الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الإنصاف أم المصالحة؟

25 مايو 2009 02:05
ينوء العراق تحت عبء تركة تاريخية ثقيلة ورثها عن حقبة الاستبداد، ليس من اليسير التخلص منها تماماً لمجرد الإدعاء بالحاجة إلى المصالحة، دون البحث في العلل والمعضلات الحقيقية، التي خلّفت أوضاعاً شاذة ومتطرفة من الغبن واللامساواة شملت شرائح واسعة وفئات كبيرة من العراقيين. تتسم تلك الأوضاع بتعثر تأسيس دولة الحق والقانون، حتى هذا الوقت، وفشل تكريس دورها كدولة راعية للمساواة بين جميع مواطنيها وضامنة للعدالة السياسية بينهم. إذ لا تزال تلعب، إلى حدّ كبير، دور الوصي على النهج الاستبدادي والمواصل لذهنية الإقصاء والإنكار بحق الآخرين، انطلاقاً من مصادرات أيديولوجية كان النظام السابق يعمد إلى استلهام شرعيته السياسية منها. لقد عجزت الدولة العراقية عن أن تكون دولة دستورية، ونكصت حكوماتها عن الالتزام الحقيقي بمواد الدستور الجديد ونصوصه، بل إن استمرار عدد منها كان قائماً أصلا على عدم الاتساق مع روحه، وعلى عدم الإيفاء باستحقاقاته الشرعية والأخلاقية إلى حدّ بعيد. وهنا يلاحظ أن تلك الحكومات، التي توالت بعد سقوط بغداد، تمتاز بقاسم مشترك يتمثل في كونها جميعاً تنطلق من الذهنية الأيديولوجية ذاتها في ممارساتها السياسية لدى التعاطي مع استحقاقات المسألة الكردية. فضلا عن ذلك، فشلت الدولة العراقية في إزالة التشويه الاجتماعي والديموغرافي الشامل الذي خلّفه النظام السابق، بغرض تكريس استبداده، ومصادرة الحياة الاجتماعية والهيمنة عليها. وهنا تبدو حالة التشظّي الاجتماعي والانقسام القائمة فعلياً بين مكونات المجتمع العراقي عقبة رئيسة أمام التأسيس لمواطنة جديدة وحقيقية ترتكز على المساواة والحرية. ليس من المنطقي، وليس من العدل أيضاً، التشدق وإظهار الحماسة المجانية للمصالحة ما لم تنجز سيرورة المساواة بين المواطنين قبلا. وهذه الأخيرة لن تنمو على أرض الواقع وتتم ما لم تتطلع السلطة الحاكمة في بغداد بحزم إلى الأمام، وتتخلص نهائياً من الإرث المادي والنظري للاستبداد القديم، وتنفصل عن الممارسات السياسية التي هيمنت على الحياة العراقية طوال العقود الماضية. إن ولادة الدولة العراقية الجديدة، أو إعادة تأهيلها، تعني نهاية حقبة القهر والتعسف والطغيان الفردي. لا أن تؤول بالنتيجة إلى أشكال جديدة من الاستبداد العرقي أو الديني بزعم المصالحة مع نموذج سياسي وأيديولوجي أدّى إلى الهلاك ودمار البلد وخرابه على أهله، وثبت أنه نموذج مضاد للتاريخ وللعقل ولمصالح البشر. إن ربط التحول إلى دولة الحق والمساواة بإزالة كل أشكال الغبن والقهر السياسي والتمييز العنصري المتوارثة، يعدّ بداهة تفرض نفسها على عقل كل من يريد بداية صحيحة لبناء دولة حديثة في العراق ولنشوء مجتمع سياسي متقدم. وبدلا من الارتكاز إلى الممارسات القديمة وإلى بنى الاستبداد التي مازالت تهيمن على سلوك السلطة السياسية وتستبد باتجاهات تفكيرها، يتعين على السلطة الحاكمة أن تنطلق من قيم سياسية ومبادئ أجمع عليها معظم العراقيين دستورياً. المصالحة غير ممكنة، وغير قابلة للتطبيق إن لم تكتسب مدلول الإنصاف والمساواة. وبخلاف ذلك تكون دعوى باطلة غايتها المساومة على حقوق الضحايا مع أقلية انتهازية من الأفراد، هم فضلا عن شراكتهم العميقة مع نظام الاستبداد في إرهابه ومسؤوليتهم في جرائمه المروعة، لا يمكن الركون إلى قناعتهم بضرورة مستقبل سياسي جديد للعراق على أساس الشراكة الحقيقية والمساواة بين الجميع. وعليه فإن كل ادعاء بالمصالحة يستهدف التسوية معهم في مثل هذه الظروف، حيث لا تزال المسائل متشابكة بشدّة وعالقة، لا يعدو أن يكون استجداء مجانياً يراد به المماطلة والتسويف والهروب من الاستحقاقات الدستورية والسياسية الأكثر أهمية. المصالحة ممكنة فقط حينما تكف السلطة الحاكمة في بغداد عن التفكير بأنها قادرة على إلغاء حقائق التاريخ وحقوق البشر، وتضمن لنفسها الهيمنة والاستمرار دون الالتزام بشيء أو التقيد بمبدأ. وتتوقف عن تكريس بقائها بإيغالها في إقصاء الآخر، فلا تعبأ بحقوقه المستلبة، وتعدّ ذلك انتهاكاً صريحاً. وفي مثل هذه الحال ينبغي أن يكون المبدأ الحاسم لديها في تحديد طبيعة العلاقة بين الناس هو المساواة والحرية في تقرير مصائرهم، بدلا من الاعتقاد أن المراوغات السياسية والمناورات هي السبيل الأمثل لممارسة السلطة. د. سربست نبي باحث وجامعي سوري ينشر بترتيب خاص مع مشروع «منبر الحرية»
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©