الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

شمشون ودليلة .. صناعة الأسطورة أو أسطرة السياسة

شمشون ودليلة .. صناعة الأسطورة أو أسطرة السياسة
23 فبراير 2011 19:38
صيغت بلؤم وحبكت بدهاء، وتم الترويج لها بعناية باستخدام كافة أشكال الأوعية الفكرية والثقافية والفنية، فألفت عنها عشرات الكتب وكتبت كقصة للأطفال وصممت كألعاب لهم، وجسدتها عشرات الأعمال السينمائية والمسرحية والموسيقية التي وجدت فيها مناخاً درامياً خصباً يصلح للخيال الفني والروائي والقصصي، وتتصاعد خيوطه الصراعية جاذبة المشاهد الذي يفتتن عادة بقصص الغواية والخديعة. لكن أسطورة “شمشون ودليلة” هي أكثر من مجرد قصة عادية عن الحب والخيانة، ولعل واضعوها أرادوا لها ذلك لكي يحرفوها عن مراميها ويفرغوها من دلالاتها ومرموزاتها الأصلية مستخدمين لتحقيق هذا الهدف كل وسائل التأثير وفي مقدمتها الدين، لكي تكتسب صدقية وقداسة لدى الناس العاديين الذين يتعاطون مع القصص الديني بإجلال واحترام ولا يعرضونه للمساءلة ولا لاختبارات العقل، ولهذا ازدهرت ونمت وترعرعت هذه الحكاية في تربة توراتية، ومن شاء أن يرى بالدليل كيف تصنع البطولة وتختلق الأسطورة فما عليه إلا العودة الى قصة شمشون هذا في الكتاب المقدس (سفر القضاة: الإصحاحات 13- 16). للتدليل على الطريقة التي خدمت بها هذه الحكاية الخرافية يكفي القول إن هوليوود أنتجتها سينمائياً ثلاث مرات (1908 و1923 و1949) وقدمت على معظم المسارح الغربية كعروض مسرحية وموسيقية وأوبرالية أشهرها أوبرا المؤلف الموسيقي “سان سون” (1835-1921) التي يرى بعض النقاد أنها “تجاوزت النسيان”، وقدمتها كل تلك الأعمال بوصفها حكاية حب وخيانة وغيبت المرامي والغايات السياسية التي تقف وراء الأبعاد الميثولوجية وما تقوم عليه من دلالات رمزية ذات علاقة بالصراع التاريخي بين الفلسطينيين وبني إسرائيل القدامى. والغريب أنها تسربت الى ثقافتنا الشعبية حتى صارت تضرب في معرض القوة والجبروت، وربما يتفاخر الشاب القوي على أقرانه بأنه (شمشون الجبار) بل إن بعض الفرق التي تقوم بأعمال صعبة وقاسية مثل جر السيارات أو رفع الأثقال أطلقت على نفسها اسم هذه الشخصية الخرافية التي اختلقتها العقلية الصهيونية وروجت لها حتى باتت رمزاً للقوة واجتراح العجائب والأفعال الغرائبية، من دون أن ينتبهوا إلى أنهم يستخدمون اسم عدو لهم حارب أسلافهم الفلسطينيين. أما تلك العبارة التي قالها وهو يهدم المعبد على رؤوس أعدائه الكنعانيين (عليَّ وعلى أعدائي يا رب) فواحدة من أشهر الأمثلة المتداولة في موقف الشجاعة والجرأة. الرواية الإسرائيلية تصور المرويات الإسرائيلية شمشون بأنه بطل أسطوري، عاش ـ كما تقول الأسطورة ـ عندما كان الله يعاقب بني إسرائيل بتسليمهم لأيدي الفلسطينيين جراء فعلهم الشرور وتنكبهم عن عبادة الله، وقد بشر بولادته ملاك ظهر أمام والده وزوجته العاقر، وقال إن الولد سيخلص الإسرائيليين من الفلسطينيين، وطلب الملاك من أمه أن تمتنع عن المشروبات الكحولية وأن لا يحلق أو يقص شعره أبداً: (لا يعلُ موسى رأسه لأن الصبي يكون نذيراً لله من البطن، وهو يبدأ يخلص بني إسرائيل من يد الفلسطينيين) كما جاء في الحكاية التي وردت تفاصيلها في الكتاب المقدس، سفر