الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الحالم في الصحراء.. وبها!

الحالم في الصحراء.. وبها!
20 فبراير 2013 20:40
ناجح المعموري للبئر لسان مقطوع، هذا ما قاله الشاعر المبدع أحمد راشد ثاني وقد استعار من الاستشراق وما بعد الكولونيالية مصطلح اللسان المقطوع وانحرف به بقوة، بحيث طاوعه المصطلح نحو أفق وظيفة أدبية مغايرة ومختلفة تماماً، هي وظيفة المجاز والإيماء نحو شعرية لا تحتاج جهداً لمعرفة تجوهرها والتماعها مراراً، ولأن اللسان مقطوع، فإن صمته قال، وسيظل يقول أكثر مما أراده الشاعر، وأكثر مما قالته جماعة القراء، والمفسرين كما أطلق عليهم ستانلي فيش، وظفنا الشاعر أمام امتحان القدرة منذ عتبة العنوان التي هي رقبة النص واستهلاله. وفي الشعرية المقطوع مكتمل وغير ناقص، وهو صارخ ومعربد، يحتوي كل صفات اللسان السليط والمتمرد، الحاضر دوماً، الذي لا يعرف الغياب. وهذا النص الذي نشره «الاتحاد الثقافي» (الخميس 23 فبراير 2012م) فيه استشراف للفجيعة والمصير الفردي الذي واجه الكائن منذ زمن بعيد، مواجهة ثقافية ونفسية، إنها العزلة وحتم الغياب، فالكائن عميق النفس وبعيد الأسرار، العاشق، والحاضر، المجنون، العاقل إنها ثنائيات أجمع عليها كل من كتب عن أحمد راشد ثاني، وخصوصاً د. سلمان كاصد وعادل علي وهي نصوص رثاء تستحق القراءة باعتبارها إبداعاً ولم لا؟، فالحضارات عرفت هذا النوع من الشعر الخاص بالمراثي والمناحات، وكانت سومر مبتكرة الأنواع الأدبية ولابد من مجال خاص للشعر خاص بالفقدان وخسارة الآلهة الشباب، وانهيار المدن، واندثارها والنماذج على ذلك كثيرة مناحات تموز وأرميا وأور وكيش ونفر. الآخر هو الذي يكتب ذلك الرثاء والندب، والشاعر أحمد راشد ثاني كتب مناحته، لا يعرف بالعتبة الآتية، إنها الأخيرة، يتوقعها، لا بل يراها، ويبدو لي أن هذه القصيدة الهادئة، والصاخبة، الهامسة والصارخة، لم يرد أحمد راشد أن تعترف بأنها مكتوبة عنه فقط، فهي عن الأنا/ أحمد راشد وأنت/ الآخر. فضاء الغياب هذه الثنائية فتحت فضاء الغياب، حتى لا يبدو أكثر قسوة على الشاعر وهو يترقبه، بل أشرك الآخر فيه وكأنه يعيد بناء المجال الإنساني الذي اقترحته الأساطير والملاحم، ولعل ملحمة جلجامش هي النص المبكر، في حضارات الشرق، جعلت من الموت حقاً لبني الإنسان فقط، لأن الآلهة خالدة ولا تموت، هذا ما أكده مبتدأ النص: أنت أنا الذي لم يعبر الذي ظل غريقاً في الطوفان الذي ظل أنيناً وظلا على شفة البحر أنت الذي لم يتكور كصخرة لم يُنل كقطاف السرقة لم يقف كحائط المنتهى لم يحتط كبئر في حجر في هذا النص تشارك ثنائي واضح، ويبدو لي أن الثنائية حاضرة في شعر أحمد راشد ثاني وفي مروياته السردية «على الباب موجة»، وأعتقد أن مثل هذه الثنائية المتميزة بشبابها تعبير عن شكل من أشكال ثقافة الصحراء الاجتماعية، لأن الكائن وحده مهدد ليس بالعزلة فقط وإنما بالموت بطريقة