الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«البحر بيضحك ليه ...»

«البحر بيضحك ليه ...»
23 فبراير 2011 19:43
مَنْ مات قبل مطلع عام 2011، هذا العام الذي نعيش، فإنه بلا شك قد خسر معاصرة لحظات عظيمة ومهيبة وفخمة واستثنائية وفاصلة. فلقد تغيَّرت الكثير من مظاهر الحياة، وأفكارها وأحاسيسها مما قبل ثورتي الشباب في تونس ومصر، المتتاليتين، ومما بعدها. تغيَّرت وستتغير. سنصاب بالدهشة كما سنصاب بالدمعة الطافحة من الأرواح المسحوقة. لقد قال لي محدّثي بأنه عندما وصل إمام صلاة “جمعة النصر” في ميدان التحرير إلى الآيات القرآنية التي تتحدث عن هزيمة الظالم، وردد الآية التي تقول: “... والحمد لله رب العالمين”، اندلعت في داخله دمعة، دموع، ملأت عينيه، ونظَّفت روحه، رغم أن هذا المتحدث، والذي أعرفه منذ سنين، لم يكن لديه أي اهتمام بالشأن العام. لعلَّ دمعة صاحبي هذه، هي ما أكدت لي أن ما حدث في تونس غيَّر وسيغير الفضاء العام في المنطقة العربية، فضاء التفكير، كما فضاء الكلام والمثاقفة والتعبير، كما فضاء الحياة. ونحن الجيل المهزوم، قد نكون قد سمعنا أو تحدثنا عن الثورة بهذه الطريقة أو تلك، وطوال الخمسين سنة التي عبرناها ونحن نعيش على هذه الأرض، إلا أنه، وفي هذين الشهرين فقط تلمسنا كيف تحدث الثورة، ولماذا تسمى ثورة، تماماً كمن سمع كثيراً عن الوردة ولكنه لم يرها، وتماماً كمن يسمع عن اغتباط أحدهم بإحدى السمفونيات الموسيقية، ولكنه لم يتعرَّض، هو شخصياً، هو روحياً، لمثل هذا الاغتباط. تقول الأغنية: “البحر بيضحك ليه وأنا ماشيه أتدلع أملا القلل” ففي هذه الكلمات ماء كثيف، ماء متلاطم ومتحرك ورجراج، فالثورة ـ في الأخير ـ هي موجة عظيمة تغسل أدران السواحل، والقلل تسقي قبور العطش المفتوحة، كما أن التي تمشي بدلع تحرق الأخضر واليابس في القلوب، كي يبدأ العالم من جديد، كي تبدأ الحياة من جديد، وإلا ما جرى الماء تحت جسور الرماد، ولا حدثت الأغنية، ولا ضحك البحر. ومن أبرز ما أظهره هذا العام المجيد، عام 2010 هو ما كان يراود الكثير من الانحطاط والفساد الأخلاقي الذي كان ديدن حياة أغلب المثقفين العرب. فالنخبة الثقافية هذه لم تكن تقل فساداً وعفونة عن النخبة السياسية والاقتصادية، إن لم تتجاوزها. فأستاذ الجامعة والصحفي والناقد ومدير المؤسسة الثقافية وركام غليظ من الفنّانين والمتفقهين كانوا، وما زالوا يقدمون الأمثلة على بؤس التفكر والمسلك في هذه البلدان العربية التي كانت وإلى قبل أسابيع تحت رحمة الفساد والجور ومصادرة كرامة الإنسان الفرد وحريته. ولهذا فإن من أجمل ما عبَّرت عنه ثورتي الشباب في كل من تونس ومصر، هي أنها بلا مرجعيات ثقافية محددة، لا يوجد خلفها أنبياء، ولا يقودها بطل. الجميع أبطال، الشعب هو البطل، الملايين هم الأبطال. إنها لحظة فرز بالتأكيد. ولكن لندع ذلك الفرز لهذه الموجة العظيمة التي أكدَّت في الأساس على أن “الشعب” ـ هنا فحسب صار لهذه المفردة المستهلكة معنى ـ هو مصدر الدساتير والسلطات. الكل بعد الشعب: القوى والمصالح والانتماءات. الكل بعد هذا الحشد الذي كان متفرقاً واجتمع وتحول ـ بقدرة قادر ـ إلى قلب عضوي حي، يوزع الدم على غدران الحياة، وينبض بكل ما يفكر ويحتاج له كل الجسد، جسد الكل. ورغم ذلك لم يتوانى المثقفون والكتاب ـ وأنا منهم ـ عن الكتابة عن ما حدث وسيحدث. هذا لا يمكن التوقف عنه أو توقيفه، ولكن أغلب الكتابة هذه في الحقيقة، هي ردَّة فعل، ليس بامكانها أن ترتقي إلى بهاء الفعل، ومشرطه المؤلم، ونتائجه التي لا تحد. فالثورة موجة عظيمة، ولكنها كذلك قصيدة عظيمة، فأعظم القصائد، كما سطَّر لوتريامون مرَّة، هي التي سيكتبها الجميع. “إن الكذبة تدور حول العالم فيما تحاول الحقيقة ارتداء حذاءها”، هذه “الحكمة التقليدية” أوردها محمد عارف (مستشار في العلوم والتكنولوجيا) والتي صرت منذ فترة قصيرة أُتابع مقالاته التي تنشرها جريدة “الاتحاد” في صفحاتها “وجهات نظر”، والكاتب عارف تذكر هذه “الحكمة” في معرض حديثه عن تكنولوجيا المعلومات (من الهاتف النقَّال وحتى فضاءات النت)، إذ أنَّ “تلقائية الرسائل وفوريتها أهم ملامح شبكة الاتصالات