القضاة، الاصحاح الثالث عشر والاصحاح الرابع عشر. كبر الطفل وترك بلاده ليرى مدن الفلسطينيين وهناك أحب امرأة فلسطينية وتزوجها، وحسب الرواية التوراتية كان هذا الزواج ضمن الخطة الإلهية لضرب الفلسطينيين!. (انظر كيف تجعل الأسطورة الحب مجرد (خطة إلهية) لهزيمة العدو. وإذا ما سلمنا بصحة هذه الرواية فإن (شمشون) هو الخائن من البدء. فالرجل لديه نية مبيتة للشر والخداع، والزواج ليس سوى وسيلة ليتسلل إلى الفلسطينيين ويعرف مكامن قوتهم وضعفهم لكي ينتصر عليهم، وفي ظني أن أعداءه عرفوا مقاصده وغاياته فسبقوه الى الخداع، وتلك شرعة الحرب منذ خلق الله الأرض لكن العقلية التي صاغت الأسطورة لا تريد أن تعترف بدهاء عدوها ولا ذكائه لهذا تسمي فعلته (خيانة) تستحق القتل والتدمير والحرق بدعوى الانتقام. وهي النظرة التي تتأكد في مواقف أخرى من الحكاية التي صممت فقط لكي تبرز قوة شمشون الأسطورية، ففي الطريق الى عروسه ليطلب يدها يهاجمه أسد آسيوي فيشقه شمشون بيده بقوة الرب وبدون سلاح، ثم إن النحل يعشش في جثة الأسد ويصنع عسلاً، فيأكل منه شمشون ويعطي والديه أيضاً. هذه القصة سوف تكون أحجية يخبر بها شمشون ثلاثين رجلاً من الفلسطينيين في حفل الزواج ويعدهم بثلاثين قميصاً وثلاثين قطعة ثياب. وصيغتها كما وردت في النص التوراتي: (من الآكل خرج أكل، ومن القوي خرجت حلاوة)، وبالطبع سيفشل الفلسطينيون (الأغبياء!) في حل الأحجية فيغضبون ويهددون زوجته بأنهم سيحرقونها مع عائلة أبيها إن لم تكتشف الحل وتخبرهم به، فتفعل. وقبل غروب اليوم السابع (المدة الزمنية المعطاة لهم لمعرفة الحل) أخبروه: أي شيء أحلى من العسل وما هو أقوى من الأسد؟ فرد عليهم: لولا أنكم حرثتم على بقرتي لم تكونوا لتعرفوا حل أحجيتي. وغضب، وقتل ثلاثين رجلاً فلسطينياً وأخذ قمصانهم ليعطيها للثلاثين فلسطينياً الذين حضروا الحفل (هكذا يفي شمشون بوعده: بقتل فلسطينيين ليعطي قمصانهم للذين راهنهم على أحجيته!)، ورغم إجرامه هذا يظل هو الضحية. ومع اكتشافه أن زوجته أعطيت لصديقه كزوجة (لا تخبرنا الحكاية لماذا فعل الفلسطينيون ذلك، لكي لا تقع في الاعتراف بأن الأحجية لم تكن سوى رمز للعلاقة الحقيقية بين الطرفين وهي الحرب وإلا لماذا قتل شمشون ثلاثين فلسطينياً؟ ثم إن هناك سبب آخر مباشر هو قتله لثلاثين شخصاً من قومها) تبلغ القصة ذروة درامية جديدة يبدأ معها انتقام شمشون الرهيب من الفلسطينيين: يضع مشاعل على أذناب ثلاثمئة ثعلب لتركض خائفة في حقول الفلسطينيين وتحرقها كلها، يذبح أعداداً كبيرة من الفلسطينيين. بالطبع لا بد أن يكون زمن الحكاية طويلاً ليتسع لأحداثها الكثيرة، ولهذا ظل شمشون يقضي على إسرائيل عشرين سنة في حكم الفلسطينيين، وعندما يذهب الى غزة ويحاول أعداءه قتله يحطم البوابة ويحملها إلى الهضبة ويلتجئ الى كهف فيلحق به جيش من الفلسطينيين ويطلبون من رجال اليهودية الثلاثة آلاف تسليم شمشون، لكنه من جديد يفك حباله ويحرر نفسه ويهرب عند التسليم، ويقتل ألف فلسطيني بـ (فك حمار)، هكذا هي العقلية العنصرية المتعالية للفكر اليهودي الذي يرى الناس مجرد حشرات او ذباب يمكن التخلص منهم بأبسط السبل. إلى هنا ولم تبدأ بعد حكايته مع دليلة، ولم تفلح خطة “الحب الأول” في تدمير الفلسطينيين، لهذا