الأربعاء 8 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عناق اليأس والخلاص.. في حفرة ضيقة!

عناق اليأس والخلاص.. في حفرة ضيقة!
23 فبراير 2011 19:51
كيف يمكن التعامل مع قصة واقعية توثق لحالة متأزمة في أقصى حدودها، من أجل نقل محتواها المؤلم إلى الشاشة من خلال فيلم محتشد ومرتبط بزمن ومكان محددين، وكيف يمكن للحلول الإخراجية أن تنقذ فيلما بهذه المواصفات الحرجة من مأزق الجو المغلق والمفتقر للتنويع الدرامي والاتساع المشهدي. قد يبدو هذا التحدي الفني ـ ولأول وهلة ـ عصيا على الانهزام، وعلى محاكاة الجو النفسي العصيب المبثوث في مفاصل التجربة الحياتية المأساوية والمعذّبة التي أنتجت هذا التحدي، خصوصا وأننا نتحدث هنا عن تحويل حدث فردي ملموس ومعاش بكل قسوته وانكماشه أيضا، إلى فيلم موجه لجمهور عريض اعتاد المسارات المتشعبة من الإثارة والتشويق والإبهار الحركي. يتجلى هذا الإشكال المعقد والمرهق تقنيا في فيلم المخرج البريطاني داني بويل “127 ساعة” المعروض حاليا في الصالات المحلية والمستوحى من كتاب: “بين الصخرة والمكان القاسي” وهو عبارة عن مذكرات شخصية حول الواقعة المرعبة التي عاشها متسلق الجبال الأميركي آرون رالستون الذي انحشرت ذراعه تحت صخرة هائلة في صدع جبلي عميق ومقفر في العام 2003 حيث ظل يصارع طيف الموت وحيدا، ولخمسة أيام متواصلة، قبل أن يفلت من هلاك محقق وينفذ بجلده ـ وهو وصف حسب ما شاهدناه في الفيلم يعتبر واقعيا جدا وغائرا حد العظم! ـ ليعيد بذلك اكتشاف حياته مجددا، وليقتحم الجانب المشرق منها، والمشرع على لذة مغايرة، رغم انبعاثها من ألم خرافي لا ينسى. جسد مُعطّل ومع قصة بهذه الحدة والواقعية الشرسة، وبهذا الحيز المكاني الخانق، فإن الأمر يتطلب إمساك العصا من المنتصف، وتقديم فلم يوازن بين الشرط الجمالي وبين الشرط الجماهيري، مطلب صعب ولكن يبدو أنه حقق صياغاته المثلى مع مخرج ذي مرجعية حياتية وثقافية متخمة مثل بويل، والذي قدم قبل عامين فيلم: “مليونير الأحياء المعدمة” بحصيلة وافرة من جوائز الأوسكار، والذي أفصح منذ فيلمه الأول: “ قبر ضحل” Shallow Grave في العام 1995 عن رغبة عارمة في تذويب المقولات الفنية الصعبة وإدماجها في قالب عام يمكن للجمهور بأذواقه المتعددة أن يتقبله ويتواصل معه. في “قبر ضحل” اعتمد بويل على قصة تتنامى وتتغذى على الصراعات النفسية الشائكة بين ثلاثة أصدقاء كانوا يبحثون عن شخص رابع يشاركهم السكن، وعندما يعثرون على الشخص المناسب تنقلب حياتهم الهانئة إلى جحيم، حيث تبدأ شرارة هذا الجحيم مع موت الساكن الجديد إثر جرعة زائدة تاركا خلفه حقيبة مليئة بالمال، المال بدوره يعود لعصابة مسعورة وباحثة عن شريكها الهارب، ومن خلال معالجة فنية بارعة للتحولات المخيفة والمفاجئة والمأساوية التي تطرأ على الشخصيات الثلاث، اكتسب داني بويل مساحة مقدرة من الأوساط السينمائية في بريطانيا، وأجمعت الآراء النقدية وقتها على ولادة موهبة شابة وقادرة على إعادة البريق للسينما البريطانية، وعلى خطى المخرج الراحل ستانلي كوبريك قدم بويل أفلاما عديدة بخطابات مستقلة ومواضيع متباعدة، ولكنه لم يتخل عن أسلوبه القائم الاستفادة سينمائيا من مفهوم “الغروتيسك”، هذا المفهوم الذي بزغ أولا مع ثورة الفنون التشكيلية، ومع فن النحت تحديدا، ثم ظهر في المسرح كأسلوب جامح يكسر المقاييس التزيينية للفن التقليدي، مستثمرا جماليات القبح والقسوة والتشويه ليحاور كل ما هو مدهش وساخر ومتناقض مع البنية الاعتيادية والمكررة للفن وللحياة معا. وفي فيلم “127 ساعة” بالذات يتجلى وعي داني بويل بما يمكن أن يقدمه (الجسد الغروتيسكي) للسينما، خصوصا عندما يتحول هذا الجسد الساكن والمعطل إلى طاقة داخلية متفجرة بالأحلام والكوابيس والهلاوس وحتى بالسخرية التي تزحزح قليلا صخرة اليأس عن هذا الجسد المنهك. يبدأ الفيلم في مشاهده الأولى برسم خارطة ماكرة، تغوي المتفرج نحو متاهة نفسية وبصرية تعتمد على اللقطات والزوايا المفتوحة التي لن تفضي في النهاية سوى لقبر صخري قاحل وموبوء بالوحشة، تتهادى اللقطات الأولى مع المتسلق السيئ الحظ رالستون ـ يقوم بدوره جيمس فرانكو ـ وهو يتجه بدراجته الهوائية إلى محمية مواب بولاية يوتاه الأمريكية والتي تعتبر جنة للمتسلقين الممتلئين بحس المغامرة والمهيأين في الوقت ذاته لمجابهة الخطر بكامل عريه ووعورته، يتعرف رالستون في طريقه على فتاتين تلهوان في بركة مائية تتوسط الجبال، ومن خلال حوارات متفرقة مع الفتاتين تتوضح لنا معالم شخصية رالستون المستقلة والممتزجة باللهو والحرية مع انقياد كامل لإغواء الطبيعة الغامضة والمنذورة لنداءات ساحرة، يذهب بعدها رالستون نحو مغامرته الفردية في محاورة واكتشاف الجبال الصامتة المحيطة به ومن بدون أن يخبر أحدا بوجهته المقصودة، وهناك في المكان النائي والموحش يسقط في أخدود صخري عميق وضيق، وتنجرف معه أثناء سقوطه صخرة كبيرة تحشر ذراعه اليمنى وتجعله غير قادر على الحركة إلا في نطاق ضيق يسمح له باستخدام ذراعه الأخرى، وإطالة أمد البقاء وسط هذا القبر الصخرى المنعزل تماما عن العالم. الحفرة الجهنمية يبدأ رالستون في استجماع قوته الداخلية المشتتة والمنهكة تماما من هول المفاجأة المؤلمة والمأساوية، ومع جردة حسابية سريعة يكتشف أن الماء والطعام المتوفران لديه لن يكفيا سوى ليومين أو ثلاثة إذا كان محظوظا بعدم استمرار النزيف في ذراعه المصابة، ومع استنفاذ كل الوسائل الممكنة للتواصل مع كائنات بشرية في هذا المكان المقفر، يبدأ في حوار ذاتي مع كاميرا الفيديو المنزلية التي يحملها معه كي لا يسيطر عليه الصمت وكي لا يأخذه الخوف لمنطقة خطرة من التفكير اليائس والانهزامي، يوجه رالستون رسائله إلى والديه ويشعر بقيمة ولذة الأشياء المفقودة التي باتت تتضاءل وتتسرب بطيئا بين يديه، فمع توافر أدوات محددة مثل قنينة المياه وحبال التسلق وساعة اليد والخنجر الصغير ومراقبته لحركة الحشرات المحيطة به وإنزلاق الرمال حوله والغراب الذي يحوم في سمائه الضيقة وفي وقت معين من النهار، ومع كل الموجودات الساكنة والمتحركة يتشكل أمام المتسلق العاجز عالم من التأملات والهواجس والارتباط الوجودي الفادح مع متناقضات الموت والخلاص وتبدلات الهلاك والنجاة والتهكم والبكاء والتحلل المادي والتحليق الروحي، وبعد مرور خمسة أيام كاملة أو 127 ساعة بالتحديد منذ سقوطه في هذه الحفرة الجهنمية، يقرر رالستون قطع ذراعه والتخلص نهائيا من ركام هذه التجربة المروعة التي قدمت له رغم شراستها درسا ذاتيا حول قدرة الأحلام على توفير طاقة من الأمل تكفي للبقية الباقية من حياتنا، حتى وإن كانت هذه الحياة مبتورة وناقصة، لأن اليد الواحدة يمكن لها أيضا أن تعانق وتحتضن الكائنات المحبة واللحظات الدافئة التي أضعناها وغيبناها وسط الضجيج والانشغالات العابرة. استطاع الممثل جيمس فرانكو أن يلامس اللحظات الحقيقية والمرعبة التي عاشها رالستون بكل جنون وألفة وتمزق، ورغم الحيز الجغرافي الضيق والمحكوم بالعجز الحركي إلا أن التعابير الأدائية التي ترجمها فرانكو في الفيلم استحوذت على انتباه المتفرج وجذبته إلى ذات المنطقة العارية والصلبة والعنيفة التي تماوجت في الذات القلقة والحبيسة للمتسلق. أما المخرج داني بويل الذي نجح في رهان التحدي والدخول في مغامرة إخراجية جديدة ومختلفة عن تجاربه السابقة، فقد استطاع من خلال كاميرته الرشيقة والمرنة والجريئة أيضا أن يترجم عنف وضراوة التحولات النفسية والجسدية التي طرأت على المتسلق، وتوجها بلقطة البتر التي لم يسبق تصويرها سينمائيا بهذه الحدة وبهذه الواقعية الجارحة التي لا يمكن تحملها، وكان للمونتاج التي اعتمده داني بويل أثرا في خلق التنويع المشهدي الذي سافر بنا إلى مشاهد استرجاعية في حياة وذاكرة المتسلق، كما استطاع المونتاج أن يضعنا في مواجهة مباشرة مع الأحلام والكوابيس والتناقضات النفسية الهائلة التي أختبرها رالستون أثناء انزلاقه البطيء نحو قاع الموت، وأثناء صعوده وتخطيه بعد ذلك لمرحلة داكنة وقاحلة لا يمكن أن تتحقق سوى في الوعي المُعَذّب لرواية افتراضية ومتشائمة، وليس في تجربة مريرة، وفي حياة معاشة بلحمها ودمها ونزيفها أيضا!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©