الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

النمو داخل النص

النمو داخل النص
23 فبراير 2011 19:50
منذ أن كتب سرفانتس روايته الشهيرة “دون كيخوته” ليعلن بزوغ هذا الفن السردي مطلع القرن السابع عشر الميلادي مروراً بكلّ هذا التراث الروائي الفخم نلمس الفكرة المؤطرة بالتقنية الروائية، على أن تموّه هذه الفكرة بتلافيف السرد الشيق للأحداث ورسم الصور النابضة للشخصيات لأن المضمون السافر مهما كان سامياً من شأنه أن يجور على التقنيات الفنية للنص الروائي ويحوّله إلى مجرد وثائق لا حياة فيها، وليس أدلّ على ذلك من بعض الروايات التي يطلّ منها الخطاب السياسي المؤدلج فيفرّ طائر الفن الرقيق وإلى الأبد. وما إن تتوغل إلى عالم رواية “حز القيد” للروائي العماني محمد عيد العريمي حتى تتوثق من أن هذا النص ينفذ إلى جرح عالجته نصوص عربية سابقة بيد أن أسلوب المعالجة هنا يتسم ببصمات متميزة، لعل أبرزها محاولة الروائي إطلاق المكان من إسار مكان معين محدد مفيداً من طاقة الترميز التي تفصح عن أنّ هذا المكان المتخيل (قحطين) يمكن أن نجده في أيّ بلد عربي بل وعالمي أيضاً سعياً إلى أن تعبر الرواية حاجز المحلية الضيقة صوب آفاق إنسانية أكثر اتساعاً. ينتقي نص حز القيد إنساناً عادياً كي يكون بطلاً وسارداً في آن، وهو يكاد يكون بلا مؤهلات بطولية بل إن ثمة ما يشير إلى خلل في لسانه ومعاناته وعجزه عن المشاركة في أيّ حوار بحيث يفضل أن يسكت في كثير من الأحيان، وهو يبوح بذلك عبر منولوجه المتصل الذي يستقطب التقنيات الأخرى داخل النص “وكانت وطأة عجزي عن الكلام تتعاظم وأنا أتابع الحديث والنقاش، فألوذ إلى الصمت قسراً كعادتي، ليس لأن لا رأي لي أو موقف إزاء قضايا بهذا الحجم وإنما تفادياً للفت الأنظار الذي عادة ما تثيره لثغة لساني فيفقد حديثي فحواه، وينتهي المطاف بي إلى اجترار جراحي...” (حز القيد ص 19). وثمة قصور في ثقافته يفضحه منولوجه “ولعلّ هاجسي الدائم لتعويض ما فقدته حين تركت الدراسة مبكراً ودون رغبتي، كان وراء شغفي بالقراءة وحرصي على حضور مثل هذه الفعاليات...” (حز القيد ص 19). أحداث كابوسية إلا أن شخصية بطل الرواية (علي الناصر) تنمو داخل النص وعبر سياق الأحداث الكابوسية التي تقود علي الناصر إلى المعتقل، وهو نموّ ينبع من أعماق الشخصية ويفرضه السياق الروائي بحيث لا يثير أي شك لدى القارئ في أن النص الروائي فرض على شخصية البطل ما يبدو من نسيج آخر يتناشز مع سجيّتها التي عرفها القارئ عنها منذ أن أطلت عليه في السطور الأولى من هذا النص، فلقد كان علي الناصر خائفاً مرتعباً “كنت قد أصبت بذعر شديد وأنا في طريقي إلى مبنى جهاز الأمن، فأصبح بطني كقفص بداخله سمكة حية لا تكف عن الحركة...” (حز القيد ص 58)، ويمتزج خوفه مع إحساس حاد بالنقص حدّ جلد الذات والسخرية منها: “قلت: إذا تكرّمت، خرجت من فمي بلهاء وزادتها لثغة لساني سوءاً... وفتحت فمي بردّ آخر أكثر حماقة من الذي سبقه” (حز القيد ص 67)، في حين أن الأحداث الصادمة فيما بعد تتجه بالشخصية وجهة أخرى مختلفة: “تماسك شتات جسدي الواهن، اختفى خوفي، تلاشى ضعفي، وشعرت بقدرة على الصبر والتحمل ما كنت أعرف أن لي طاقة بها، قوة خفية كانت تدفعني إلى الصمود وتحمّل الألم” (حز القيد ص 174). ويخاطب علي الناصر أحد الضباط بقوله: “هل تضحك على نفسك أم تضحك عليّ؟ عن أي وطن تتحدث، وعن أي مواطن تدافع على أرض تنهشها الذئاب ومصاصو الدماء أمثال الخازوق وغيره؟ فيجيبه الضابط ساخراً: ما شاء الله، أرى لسانك انطلق الآن وخفت لثغته، لا أتذكر أنك تجيد الكلام” (حز القيد ص 184)، ولا يخفى الترميز الكامن في شخصية أحد ضباط الشرطة ممن استحق لقب الخازوق بجدارة، وقبيل خاتمة الرواية يرد على لسان بطل الرواية “والأهم أني خرجت رجلاً آخر غير الذي دخلت به، وإني الآن أكثر رضا عن نفسي وأكثر حباً لها، وأن الإفراج عني لم يأت على حساب أحد” (حز القيد ص 245). ولعل الانطباع السريع عن الرواية يشي بأن هذا النص يتعاطف مع التغيير العنيف وبأسلوب سعد ورفاقه ـ داخل النص ـ بيد أن ثمة شذرات تضيء بعض مفاصل