لا بد من خطة حب ثان ولا بد من حبيبة ثانية هي دليلة، هذه المرأة الفلسطينية التي ستكون واحدة من أهم نساء الحكايات والأساطير على مر التاريخ، والتي كانت وسيلة الفلسطينيين لمعرفة قوة عدوهم، فقد أحبها شمشون، حسب الأسطورة ايضا، فطلب منها بنو قومها/ الفلسطينيون أن تكتشف سر قوة شمشون، وبعد محاولات كثيرة يخبرها أنه يفقد قوته إذا فقد شعره، فتطلب من الخادم أن يحلق شعره، ومع كسر عهده النذيري يتركه الله ويقبض عليه الفلسطينيون ويفقأوا عينيه وبعد أن يصبح أعمى يأخذونه الى غزة ويسجنونه هناك ليعمل في طحن الشعير. هنا يبدأ التعاطف مع شمشون من قبل اي مشاهد يشاهد العمل السينمائي او المسرحي او الأوبرالي أو حتى من يقرأ النص إن لم يكن لديه وعي نقدي وقدرة على المحاكمة المنطقية. فانكسار البطل الجبار وتحوله الى مجرد اعمى يطحن شعير أعدائه يثير مكامن الحزن والشفقة عليه من جهة، ويستثير نوازع الحقد والكراهية على دليلة التي أوصلته الى هذه الحال من جهة أخرى... ومع التصعيد الدرامي للقصة او الفيلم يتصاعد تحريض المشاهد على كراهية الفلسطينيين و(دليلتهم الخائنة). الحكاية لا تنتهي عند هذا الحد، ولا بد من لحظة التطهر التي يختتم بها اي عمل فني في الغالب، وتلك تتمثل في مشهد اجتماع الفلسطينيين للاحتفال في المعبد ليضحوا للإله داجون كشكر له على الإمساك بشمشون. وإمعاناً في توتير المشهد يحضرون شمشون ليسليهم فيما يشاهد الحفل ثلاثة آلاف رجل وامرأة على سطح المعبد، لكن المفاجأة التي ستريح قلب المشاهد او القارئ تتمثل في أن شعر شمشون يكون في هذه الفترة قد عاد ونما وطال: “فسأل الخادم عن أعمدة المعبد الرئيسية لكي يستند عليها: “وقبض شمشون على العمودين المتوسطين اللذين كان البيت قائما عليهما واستند عليهما الواحد بيمينه وآخر بيساره، وقال شمشون: لتمت نفسي مع الفلسطينيين، وانحنى بقوة فسقط البيت على الأقطاب وعلى كل الشعب الذي فيه؛ فكان الموتى الذين أماتهم في موته أكثر من الذين أماتهم في حياته”. بهذه الخاتمة التي تنتصر لشمشون وتصوره مثالاً للتضحية بنفسه من أجل قومه يختتم النص الأسطوري، والتي يرى فيها بعض النقاد أنها “أول عملية انتحارية مدونة في التاريخ استهدفت تدمير المعبد على رؤوس المتواجدين فيه”، مؤكدين أن الفلسطينيين الذين يقومون بالعمليات الاستشهادية لا يفعلون سوى تكرار ما قام به شمشون اليهودي قبل ثلاثة آلاف عام ومحاربته بنفس الكيفية التي جرى الترويج لها واعتبارها بطولة خارقة. الرواية الأخرى بيد أن للفلسطينيين روايتهم المغايرة، ففي كتابه الموسوم بـ”السينما الإسرائيلية في القرن العشرين” وهذا واحد من الكتب التي حللت الحكاية تحليلاً نقدياً واعياً، يقلب عز الدين المناصرة الأسطورة ويرويها بشكل مختلف تماماً، فهو يرى أن دليلة الفلسطينية لم تكن عاشقة لشمشون (عدوها) بل كانت تخطط لمعرفة سر قوته، حتى إذا نجحت في معرفة هذا السر بعد غوايته تقص له شعره، ثم تسلمه للجنود الذين يكبلونه بالحديد ويفقأون عينيه”. ولعل أوضح من رأى الحكاية بعيون ناقدة وفاحصة مقدماً الكثير من الإضاءات الغائبة في متن النص هو الشاعر والمسرحي معين بسيسو، الذي كتب مسرحية بعنوان “شمشون ودليلة” ضمنها قراءته المختلفة لهذه الحكاية. ويأخذ بسيسو