس مريض! أما في الأسواق وما أدراك ما الأسواق، فهم يتفننون ويبدعون في ركل والديهم والاستلقاء على ظهورهم ثم الصراخ بعالي الحس للحصول على لعبة يملكون خمساً مثلها في البيت وتجد أكثرهم أدباً من يسحب عباءة والدته حتى تقع ''غشوتها'' فقط كي ترى بائع الذرة وتدفع له 9 دراهم نظير كوب صغير من الذرة كان يباع العام الماضي بـ 3 دراهم· هؤلاء الصغار أصنفهم ضمن فئة ''اللطفاء'' فهم صغار تنحصر شرورهم على أمهاتهم وآبائهم فقط، لكن هناك فئة أخرى من الصغار لا يسلم كبير ولا صغير من إيذائها، ولم يعد قرع جرس المنزل والهروب يمثل لهم أي متعة إنما صارت ألعابهم من نوع حمل مسمار وخدش طلاء أي سيارة تقف في ''الفريج''، أو اقتحام حديقة بيت الجيران وتكسير الورود والشجيرات بدعوى قطف ''الفرصاد'' أو ضرب وشتم كل من تقع عليه عيونهم الصغيرة، هم فئة من الصغار يجب أن يتم إلقاء القبض على والديهم وإنزال أشد عقوبات التربية بهم، لأن هؤلاء المجرمين الصغار هم حصيلة إهمال وتعنت الوالدين الكبار، الذين لا يعرفون في التربية إلا جلب أطفال للعالم يصبحون ثالث أكبر مصدر ضوضاء بعد أبواق السيارات وموسيقى الروك! للأسف هناك الكثير من الأسر التي تقيس مدى نجابة صغارها بقدرتهم الفائقة على العراك وإثارة المشاكل، وتجد الأم والأب يعلمان الصغير على كلمات الشتم منذ نعومة مخالبه أقصد أنامله، فكم من أسرة تعلم طفلها كلمة ''شب''- وهي كلمة مجازية بمعنى أخرس حسب قاموس اللهجة الإماراتية- وكم من أسرة تدرب صغيرها على الضرب وتشجعه على ذلك بل والبعض يطلب منه أن يضرب ويعارك حتى إسالة الدماء· والمصيبة أن هذا الصغير يبدأ بإثارة المشاكل في بيته ويتدرب على إخوته، فنرى أمه ''مفلوعه'' وأخته ''معضوضة'' وشقيقه مضروباً وأصابع الاتهام تشير إليه وحده، ويبدأ هذا الصغير العدواني بالسيطرة على كل شيء لأن الكل يخافه وتنسى الأم أنه مازال طفلاً وأن عليها تشذيب سلوكه ليصبح فيما بعد ''سفاحاً مكتمل النمو''· يبدو أن علينا اللجوء لـ ''سوبرناني'' كي تأتي في سيارتها السوداء وحقيبة القوانين الجلدية ودائرة العقاب لا لنجلس الصغار بل لنضع عليها الكبار من أمهات وآباء أكبر همهم أن تبرز عضلات ولدهم وإن ضمرت أخلاقه واختفى أدبه، بينما هم يتركونه ليأكل من خشاش الأرض·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©