هذا النص بحيث تخطف التغيير باتجاه آخر، ويرهص حوار المقدم إبراهيم منصور مع علي الناصر بطل الرواية بهذه الرؤية “قحطين ليست بحاجة الآن وربما لا تحتمل هذا النوع من التغيير، كان بوسع سعد ومن معه الانضمام إلى الأحزاب القائمة وممارسة حقهم في المعارضة من خلال منابر علنية وشرعية بدلاً من العمل في الخفاء وتضليل الناس بأفكار غريبة لا يفهمها حتى من ينادي بها، ووعود زائفة يعرف هؤلاء قبل غيرهم أن تحقيقها لا يتم بين ليلة وضحاها” (حز القيد ص 58)، وتتاح لعلي الناصر فرصة أخرى للحوار الهادئ المفصح عن رؤية النص لعملية التغيير، إذ يتساءل أحد الضباط ممن تربطهم صلة صداقة قديمة ببطل الرواية: “هل تعتقد أن أساليب جماعتك وعلى رأسهم سعد وظافر في التعامل مع خصومهم ستختلف؟... لا أعتقد أن تلك الأسلحة المكدسة تحت الأرض وعلى سطحها كانت للهو، إنها أسلحة حقيقية وكانت ستستخدم لترويع الناس وقمع كل من يخالفهم الرأي، فيجيبه على الناصر: أي مقارنة هذه بين ما يفترض أن تمارسه دولة نظام وقانون كما كنت تدّعي قبل قليل وبين سلوك عصابة من القتلة والحاقدين كما تتهمونهم؟” (حز القيد ص 185). القسوة والعنف بيد أنّ “حز القيد” (عنوان الرواية) لا يبرر القسوة والعنف إذ أنّ في “حز القيد” بياناً صريحاً عن عمق الجروح التي يخلفها العنف وهو عنوان وآخز تؤازره لوحة الغلاف الأمامي الصادمة التي يتراءى لي من خلالها مسيحاً جديداً تضيع تضحيته سدى أمام منطقين متضادّين، أحدهما: يرفع حجة حماية الوطن واستقراره كي يبرر العنف وسفك الدماء، والآخر: يبرر أيضاً العنف المضاد بحجة التغيير، وفي آخر المطاف لابدّ لهذا التغيير أن يحصل لأنه سجية من سجايا هذه الحياة، والسؤال المهم هنا هو: هل تضيع مثل هذه التضحيات والدماء المراقة أم أنها تعجل بهذا التغيير وعلى النحو الذي توحي به السطور الأخيرة من هذه الرواية: “مشيت على درب كثر رمله وحصاه وترابه، لا ظلّ فيه لغير شجرة لا حت من بعيد كثة خضراء في لوحة كستها الشمس والجفاف يباباً، شجرة قاومت حرارة الصحراء وتقلبات طقسها وأينعت دون سواها وسط الظمأ، شجرة جذعها صلب شامخ وأوراقها نضرة، رأيت فيها ابتسامة ظافر الخضراء” (حز القيد ص 245). وظافر بطل من نمط آخر، كان يعي تضحيته ويتعمدها وهو مصرّ على مواصلة الدرب وإن أفضى به إلى أن يفقد حياته، وقد فقدها حقاً، ولكن ثمرة تضحياته ليست له، فهل هو قدوة لمن اقتدى أم إنه عبرة لمن اعتبر وعلى أساس اختلاط الأوراق وضياع الحقيقة ؟ يرد في السطور الأخيرة من الرواية: “وفي الحافلة عرفت من الركاب ومن بينهم معتقلون سياسيون لم ألتق بهم من قبل، أن الحكومة الجديدة أصدرت عفواً عاماً عن سائر المعتقلين والمطلوبين على ذمم قضايا سياسية في إطار نهج سياسي جديد غايته فتح قنوات حوار تتسع لمختلف الرؤى والآراء” (حز القيد ص 246)، إذن فقد حصل بعض التغيير ولكن ما موقع ظافر من كل هذا وما نفعه منه؟ وكأن الروائي العماني محمد عيد العريمي في روايته يشرع باب الحوار على مصراعيه بشأن آلية التغيير وأدواته إلا إنه لم يقفله وآية ذلك أن روايته بلا خاتمة حاسمة ترجّح إحدى كفتي الصراع حيث يرد في خاتمة الرواية: “وإذ عاد الهدوء إلى الحافلة بعد أن عاد الركاب إلى مقاعدهم، سمعت الجالس بجواري يسأل: لم أتعرف إليك يارفيق؟ التفتُ ونظرت في وجه ولكني لم أجب وإنما ابتسمت وشبكت يدي خلف رقبتي وأضجعت جسدي على ظهر المقعد، ومددتُ رجليّ، ونظرت إلى الأفق البعيد هناك حيث تعانق الأرض السماء” (حز القيد ص 246)، وهي خاتمة مواربة إذ أن هذا الرفيق الجالس إلى جانب بطل الرواية في رحلة الانعتاق من السجن والانطلاق إلى رحاب الحرية قد يكون أحد السجانين المدسوسين على بطل الرواية وهدفه التوثق من براءة علي الناصر وتوبته وبناء على هذا يكون الاتهام مجرد الاتهام لعنة لا فكاك للإنسان منها، وقد يكون ذلك الرفيق الملغز الملغم من دعاة التغيير العنيف ممن لم يثنهم السجن والتعذيب عن عزمهم، وقد ظنّ أنه وجد ضالته في هذا الإنسان العادي سهل القياد علي الناصر بطل رواية “حز القيد”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©