تراجيدية مماثلة لموت الأبطال في الملاحم. والإيثار واضح في استهلال النص، لم يقل الشاعر أنا أنت، بل قال ما هو متناغم مع انطولوجيا الحضور والغياب، وقضية الكائن وهو يقف وحيداً، منعزلاً أمام المأساة، ولأن الأنا/ والأنت متماثلة بالنهاية والفجيعة. اللعب المهاري زاول الشاعر نوعاً من اللعب المهاري عندما قال: أنت أنا. كلاهما لم يعبرا. وهما معاً ظلا غريقين في الطوفان. الشاعر عارف بالمخفي والسري الكامن، الماورائي، الذي أشار له في مقاله الأخير المنشور بالعدد نفسه، حيث قال: ما هو السر؟ السر: الخفي. هل الخفي عن البعض أم عن الجميع. عن الكل؟ هل السر هو الخفي المكتشف الذي عثر عليه أحدهم وعرفه وكتمه، أم الذي لم يكتشف بعد. لا يكتشف أبداً. وهل الخفي ما لم يعرف أبداً، ما قد يُعرف، أو لا يعرف على الإطلاق. أم هو ما فعل وارتكب من فضيحة. لهذا تعرفنا على الكوميديا السوداء، وعلى السخرية السوداء، أن العالم هو مخزن فضيحتنا. (الاتحاد الثقافي 23 فبراير 2012م)، الطوفان الذي ظل فيه الأنا غريقاً، اندمجا معاً بالواحد «الذي ظل غريقاً في الطوفان» والواحدية هذه كاشفة عن صوفية وردت لها إشارات برقية في سرديات ذاكرة طفولته. الطوفان لعنة، ومأساة، هو عقوبة إلهية واضحة، كل طوفانات التاريخ فعالية للآلهة، هذا ما يفصح عنه طوفان سومر/ زيو ـ سدرا وطوفان أتونابشتم في ملحمة جلجامش، وكل الأوبئة والدمارات هي إلهية، وعقوبة لبني البشر بسبب الأخطاء. الواحد الغريق ظل أنيناً وظلاً على شفة البحر، طاقة المجاز والاستعارة عالية وصارخة في هذا النص وغيره، ويمكن استعادة البناء الاستهلالي للنص، حيث التشارك بين الأنا القريب وأنت البعيد، أو المجاور تماماً وصار الاثنان واحداً وأخذه الطوفان، لم يمت، بل بقي طافياً وكان الشاعر يستعيد سرديات الأسلاف المخفية، وغير المعروفة، هي أيضاً المعلن عنها والمكشوف لها، كما روى الأسلاف في سرديات الطوفان التي كان بطلها واحداً، حتى تلك التي عرفنا فيها غير الواحد، لم تستمر المروية التاريخية محتفية بغير البطل. الحضور للواحد فقط. وأعتقد أن قراءة النص «لسان البئر المقطوع» هو قراءة الشاعر أحمد راشد ثاني لقصر الخورنق، وداور بمروياته ليصل إلى موقفه المعرفي والفلسفي، عن المخفي، المعروف، والذي لا يُعرف تماماً، وهذا هو المعبر عن اللسان المقطوع/ أو المسكوت عنه المعروف لأنه عتبة حتمية لحياة الإنسان، وأعني به الموت مأساة الملك في المروية التراثية والإغريقية هي لسان مقطوع/ موت وهذا هو جوهر النص الشعري، لأن الشاعر يدرك جيداً حتمية الفجيعة/ لكن الشاعر غير خائف وفي نصه ملمح للتحدي، لأن الفجيعة شكلاً من أشكال شرط الحياة. وبتوظيف القراءة الأعمق لعلاقة البدوي بثنائية الحياة والموت، جعلت الكائن الصحراوي موجوداً على حافة الحياة وحافة الموت (وهذا ما أطلق عليه ابن خلدون تجربة الحدود القصوى، أي الوجود على حافة الحياة والموت، فسبب