الأحد 5 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

العمارة المدينية.. وظيفة وذوق

العمارة المدينية.. وظيفة وذوق
31 مارس 2010 19:53
يعرض المؤلف رهيف فياض في كتابه الذي صدر حديثاً عن دار الفاربي، تحت عنوان “من العمارة إلى المدينة”، كتابة متقنة في أمور العمارة والعمران وكيفيات تنظيم المدن والضواحي والبلدات والقرى. فالهاجس المعماري، البنائي، موجود دائماً في نسيج بنيان المقالة نفسها: تتابع الصور، وجماليات اللغة، والتركيب البنائي. فبنيان البحث هنا أقرب إلى بنيان القصة القصيرة في النتاج الأدبي. بل إن بعض المقالات التي هي أقرب إلى الكتابة الروائية حيث تتحول العمارة، في وجودها أو اضمحلالها. هذه البناءات كلها تتبدى في كتابة رهيف فياض كأنها شخصيات روائية لها حياتها وأدوارها وصراعاتها وصولاً الى ما أطلق عليه المؤلف صفة العمارة المقاومة أوالمنهج المقاوم في العمران. وعبر حديثه، التصويري التحليلي، عن العمارة والعمران، يدخل الكاتب إلى مسارات الصراعات الاجتماعية المتشابكة عضوياً بالواقع الاجتماعي والمواقف، والتي تجد تعبيراتها في أنماط العمارة وأنواعها، سواء تلك الأنماط المجلوبة القامعة التي يزرعونها في غير مكانها، أم تلك الأنواع من العمارة المتجذرة في الأرض والمسارات التاريخية للعمران، المتآخية مع المحيط والمتآلفة مع الطبيعة والاجتماع ومتطلبات البشر والذوق الجمالي. إن الكتاب هذا يتخذ لنفسه هذا البنيان الأدبي الفني: من مدخل يضعنا في مواجهة الإشكاليات، إلى احتدام الإشكاليات العمرانية والهندسية التي هي، في واقعها، تعبيرات عن صراعات ومواقع اجتماعية، إلى صياغات للرؤى العامة للكاتب/ المعمار التي تنفتح على خلاصات لموضوعات آثارها، وطرحها المؤلف عبر فصول هذا الكتاب. مدخل يبدأ المؤلف بموضوعات كتابه عبر دخوله إلى السراي الحكومي الكبير في لبنان عندما كان الرئيس الشهيد رفيق الحريري رئيساً لمجلس الوزراء. يعرض المؤلف كيف إن السراي الكبير (مقر مجلس الوزراء) لم يكن قبل الحرب الأهلية محاطاً بالحواجز والسدود، بل كانت أبوابه مفتوحة للناس. إن الموضوع الذي جاء للاشتراك بمناقشته المؤلف هو الاحتفال بإطلاق الخطة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية. طروحات كثيرة وفضفاضة، بين بنود الخطة الشاملة وتطبيقها، وبين ما يسمى بالحس الوطني تربط الخطة للتنفيذ، التي هي وبحسب الكلام الرسمي، أن تنقذ الشواطئ، وأن توقف التدهور فيها، وأن تصون الآثار، وأن تحمي التراث... ولكن الكاتب المعمار يؤثر أن يتجه نحو التحديد الواقعي للأمور والكلمات: فهل هذا الحس الوطني هو مفهوم عام واحد، وبالتساوي، بالنسبة لجميع المواطنين؟.. وعند اللبنانيين جميعاً دون تمييز؟. فإذا تفحصت الأمور كما يقضي علم الاجتماع وعلم الواقع والوقائع، تصطدم بالفوارق الكبيرة والهائلة في حقيقة مفاعيل هذا الحس الوطني، هكذا، ودون تمييز بين مالك كبير ومن لا يملك شيئاً، بين مستثمر جشع، ومن لا يستطيع أن يؤمن قوت عياله، بين معتد على الشاطئ وعلى مياه البحر، ومن لا يستطيع أن يصل اليهما، بين مسؤول متسلط فاسد، وبين محكومين يدفعون الثمن ضرائب، وفقراً، وبطالة، وهجرة... خطة ويظهر هذا التفارق واضحاً وصادماً، بين متخالفين، تجاه مشروع الخطة.. ففي حين تتجه إدارة مشروع الخطة الى نوع من انتقاد ردم البحر الإعماري، في المطار وفي سوليدير، وفي ضبيه، الذي دمّر البيئة البحرية في مواقع مميزة، وعطّل وحدة الشاطئ الطبيعية، وأفقده تواصله واستمراريته. بالإضافة إلى نقل العديد من الهكتارات المربعة من الأراضي الجبلية لردم البحر، مع ما سببه ذلك من تدمير إحدى ميزات لبنان الأساسية في محيطه وهي: جباله، وصخوره، وغاباته، والغطاء الأخضر الذي يكسوه... وفي حين تشدد الخطة، بكلام إدارة المشروع، على ضرورة الحفاظ على مناطق الثروة الزراعية الوطنية ووقف التعديات على الشاطئ، وحماية المواقع الطبيعية فيه. يأتي الكلام الرسمي عبر كلام رئيس الوزراء هذه المرة بمفهوم آخر و”كل شيء ماشي”، ويتضمن كلامه معارضة لما قاله مدير المشروع، ويوضح موقفه بالقول: إن من يستمع إلى العرض الذي قدمه مدير المشروع، يخرج بانطباع، وكأن لبنان فارغ من كل شيء، والحقيقة، يقول رئيس الوزراء، إن لبنان بلد مليء بكل شيء فعندنا الكثير من الأمور الموجودة، وهي بحاجة إلى تنظيمها أو توضيحها، وعندنا القليل من الأمور الناقصة، وهي بحاجة إلى استكمالها. نتيجة فلنترك مسارات عمران المدينة، واستكمال هكذا عمران، لأهواء المتمولين وشراسة البنيان المعولم الجديد، الذي يحجب الناس عن الناس، ويحجب ناس المدينة عن الطبيعة، ويحجب المدينة بيروت عن بحرها؟ فما الذي حدث ويحدث بفعل استئثار الرأسمال وأصحابه بما هو حق طبيعي لناس المدينة؟.. فقد توجه المتمولون إلى بناء الأبراج على أطراف مياه البحر المردومة في قلب المدينة، حيث سيملكون البحر ويحجبونه بكبرياء عن الآخرين. يقدم لنا الكاتب كما عبر كاميرا سينمائية ذكية صوراً حية لمدينة بيروت من الجو ومن جوانبها وعبر حاراتها، ولكن ليس فقط كما هي الآن، بل عبر تحولاتها التاريخية وترابط البنيان بالتحولات الاجتماعية وحالات السكان فيتجلى، بهذا، المعنى الواسع لكلمة العمران التي لا تعني العمارة فقط بل هي تعني حسب ابن خلدون عمران المجتمع بناسه وبنيانه وحركته وتناميه... ذلك أن بيروت الآن كما يراها الكاتب صارت بلا حيز عام ملائم، بيروت بلا مركز وبلا قلب، بيروت هذه هي مجموعة أحياء... خسرت بيروت بما سمي إعمارها حيزها العام، عندما تملّكت شركة عقارية واحدة النواة التاريخية للمدينة، فألغت الشركة ساحة البرج (ساحة الشهداء) التي رافقت المدينة في تحولاتها فتحولت معها الساحة إلى مكان اللقاء الوحيد لناس المدينة فخسرت المدينة، بهذا التملك، قلبها، والحيّز العام فيها ومعظم المعالم الحاملة لذاكرتها الجماعية، فبدت وكأنها فقدت كل العناصر التي توحدها مدينياً... رممت مباني شارع المعرض بإتقان واضح، يقول الكاتب إنه وبحرص على التفاصيل، جعلتنا نخاف من لمسها مخافة ان نشوّهها.. فكأنها رممت لا لنسكنها، بل لإعطائها صفة مشهدية، متحفية، فأفرغت نسيجها الاجتماعي بقوة السلطة وقوة المال. فالناس لا يسكنون المتاحف.. ليس من مقيمين