الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الشاليه

الشاليه
28 فبراير 2014 23:00
‎كان ذلك الشاعر يحكي عن تجاربه الشعرية في بلدة دسوق، قال إنه كان في جولة على النيل مع قيادات المحافظة، وكانوا في مناقشة، فلاحظ في ضيق أنهم لم يأخذوا رأيه باعتباره من ذوي الحجا والحكمة. وقال: واحسرتاه على العامة يصغون لذوي المناصب ولا يصغون للحكماء.. لقد اغتاظ جداً لأنهم يسمحون للمحافظ بالكلام ولا يسألونه هو. يقول الشاعر إن شيطان الشعر جاءه في النهاية بالحكمة مقطرة في شكل أبيات تلذ السامعين، هي: حـولـــي جــــذوع ونخــــلُ والنخــل فــي الجــو يعلـــو هذه هي الحكمة المقطرة التي كان يطالب رفاقه بالصمت كي يسمعوها. هذه هي مشكلة الشعراء: يعتقدون أن كل ما ينطقون به درر الدرر. هناك نقطة أخرى مهمة جدًا هي أنهم يشعرون أن من واجبهم أن يتصرفوا كشعراء طيلة الوقت. يقول الشاعر السوفييتي إيفتوشكنو إن شاعراً كبيراً سأله: «ما الذي تحاول أن تقوله في شعرك غير أنك شاعر؟». ينطبق الأمر كذلك على الكتاب وكل من يعملون بمهنة غريبة هي (التأمل). لابد أن يشردوا ناظرين للأفق ليقولوا بعض الكلام الفارغ. صديقي هذا يكتب مقالات شاعرية لإحدى المجلات. هو أصلاً لا يكف لحظة واحدة عن الكلام عن البحر. لما تجمع لديه قدر من المال ابتاع (شاليه) في الساحل الشمالي. وكان من حظه الحسن أن الشاليه يطل مباشرة على البحر. يجب أن أقول هنا إنه ليس ثرياً.. أي أنه ابتاع الشاليه بكل مدخراته وصار في وضع الصفر. قلت له: «سوف تجلس أمام الشاليه وترمق البحر وتكتب المزيد من الكلام الفارغ». أعتقد أن هناك داء يجعل كل شخص ينظر إلى البحر يكتب كلاماً من عينة: «كم من أسرار عميقة فيك أيها البحر.. في أعماقك اللؤلؤ والمرجان وأسرار لا تنوي أن تفصح عنها.. إلخ». قال صديقي إنه لا يقبل أن أسخر منه، وإنه سوف يكتب روائع لا تقل روعة عما كتبه هيرمان ملفيل وهيمنجواي وهما يتأملان البحر. هكذا ذهب إلى هناك ليجلس أمام البحر أربعاً وعشرين ساعة. رحت أبتاع المجلة لأرى ما يكتبه، فقرأت مقاطع كنت أتوقعها وأخشاها: ? «كم من أمم بادت وزالت بينما تبقى أنت أيها البحر سرمديًا عظيماً» ? «أنا منك أيها البحر وأنت مني.. كلانا نتغير في كل ثانية» ? «ترى هل ما زلت شاهداً أيها البحر على قصة حبنا؟» كلام من هذا الطراز لا ينتهي.. لو أعطوه مكتبة الكونجرس لملأها فوراً.. بالطبع كان يتوقف في اللحظة التي تمر فيها أول فتاة تتأود في مشيتها.. عندئذ كانت عيناه تجحظان ويتابعها بعينيه حتى تغيب. هذه من اللحظات النادرة التي كان ينسى فيها تأليف هذا الكلام الذي يكتبه (بالكيلو جرام). لكن المشكلة ازدادت خطورة .. كلما اتصلت ببيته لم أجده.. إنه هناك في الساحل الشــمالي فـي الشـاليه، ومن الواضح أنه لن يعــود أبداً.. زوجته في بيتها في القاهرة وحدها تقول لي إنها اضطرت لتركه، لأن لديها أعمالاً مهمة.. هو لا ينوي أبداً ترك ذلك المكان اللعين.. ? «أيها البحر كم أنت عميق وعظيم وصموت» ? «آه وآه ثم آه عليك أيها البحر وعلى زبدك الأبيض...» ? «لو أنني سمكة تلهو في أعماقك لعرفت أسرار الكون وعرفت سرك» بدأت أدرك الحقيقة المرعبة: إنه يحاول استرداد ثمن الشاليه. كلما جمع مجموعة من هذه الخواطر أرسلها للنشر وقبض ثمنها، ثم استراح قليلاً من البحر اللعين بمشاهدة الحسان يلهون حول الماء. لا مفر أمامه.. لقد صار يكره البحر بجنون.. يكره لونه وصوت أمواجه ورائحته.. لكنه مضطر لأن يجلس هنا للأبد كي يجمع مالاً يسدد به ثمن الشاليه.. لابد من مزيد من الخواطر.. السفن التي غرقت تحت الماء.. الغطاسون.. إيطاليا النائمة على الجانب الآخر.. التأمل كارثة حقيقية سواء للكتاب أو الشعراء، ولا أدري من الأكثر تعاسة.. الكاتب أم البائس الذي يرغم على سماع هذا الهراء؟
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©