الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

لا وقت لتلويحة وداع

لا وقت لتلويحة وداع
20 فبراير 2013 20:41
جهاد هديب كان أي حديث لأحمد راشد ثاني (1963 - 2012) عن الموت، أو حتى أي حديث معه عن الأمر ذاته، أشبه بدعابة. هكذا كان الرجل حتى عندما كتب، جادّا، عن ذلك، خاصة في إثر رحيل أمه ـ وقبل رحيله المباغت شتاء العام الماضي في مخطوطته التي لم تُنشر بعد «ثلاثية الحانة». أما أصدقاؤه، في الحلقة الشعرية الضيقة ذاتها، فلم يكن بوسعهم الحديث عن أحمد راشد ثاني بعيدا عن شخصيته الخاصة والمميزة، النافرة والمُحِبّة، والأليفة يخالطها إحساس مبهم بالرغبة في العنف، والتي صنعها بسلوكه الشخصي المتأثر عميقا بثقافته ومقدرته على التعبير عن نفسه، تجاه أي فكرة تواجهه مع أي شخص، بقَدْر كبير من السخرية والضحك الذي يجبر المرء على الضحك أيضا دون أن يترك سبيلا للمقاومة. كان ذلك واحداً من أسباب محبته بعمق. إنما، عميقا، مسّه الموت وفكرته قبل رحيله بأكثر من سنة، عندما رحلت أمه التي جلبها في سنواتها الأخيرة من بيت العائلة في «خورفكان»، تلك المدينة التي يلتقي فيها الجبل بالبحر في مشهد نادر إلى حدّ أن النوارس تقيم هناك دائما وتُعرف بين الناس باسم: الطيرة. أرسل الرجل لأصدقائه رسالة عبر هاتفه النقّال ولم تكن تحتوي سوى على كلمتين: «أمي ماتت». اختلف الأمر الآن، فلم يعد الموت مجرد فكرة شعرية لقد مسّه تماما بل طاله بسوطه بضربة مؤلمة وكأنما ليوقظه من غيبوبة ما، حتى جعله يحدّق هو في مصيره الشخصي ومآله بوصفه ينتمي إلى البشر في آخر المطاف: «كنت أسمع كذلك عن أكل المنفى للحوم البشر وعن الصعوبة التي تتكبّدها القوارب التي لا ترضى عنها الرياح، وكنت أسمع.... ولكني الآن هنا، مربوط هنا، أخاف من الحلم الذي تأخذني فيه بالأحضان، ومن الأحضان التي أغرقت الطرقات، ومن الطرقات التي تخلّتْ عن العابرين، والأمواج التي عادت من زيارة قارب الموت، فلم تجد الساحل. لن أذهب إلى هناك» نعلم جميعا، نحن أصدقاؤه، أن أحمد راشد ثاني لم يعش تلك الطفولة السعيدة أو العادية كي لا يُقال المرفّهة، كانت طفولة قاسية تركت انطباعا مباشرا على شعره، ومَنْ يقرأ شعره، الآن، يدرك إلى أي حدّ هو ممتلئ بتفاصيل تلك الطفولة التي تجلّت صُوَرا لا تخلو من ألإحساس بالألم: «السلام عليك أيها البحر. أنا لست من هذه المدينة، أنا من قرية تعرفها حقّ المعرفة وابن سمّاك تعرفه طيورك حق المعرفة. وعلى الرمل الذي خلّفتْه أمواجك عثرْتُ على أغنيتي الأولى، وصِدْتُ أوّل نجمة في حياتي حين تعلّمتُ السباحة في مراياك» كان قليل الكلام عن ذلك، لكنه أحيانا عندما كان يقول شيئا ما عن مصادر شعره يجعل أي مُحاوِر له يدرك جيدا أي طفولة كانت تلك التي عاشها دون خَوْضٍ في تفاصيل لا طائل منها. بالتأكيد، كان قد ظهر نزوعه الشعري مبكرا إلى حدّ لافت، في العام 1981 يشارك في مهرجان شعري عربي في عاصمة «شعرية» عربية أساسية هي دمشق، ولم يكن قد بلغ العشرين من العمر بروح تنطوي على الكثير من الجرأة والمقدرة على الاقتحام. هل كان الشاعر أحمد راشد ثاني، هو الذي كان يتلمس طريقه آنذاك، يدرك أي مصير يواجهه إذ يُعترف بشعريته ويُكرّس شاعرا في تلك السنّ؟ الأرجح أن أحمد أدرك ذلك بالحدس، ابن الأسرة الإماراتية العادية بلا أي امتياز، يصبح شاعرا ومعروفا دون أية مرجعية عائلية. الشعر في الإمارات، والخليج العربي عموما، هو صفة تتميّز بها العائلة، بهذا المعنى كان الشاعر الفتى اختراقا من نوع ما للسائد. لذلك لم يكتسب أحمد راشد ثاني خبرته في العيش والشعر من أحد، بل استقاها من تجربة الخطأ والصواب ومن وجدانه العميق وتكوينه النفسي والثقافي الخاص، بشقيه الشفوي والمكتوب والمتأثر بشكل مباشر بطفولته، وكذلك من مجمل علاقاته بأصدقائه وعيشه اليومي، ربما لذلك نزع إلى أن يقولها كلها، إنما بحيث لا تقع في المباشرة الفجة ولا في التجريد اللغوي بل أبقى عليها حاضرة في شعره مثلما أبقاها سائلة في التفاصيل والتضاعيف: «صاحَب الغرقى وضاع مع الضائعين، لم يتكوّر كفقاعة غليظة في وجه العطش، ولم يقف في الجدار كباب ميّت ومنه أبدا لم يخرج، لم يخرج من تلك الجنّة التي تراءت في أعماقه، وأمام كل هذه الصحراء لم يحتط في أعماقه كالآبار الجائعة تسكن الحجرَ وتقتات على عروق الرمل، ولم يرحل للوصول ولم يصل إلى الرحلة» في الوقت نفسه، نشأ لديه إحساس مبكر بالمسؤولية تجاه «الوضع» الثقافي الناشئ في دولة الإمارات. أثناء ما كان طالبا في جامعة الإمارات بالعين ربطته صلة صداقة مع واحد من أهم شعراء قصيدة النثر في المنطقة العربية وهو الشاعر العربي المميز محمد الماغوط، الذي كان يشرف على الملحق الثقافي لجريدة الخليج والذي قدّم أحمد راشد ثاني عبره العديد من أصدقائه وزملائه من ذوي المواهب الأدبية وقد بات البعض من بينهم، الآن، أدباء مكرسين عربياً وليس محلياً فحسب، كما هو أحمد راشد ثاني أيضا. يحترم المرء ذكرى حديثه عن أصدقاء اختفوا من المشهد الأدبي الإماراتي، إذ لم يتوقف بعد ذلك عن التساؤل المعلن حول تلاشي بعض المواهب مثل كاتبة القصة سلمى سيف مطر ـ وكان ذلك في ندوة في عجمان أقامتها دائرة الثقافة والإعلام قبل ثلاثة أعوام حين كان رجل الدولة إبراهيم الظاهري على رأس تلك المؤسسة ـ وسلمى سيف مطر هي زميلته في الدراسة، وغيابها كان مؤثرا فيه، حقيقة. لكنّ واحداً من مصادره الشعرية التي غذّت باستمرار ذاكرته الشفوية كان التراث الغنائي للخليج إجمالا والساحل العماني تحديدا، لقد حفظ عن ظهر قلب تلك المؤثرات الغنائية بامتدادها من اليمن ثم تأثيراتها في المنطقة بأسرها، ولديه وجهة نظر في الأمر بحيث يمكنه أن يعيد هذه الأغنية أو تلك إلى جذرها الجغرافي. وذلك فضلا عن إطلالته العميقة على التراث الشفوي للإمارات بمجمله، إذ كان جمْع هذا التراث هو ميدان تخصصه وشاغلا أساسيا من مشاغله المهنية في هيئة أبوظبي للثقافة والتراث. كان الرجل شخصا عاديا تماما، لكنه لم يكن كذلك على الاطلاق. فلا افتراق بين الشخص في يومه العادي وسلوكه الشعري؛ مارس حياته في الكتابة والعيش معا وكأنه يدرك أن الموت سوف يطرق الباب مبكرا، على الأقل بدلالة إنتاجه الغزير شاعرا ثم باحثا. التواضع واحترام جهد الآخرين والبحث معهم عن الفرصة الممكنة للعيش هنا بما هو متاح له وبين يديه كانت دلالة بالغة على إنسانيته التي تغفر له تلك الأخطاء الصغيرة التي تحدث عادة بين الأصدقاء. بهذا المعنى كان أحمد راشد ثاني إنسانا حقيقيا. بعيدا عن ذلك وفي عزلته الخاصة، أي عندما يتصل الأمر بالشعر، لم يكن أحمد راشد ثاني، أثناء فعل الكتابة يتصل بأحد، بل ما إن يفرغ من هذا الفعل حتى يؤجج الدنيا صخبا واحتضانا للغامض الواضح والمبكي المُفرح الذي اسمه الحياة. في تلك الأثناء لم يكن حكيما أبدا إنما رائيا، ربما لمصير الشخص الذي هو أحمد. أحمد، في كتابة الشعر، كان حادّا إلى حدّ التطرف، مع نفسه أولا، لأن الأساس النظري هنا لم يكن كتابته