اليوم في شارع المعرض ومعظم متفرعاته، وكل الذين نراهم فيه هم عابرون.. فصار قلب بيروت هذا بلا قلب! على أن المؤلف يقدم صورة أخرى، مختلفة، لإعادة الإعمار، حيث دمر العدوان الإسرائيلي، بين يوليو واغسطس من العام 2006، أبنية ومساحات واسعة من الضاحية الجنوبية... واذ طرحت مسألة إعمار الضاحية سرعان ما برز مفهومان لإعادة الإعمار: واحد يهدف الى إعادة إعمار الضاحية عبر إعادة تنظيم بنيان الضاحية كلها، وما يقتضيه هذا من تهديم جديد لكل ما لا يتوافق مع مخطط إعادة التنظيم والبناء!.. ومفهوم آخر يرى إعادة إعمار وترميم ما هدمته الحرب بالفعل... فالتدمير، رغم قساوته ووحشيته، هو تدمير موضعي محدود... فلا بد أن تكون إعادة الإعمار محدودة أيضا، وإعادة ما تهدم بما هذا من تحديث لواجهات الأبنية، وذلك بالتعاون الدائم والتشاور والتوافق مع المالكين الأصليين والساكنين وأصحاب الحقوق، بحيث يعود السكان إلى ما الفوه من أبنية ودكاكين ومؤسسات وشوارع وطرقات فرعية، فيظل أكثر هؤلاء الناس حيث كانوا يسكنون... بل يشاركون هم في تحديث وتحسين وتصويب ما يحتاج منها إلى ما هو ضروري لها في هذه المجالات. مشارك ويرى الكاتب في هذا التوجه بأنه، في تفاعله المباشر مع الناس، يقدم لهم، ولمعنى إعادة الإعمار: شكلاً من أرقى أشكال الديمقراطية المباشرة، ورؤية متقدمة لإعداد التصميم المعماري بمشاركة المنتفعين مباشرة... وذلك بعد أن رأينا ذلك التفريغ السوليديري الاستئثاري لقلب بيروت، وتحويله إلى فراغات مفرغة من الحركة المجتمعية. ولعل ما يميز هذا الكتاب هو تلك المقالات الطالعة من قلب التجربة العملية للمعمار، سواء بمشاركته في مشروع إعادة الإعمار، والشروع العملي في تحقيق هذا المشروع... ثم الإسهام في عدد من المؤتمرات التي نظمتها هيئة المعماريين العرب، ومنها بشكل خاص، المؤتمر الذي يكتسب أهمية استثنائية كونه عقد في مدينة حلب تحت عنوان (حلب بين التراث والمعاصرة). ففي مدينة حلب بالذات مثال عمراني لافت، لذلك التدامج والتآخي والتفاعل الخلاق حلب من أبنية تراثية وطرائق تنظيم المدينة العربية الإسلامية، وحركة عمران جديدة لا تبتعد عن التراث المعماري العربي، ولا تتجمد فيه.. أما الفصل الهام، في هذا المجال، والذي يحمل عنوان ما هو التاريخي وما التراثي في مدننا، ولماذا نحافظ عليه؟، حيث تنفتح الكتابة على ذلك التوجه للحفاظ على التراث البنائي الأصيل الحامل لتاريخ العمارة وتاريخ العيش وأحواله وتحولاته، ويميل إلى عمارة لا تقطع مع هذا التراث بل تطور فيه حسب حاجات العصر وضرورات الحفاظ على الطابع العام المميز لهذه المدينة وتلك، وهو توجه يطلق عليه الكاتب صفة العمارة المقاومة والعمران المقاوم. ويشير أيضاً إلى أن الأجزاء التاريخية في مدننا هي تراثية بامتياز، إنها جزء هام من الإرث الأصيل، ولهذا الإرث قيم متعددة (جمالية، تاريخية، معمارية،اجتماعية، رمزية، تعليمية، اقتصادية... لذلك ندافع عن هذا الإرث ونجهد للمحافظة عليه بكل الوسائل، دفاعاً عن القيم التي تتجسد فيه...
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©