على بعض المؤرخين ونقاد الأدب والتاريخ القديم العرب أنهم أعطوا، وهم لا يدرون، شمشون الإسرائيلي جواز سفر لكي يمر عبر حدود تاريخهم، ويصبح بالتالي جزءاً من تاريخهم الفولكلوري. ويرى معين بسيسو أن بعض الكتاب والنقاد “حولوا سكان غزة القديمة الشرعيين الأصليين الذين هم الفلسطينيون إلى هنود حمر، يقتلهم “الكاوبوي” الأميركي ويطاردهم بالرصاص، ويرتفع تهليل المشاهدين له كلما أسقطت رصاصته هندياً أحمر. ولقد كان شمشون هو ذلك “الكاوبوي” الذي كنا نهلل له ونحن لا ندري كلما قرأنا التاريخ المكتوب في تلك الأوراق اليهودية القديمة وتتبعنا أخبار معاركه ضد الفلسطينيين... ولكن غزة التي استطاعت أن تقبض على عنق تلك القوة الحيوانية التي لم يكن سر قوتها في حكمتها أو ضميرها أو فكرها ـ بل في عضلاتها.. غزة الفلسطينية القديمة ـ وبواسطة ابنتها البكر الأصيلة دليلة، التي دفعت إلى وكر الضبع الهرقل كفدية عن شعبها لانقاذه، عرفت غزة كيف تلقى على ذلك البطل الخرافي، ذلك الدرس السهل، حينما أرغمته على جر الطاحون.. كأن غزة الفلسطينية القديمة تريد أن تقول لغزة الجديدة التي تقاتل الآن ذلك الشمشون من الحديد والنار ـ الاحتلال الإسرائيلي ـ أن نهاية كل الطغاة إلى الطاحون.. إلى الدوران حول الحجر.. وبلا نهاية. فالقوة الباطشة في نهاية المطاف لن تحقق ذاتها.. بل ستدمر ذاتها.. وليسر معها العالم تدمره معها كما فعل شمشون القديم حينما أطاح بأعمدة المعبد، فهلك وأهلك معه الكثير من الفلسطينين”. لكن شتان بين هذه الصورة وهذه الدلالات التي تكشفها قراءة بسيسو للأسطورة القديمة وبين الصورة المروَّج لها سينمائياً والتي تطرح المسألة حسب وجهة النظر الصهيونية والتوراتية، فشمشون (المسكين!!) الذي يمثل (الخير) يقع ضحية دليلة المخادعة التي تمثل (الشر)، والفلسطينيون (الأشرار!) يفقأون عينيه ويحولونه إلى مهرج يتسلون به في أعيادهم. والنتيجة المنطقية التي يخرج بها أي مشاهد يرى الحكاية في صياغتها اليهودية هي كره الفلسطينيين والانحياز الى الإسرائيليين... ومن لا يعرف حقيقة الصراع وما يجري على أرض فلسطين والطريقة التي يصنع بها الإسرائيليون أكاذيبهم ويوظفون من أجل تكريسها وترسيخها وإلباسها ثوب المصداقية كل شيء: الدين والإعلام والمال، سيصدق حتماً ما يرى، ولن يدرك أن الإسرائيليين أسطروا هذه الشخصية للتخلص من تناقضاتها اللامنطقية واللاعقلانية، ولن يعرف إطلاقاً مدى الخطل التاريخي والعيوب الفنية في الحكاية التي قصد منها تمجيد الشخصية اليهودية وصناعة البطل الموهوم ولو باستغلال المشاعر الإنسانية واستثمار حب النفس الفطري للخير وكراهيتها للشر. تجليات شعرية هكذا صارت دليلة النبيلة امرأة غانية، جاسوسة، قبضت ألف قطعة من الفضة مقابل كشف سر شمشون البطل الإسرائيلي وتسليمه لأعدائه، لتصبح فيما بعد رمزاً للزوجة الخائنة وباتت توظف في الإبداعات المختلفة بهذه الصفة. وعلى سبيل المثال لا الحصر، ها هو الشاعر محمود طه يستخدم الحكاية وبطلتها بوصفها قصة عشق وخيانة ويقع في الفخ المنصوب له عن غير قصد: تسائلني وهل أحببت مثلي وكم معشوقة لك او خليلة؟ فقلت لها وقد همَّت بكأسي الى شفتيّ راحتها النحيلة: نسيت، وما أرى أحببت يوماً كحبِّك لا ولم أعرف مثيله فقالت لي: جوابك لم يدَعْ لي الى اظهار ما تخفيه حيلة وفي عينيك أسرار حيارى فكذب ما تحاول أن تقوله فقلت: أجل، عرفت هوى الغواني لكلٍّ غاية، ولها وسيلة اذا طالعتني أُنسيتُ جرحي وأن الحب لم يرحم قتيله وجاذبني الى اللذات قلب شقيّ ضلَّ في الدنيا سبيله وعدت ـ كما ترين ـ صريع كأس أنا الظمآن لم يطفئ غليله فقالت: كيف تضعف؟ قلت: ويحي وكيف أطاع شمشون دليلة؟ وبغض النظر عن ضعف القصيدة وركاكتها على المستوى الفني إلا أن الشاهد هنا هو توظيف الشاعر لأسطورة دليلة، فقد جاءت شخصية هذه البطلة الفلسطينية المظلومة والمفترى عليها كما صورتها الرواية الإسرائيلية: غانية (يصفها النص التوراتي بـ”مومس”)، أغوت شمشون فأطاعها لأنه أحبها فكان ضعيفاً أمامها وهذا ما حدث للشاعر الذي تماهى مع شمشون في ضعفه أمام الحب. هذه الإسقاطات هي في الغالب الإطار الفني الذي تنحصر فيه استيهامات المبدعين واستلهاماتهم للنص، وهو عين الهدف الذي سعت إليه الرواية بصيغتها الإسرائيلية. مبدع آخر أنجز الحكاية نفسها في أوبرا غنائية باسم “شمشون ودليلة”، وهو الموسيقار داوود حسني الذي يوصف في بعض الأدبيات الموسيقية العربية بأنه ارتفع بموسيقى الشرق الأوسط (لاحظ التعبير) إلى مستوى عالٍ لم تصله من قبل، وأطلق عليه لقب موسيقار لأنه أول من لحن الأوبرا الكاملة في الشرق العربي. أما حسني هذا فهو من طائفة اليهود القرائين، ولد في القاهرة قي 26 فبراير سنة 1870 من عائلة مصرية واسمه في شهادة الميلاد (دافيد حاييم ليفي) وعاش في حي الصنادقة الشعبي القريب من حي اليهود القرائين في قسم الجمالية. وأما الأوبرا فكتبها بشارة يوكايم وقامت بأدائها فاطمة سري وزكي عكاشة. اسقاطات معاصرة من موظِّفي الحكاية أيضاً المخرج الإسرائيلي آفي مغربي، وهو من نشطاء السلام في إسرائيل، لكنه حاول في فيلمه: “انتقم ولكن لعين واحدة فقط من عينيّ” أن يقرأ الحكاية بعيداً عن أسطوريتها ومرجعيتها الدينية، وأن يناقشها ضمن الجدل الدائر حول العمليات الاستشهادية التي يسميها الإسرائيليون العمليات الانتحارية، محاولاً الإجابة على سؤال مفاده: ما الذي يدفع الفلسطينيين إلى القيام بعمليات انتحارية أو تفجيرية؟ آفي مغربي يذهب بعيداً، سواء على مستوى نقاش الفكرة فلسفياً او على مستوى الغوص في التاريخ ونقده ليحلل “ثقافة الانتحار”، ويناقش ما يسميه قضية المصير الفلسطيني وارتباطها بالمصير الإسرائيلي عبر تحليل الأسطورتين المحببتين إلى الاسرائيليين: الثورة ضد الرومان على جبل “معدة” عندما اختار اليهود الانتحار الجماعي وقيام 900 يهودي بقتل أنفسهم، بدلا من الاستسلام للجيوش الرومانية، في القرن الأول الميلادي، وحكاية البطل التوراتي “شمشون” الذي هدم المعبد على نفسه وعلى الفلسطينيين مضحياً بنفسه، وكأنه يريد أن يطرح سؤالاً جوهرياً بدون أن ينطق فعلياً به: أليس ما يفعله الفلسطينيون اليوم من عمليات تفجيريه، هو نفسه الذي قام به أبطال الأسطورتين المحببتين والمبجلتين لدى اليهود؟!. ويعتبر مغربي أن شمشون هو “أول انتحاري في التاريخ”، إلا أنه يشكك في بطولاته، وينتقد المخرج أيضًا ما يعتبره إعادة كتابة، على الطريقة الاسرائيلية، لأسطورة “شمشون ودليلة”، حيث يُركَّز بشكل مفرط على شجاعة شمشون الذي اختار أن يموت ويقتل معه