الاجتماعية التي تتكون وتنحل تلقائياً”. شبكة طوارئ “متأهبة” لمطاردة الأكاذيب، بل “الحقيقة” مع مثل هذه الشبكات استطاعت أن تلبس حذاءها بسرعة وتلحق، وحتى تلحق بالأكاذيب، خاصة وأنها، أي تلك الشبكات “لا تبحث عن أجوبة، بل عن أسئلة” مما يجعل “التنبؤ عسير” بما يمكن أن تحدثه من “ثورات” (جريدة “الاتحاد”، 17-02-2011). والشاعر الشعبي المصري أحمد فؤاد نجم هو الآن في “حكم التاريخ”، ويأتي هذا الكلام لأنه أصبح “شيخاً مقارنة بالشباب، ومن هؤلاء الشباب من يورده عارف، في المقال نفسه، فيوم “أشعل النار بنفسه الشهيد التونسي محمد البوعزيزي توقفت عن الكتابة الصحفية المصرية الناشطة نوَّارة (أحمد فؤاد) نجم، وفي 25 يناير انطلقت بالكلام من ميدان التحرير 18 يوماً عبر الموبايل وبث يومياتها على مدونتها (التهييس). وكان أوَّل تصريح لإحدى الفضائيات لحظة الإعلان عن تنحي مبارك زغرودتها المصرية الطويلة”. ولعلَّ أهم ما لفت انتباهي في هذا المقال هو ربط الكاتب بين “الزغرودة” وسقوط المطر. فبالفعل تكاد تكون الزغاريد والتهاليل محاكاة صوتية لانهمار المطر، وجريان الوديان وهي مملوءة بالمياه في الأحشاء الجائعة للجبال المكفهرة. نوارة كذلك قالت، حسب الكاتب، للتونسيين: “قلبان وسهم، وبوسة كمان”. وهو قول نربطه بقول آخر ورد في المقال كذلك، إذ أن “النقد الذاتي هو القانون السيكيولوجي للثورات”. والنقد، وانتشار ثقافة النقد والمساءلة هي من أكبر التغيرات التي ستحدثها ثورتا تونس ومصر، إذ لا أحد منا يكاد يصدق بأن ما ساد في السنوات الأخيرة من اندلاع خطب ومقالات وأشعار التبجيل والمداهنة والمديح يكاد أن يتحوَّل الآن إلى رماد تذروه رياح أكيدة من المساءلة والتدقيق والنقد والتفكيك، والنظر، ومعاودة النظر في النظر. ولعلَّ من أهم ما ينبغي إعادة النظر فيه هي تلك “الأنا المتضخمة” التي عملت السلطات الهاربة والسابقة والبائدة على زراعتها في العقل الجمعي. ولعلَّ ذلك هو ما كان يريد العالم أحمد زويل التعبير عنه في أحد مقالاته (الإمارات اليوم، 17-02-2011)، فمصر، على حد قوله، تواجه “معضلة كبرى، فعلى المستوى الوطني ينبغي أن تطهر مصر الفساد الذي تجذَّر في النظام السابق، وأن تبدأ في الحال إصلاح النظام البيروقراطي الحكومي، وكانت السياحة وقناة السويس والموارد الطبيعية تمثل في عهد الرئيس السابق حسني مبارك جل ثروة البلاد، وهو ما يعتبر قاعدة اقتصادية ضيقة لدولة تبحث عن مكان لها بين الدول في القرن الحادي والعشرين، وتعتبر مصر دولة غنية برأس مالها البشري، إلاّ أنها تُعاني من النسب العالية للأمية، ويقف نصف سكان مصر البالغ تعدادهم 85 مليونا على خط الفقر، ولهذا فإن إصلاح التعليم يعتبر الهم الأساسي، ولن تستطيع البلاد المنافسة في السوق العالمية في الوقت الذي لا يستطيع فيه 30 في المئة القراءة والكتابة”. والمياه تجلي الوسخ من الصحون، ومياه الثورة تجلي الرمد من العيون، فيغدو كل شيء جديداً. ولكل شيء معنى. ليس لمفردات كالشعب والدستور والكرامة والحرية، وإنما لما اعتدناه كالأناشيد والأشعار والخطب. ففي ميدان التحرير يوم “جمعة النصر” كان حتى (الشيخ) يوسف القرضاوي مختلفا وآخر. حيَّا الأقباط ودعا إلى الوحدة الوطنية، وكان الثلاثة ملايين المحتشدون في ذلك اليوم يكادون يسمعون الخطب وكما لو أنهم يسمعونها لأوَّل مرَّة ويكبرون وكما لو أنهم لأول مرَّة... السماء مفتوحة على رؤوسهم وفي رؤوسهم بشكل أوسع مما في أي لحظة عاشوها من قبل، أو عاشها كل من شهد الميدان أو الميادين “الافتراضية” الأخرى كالتلفزيون والنت... وبينما كان النيل نائماً بهدوء وكأنه لم ينم منذ قرون، كانت الأرض لا تكاد تحملهم، رغم الثقل الذي يمثلونه، وتكاد كل تلك الملايين على الطيران... ورغم أنهم سمعوا تلك الآيات القرآنية من قبل كثيراً إلا أن وردة الدمعة نبتت في عيونهم، كما نبتت في عيون صاحبي، فالظالم انهزم، و”الحمد لله رب العالمين”. ولعلَّ الآية القرآنية الأخيرة ستنتظر كثيراً كي تردد بمثل هذا الروح، وهذا الشعور كما رددت في صلاة “ميدان التحرير” المهيبة والجليلة. a.thani@live.com
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©