اكتفائهم بالزهد الضروري وانشغالهم بلوازم الدفاع عن النفس، في عالم أجرد يبسط أمامهم خالياً إلا من الحاجات القصوى، لابد أن يكون لهؤلاء رأس مال رمزي ينمو باستمرار يعوض فقدانهم الدائم لرأس المال المادي. (سعيد الغانمي/ ملحمة الحدود القصوى/ المركز الثقافي العربي/ بيروت / 2005/ ص27). اللسان الطليق الصحراء الممجدة في قصائد الشاعر هي رمز المكشوف والمعلن. واللسان الطليق هي الفضاء الامتحاني للعين، التي تعامل معها ديكارت وهيغل وميرلوبنتي والفارابي ومحمد عبده. باعتبارها وسيلة العقل ومن أدواته الجوهرية، ولأن علاقته مع الصحراء روحية عميقة جداً مثل غيره من المثقفين والمبدعين الذين عرفوها جيداً وهي الانكشاف والالتماع، عبر عن هذا في رأي له عن سارتر ووجد وشيجة بين الاثنين عندما قال عنه: كل ما يمكن قوله مطروح على الطاولة، فليقل إذن كل ما يمكن قوله. إذ إن وجود الإنسان لابد أن يكون مكشوفاً كلياً لجاره الذي سيكون وجوده هو الآخر مرئياً كلياً. (أحمد راشد ثاني.. المقال الأخير/ الاتحاد الثقافي 23 فبراير 2012). العودة للثنائية التي تحدثنا عنها في البداية وهي واضحة، والتي هي الأنا/ الأنت، أشار لها الشاعر، لكل واحد منهما وبالتالي جعلهما واحداً الذي ظل غريقا في الطوفان. الذي ظل أنينا، وظلا على شفة البحر كان أحدهما غريقاً في طوفان رمزي أو حقيقي، والآخر لم يكن فيه غير الأنين وكلاهما نحو نتيجة واحدة، هي الحتم، هذا ما يشعر به الشاعر أحمد راشد ثاني ويدركه بشكل جيد، وتعايش معه، لأن إشارات عديدة أومأت لذلك في قصائده، والحتم، هو الفجيعة/ الموت، الليل، البحر، الطوفان، لسان البئر المقطوع، الخ... المحنة الأنطولوجية هذه كلها وراء المحنة الأنطولوجية وتفتت الزمن ولا أبالية التعايش معه، كذلك غياب جمالية المكان، لأنهما مقترنان مع بعضهما، فالذي ترك الفضاء البكري الأول لم يشهد غير صوره في الآخر ولم يكن من ماضيه غير الاستعادة وحركة الذاكرة. فالماضي لدى الشاعر ماثل ويتمتع بطاقة الحضور، يتمثل هذا بالصحراء/ البحر/ الجبل، هذه المتناقضات التي رسمت حدود «خورفكان» والطفل الصغير، المكتشف لما هو جديد في المكان، لكن الطفولة باقية، لم تغادره، فالبدوي يرى الحياة مثل ما رآها في لحظة البدء الأسطورية أو الحلمية. يقول الشاعر أنت ويعني الأنا، هذا بات واضحاً وسنكتشف هذا الأنا المكشوط في ذاته الذي خلخلته تضادات الثنائيات بقسوتها، وظل قابلاً بفشله وترقبه للحصول على شيء، لكنه بقي قوياً مثل البطل التراجيدي الذي يستمر قوياً حتى لحظة موته: أنت الذي لم يتكور كصخرة لم ينل كقطاف السرقة لم يقف لحائط المنتهى لم يُحتط كبئر في جحر السرد الشعري واضح، تضمن إشارات فنية عميقة لصفاته المميزة وخصائصه البطولية، يبدو واضحاً أن قصيدة «لسان البئر المقطوع» مغنية بالثنائية من خلال التفاصيل، كذلك عبر الوحدات البنائية في النص، وقدم الثابت في الحياة الصحراوية بشعرية