الآلاف من الأشخاص. ويرى مغربي أنّ الطريقة التي تُلقَّن بها أسطورة الانتحار في قلعة “متسادا” تُساهم في ترسيخ عقلية الحصار والتعنت في المجتمع الاسرائيلي. بالمناسبة كان هذا هو سؤال المخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد الموسوم بـ”الجنة الآن”، وفيه مقاربة لا تخلو من قصور في فهم الدوافع التي تكمن وراء هذا الفعل، خاصة وأن ابو أسعد يركز كثيراً على مسألة الحقد الشخصي والظروف المجتمعية الضاغطة كالفقر والخوف والرغبة في الانتقام متناسياً السبب الجوهري والأهم وهو وجود الاحتلال والرغبة في مقاومته بهذا الأسلوب وغيره. وفي فهم سر مقاومة الفلسطينيين للإسرائيليين لا يحتاج المرء الى الذهاب بعيداً في التاريخ، لا إلى شمشون ولا إلى غيره من دون نفي أهمية هكذا مقاربات أو قراءات، لكن الأمر لا يحتاج سوى الى الذهاب قريباً في الجغرافيا، فعلى الأرض، وأمام الحواجز التي تنتصب كالموت أمام الفلسطينيين مجسدة كل معاني الإذلال والمهانة وسحق أبسط الحقوق والكرامة الإنسانية سيجد الكثير مما يتكفل بشحذ كل أساليب المقاومة والتضحية، وسيعثر على إجابات لكل الأسئلة بما فيها ذلك الذي لا يفهم كيف يكون الموت أفضل من الحياة. فالإسرائيليين لم يجدوا أفضل من شخصية شمشون ليستوحوا منها أفعالهم ضد الفلسطينيين الحاليين تماماً كما فعل أجدادهم مع الفلسطينيين القدماء، لكن شمشون هذا العصر ليس نبياً أو نصف إله ولا هو كائن أسطوري مصاغ بعناية ليحقق هدفه المقدس: قتل الفلسطينيين وإحراقهم. شمشون العصر الحالي هو الدبابات والطائرات والقنابل العنقودية والفسفورية التي تقوم بمهتمها الشمشونية في كل الحروب التي تشنها إسرائيل: تقتل وتدمر وتحرق وتتلف حقول الفلسطينيين وتهدم بيوتهم تماماً كما فعل شمشونهم الذي أطلق ثلاثمئة من ابن آوى بعد أن أشعل اذنابها لتحرق حقول الفلسطينيين. وإذا كان شمشون القديم قد قتل ثلاثة آلاف من الفلسطينيين بـ (فك حمار) فإن شمشون العصر الحالي يقتل آلاف الفلسطينيين بقنبلة واحدة، بل وهو قادر على قتل ملايين العرب والمسلمين بضغطة زر. شمشون هتلر ليس من غريب الصدف أبداً، أن تكون شخصية شمشون الإسرائيلي القديم من أكثر الشخصيات قرباً لقلب الهر “أدولف هتلر” رغم عدائه للسامية. وفي الجلسات الخاصة “للهر”.. ومع الصفوة المختارة لبطانته العسكرية.. كان لا يفتأ يردد، وهو يضرب المنضدة بقبضة يده: لقد كان رائعاً ذلك الشمشون... ولم يكن ينقصه غير جواز سفر ألماني.. لكي يصبح بطلاً من أبطال العالم على مر العصور. معين بسيسو استحالة إن حكاية صيده لـ 300 ابن آوى (ثعالب) مع استحالة واقعيّة لصيد عشرة منهم، ثمّ تسطير هذه المئات من ابن آوى كالجند المصفوفة، وانتظارهم له طائعين كالدّمى يربط بين أذنابهم ويضع المشاعل وسط عُقَدها، فهذا حتّى أعتى أفلام الكارتون و”ديزني لاند” تسطيحاً تعجز عن رسْمها وتجميع لقطاتها المضحكة في نفسها وعلى العقل!!. ومن جهة ثانية لا ندري ما حكاية “فكّ الحمار” دون غيره، فشمشون هنا يقتل الفلسطينيّين بفكّ حمار، وقابيل قبلاً يقتل أخاه هابيل بفكّ حمار! ألا يُوجَد شيءٌ غير هذا الفكّ؟ أم هي بصمةُ من عقليّة المدوِّن القاصّ؟! د. ابراهيم عباس
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©