هو للشعر بل ما يصبو إليه من كتابة للشعر. الأمر قاسٍ هنا وعصيّ على التفسير ربما بسبب التقاطعات الأكيدة بين العيش والشعر، والأحلام والخذلان، والرغبات والمخاوف، كلها في نسيج إنساني معقّد واحد ودقيق: «أستحقّ ماضيّ؛ والألمَ الذي خاطني كالأمواج في البحر. استحقّ الموجة التي سحقت روحي ورفعت السماء عن عينيّْ حتى غطس تفكيري في الرمل. أستحق ما لم يحدث لي وما حدث، فالقصيدة التي سافر إليها السيّاب كالغريب على الخليج، لم ترجع بعدُ من الصدى، أو بمعنى أصحّ طارت البلاد وصدق المنجمون» لأحمد كياسته الشعرية الخاصة، إذا جاز التوصيف، فقد كان جريئا إلى حدٍّ يثير الغيرة حقا؛ يحفر في ماضيه الشعري ويعيد ترتيب الصور والأشياء والكلمات؛ بل يعيد ترتيب العالم وفقا لرغبات شخصية وأشواق عليا كأنما هو شعب من الشعراء وليس أحمد راشد ثاني وحده فحسب. كنا ندرك تماما أن ثمة فرق بين ما يعيشه الشاعر وبين ما يتأمل فيه، لكنّ أحمد على غفلة من أصدقائه الذين جادلوه عميقا في كتابة الشعر كان ينظر إلى الموت مبكرا، ليس كذلك فحسب بل يحدّق مليّا في المصير الذي سيكون بعد الموت: «أنا فشل الماء، وضياع القبور». هذا التأمل لم يكن نزوة. أو «ينتابني شجن الشجرة».. كما لو أنه يقول: لا أحنّ إلى أي مكان أو أحد. شعر أحمد راشد محمّل بمرجعيات ثقافية عربية وإسلامية قد يبدو من الصعب على مَنْ لا يدرك تلك الثقافة أن يؤوّل هذا الشعر وفقا لأي معنى من معانيه الدالّة، خاصة فيما يتصل بالوجدان العميق للفرد ونشأته وتكوينه وظرفه الخاص. لكن أحمد بالمقابل كان يمتلك روحا تحترق، وكان يودّ أن يقول كل شيء دفعة واحدة أو طلقة واحدة، حيث لا وقت لتلويحة وداع، حيث كلّ فكرة لم تعد تُطاق أبدا. الانشغال بالكتابة والعيش والتفاصيل الصغيرة للعائلة، لم تكن إلا ممرّا للعبور إلى المفازة الأخرى. فانتهى الأمر. إرث أحمد راشد ثاني من أبرز الأعمال الشعرية والنصوص الأدبية وفي الأدب والتراث الشعبي التي تركها الشاعر الراحل أحمد راشد ثاني إرثا له ولكل المثقفين ومتذوقي الأدب في العالم العربي، العناوين التالية: ? سبع قصائد من أحمد راشد ثاني إلى أمه التي لا تعرف: شعر عامي. الدار العربية، دمشق، 1981. ? أغاني البحر والعشق والنخيل: إعداد. جزءان، جامعة الإمارات، العين، 1981 / 1982. ? دم الشمعة: شعر. دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة، 1991. ? يالماكل خنيزي ويا الخارف ذهب: شعر عامي. أبوظبي، 1996. ? قفص مدغشقر: نص مسرحي. دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة، 1996. ? ابن ظاهر: بحث توثيقي. المجمع الثقافي، أبوظبي. 1999. ? حافة الغرف: شعر. دار الانتشار العربي، بيروت، 1999. ? العب وقول الستر: نص مسرحي. دار الانتشار العربي. بيروت. 2002. ? حصاة الصبر (الجزء الأول من السرد الشفاهي). إعداد. المجمع الثقافي، أبوظبي، 2002. ? دردميس (الجزء الثاني من السرد الشفاهي). إعداد. المجمع الثقافي، أبوظبي، 2003. ? جلوس الصباح على البحر. شعر. اتحاد كتاب وأدباء الإمارات. الشارقة، 2003. ? ... إلا جمل حمدان في الظل بارك (الجزء الثالث من السرد الشفاهي)، إعداد، المجمع الثقافي، أبوظبي، 2005. ? يأتي الليل ويأخذني. شعر. دار النهضة العربية، بيروت 2007. ? رحلة إلى الصير، بحث، هيئة أبوظبي للثقافة والتراث، 2007. ? أرض الفجر الحائرة - 2009. ? الأعمال الشعرية ـ 2010.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©