عالية اقترحت دعماً جديداً للعناصر المكونة لشخصية الأنا/ الأنت، لكن السارد الحاضر هو الشاعر: لم يحُول النجمة إلى مخدةٍ ولا النبع إلى صنبور لم يرحل لم يعد بالرحلة لم يعد والرحلة على ركبتيه تنثر رمَّان المجهول وتقرأ الرمل بالأجفان لم يرحل: هذه واحدة من أهم معالم البطل التراجيدي الذين عرفته أهم الملاحم الأدبية والأساطير، مثل جلجامش/ هرقل، اورفيوس، اجاممنون، وهذا المعلم مشترك بين السرديات الشعرية الأولى، والشاعر مدرك لما تعنيه الرحلة وما يرافقها من صعوبات ومخاطر، تهدد حياة البطل، ولكنه يغادرها فائزاً ومنتصراً. كل هذا النص الخاص بالرحلة تصوري/ حلمي لم يتحقق، كأن الشاعر يريدها لأنها شكل يوتوبي، تفتح له نافذة جديدة على أماكن كثيرة، حدثت في التصور/ التخيل. كل هذا كان ممدداً على ركبتيه، خاضعاً لسطوته وقوته، تلك الرحلة الأسطورية التي لا مثيل لها في رحلات الأبطال والملوك الأسطوريين، كانت تنثر رمّان اللامرئي/ المجهول الذي لا نعرف أنواع فاكهته، تقرأ رمل الصحراء أبدا، لأني أعتقد أن حلم الشاعر/ الرحلة لم تكن في الصحراء ولا البحار أو الجبال، لأنه ـ الشاعر ـ عرفها من قبل وهو يريد اكتشاف جغرافيات/ فضاءات جديدة. حجم الغياب هذا النص بالغ الشعرية وكأنه مستل من الأساطير القديمة المكتوبة عن الفشل والخسارات التي عرفتها الرحلات الكثيرة وتساقطت منها الأحلام، وخسر المرتحل خلوده ممكن الحصول عليه، مثلما حصل مع آدابا في الأسطورة العراقية. الأنا/ والأنت/ صوت الشاعر الراوي وهو يكتب سيرته شعراً مثلما كتب بعضاً من حكايا طفولة «خورفكان» وبراءة طفولته في المكان الأول. الأنا/ الأنت مرآتهما الخسارات، لكنهما لم يتعطلا بسبب الإحباط واكتفى/ من الحياة بالتخيلات التي جاءت أحلاماً وأساطير، وتومئ لنوع وحجم الغياب في كل شيء: لم يعد يشرب من فم الغابة الأنثى كسرت سرته وأراقت فمه قام عليه الماء، والرمل الذي يشرب الماء قام عليه المشهد وإبرة العين تفصيل شعري جديد، يذهب بعيداً نحو أسطورة الشعر، من خلال حدة المجاز والانحراف باللغة، الشعر تحطيم للغة وانضباطها السياقي والمعجمي. وفي هذا النص تنويع على الخيبة والمرارة وإعلان الاندحار والقطيعة مع الفضاء/ الصحراء المغذية لسردياته منذ الطفولة، التي تعامل معها الشاعر، بوصفها بدئية الحياة والطبيعة والصحراء، التي غادرت طفولة المكان فيها، هي لحظة الغمر والطوفان الذي أشار له الشاعر في استهلال النص. أغلقت الغابة بتنوعها ولم يشرب منه/ إنه فم الغابة المتخيلة، وظلت الأنثى الهاربة تماماً من سردياته «على الباب موجة» ومنحها حضوراً تصورياً في نصوصه الشعرية، وهي دائماً ما تتبدّى امرأة زنبقية/ لامرئية، إنها فيض الخيال. والأنثى التي كسرت سرته، قطعت كلياً علاقته مع الغابة/ الأم الرمزية، ولم تكتف بذلك بل أراقت فمه الذي هو الماء الذي لم يشربه.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©