السبت 4 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

كيت تشوبين

كيت تشوبين
24 ابريل 2008 02:48
معروف أنّ السيدة ''مالارد'' تعاني من اضطراب عضلة قلبها، لذا فقد اتُخذ حرص شديد ليُنقل إليها خبر وفاة زوجها· أختها جوزفين هي التي أخبرتها، من خلال جمل متقطعة، بإشاراتها المبطنة، ما حاولت إخفاءه عنها· كان صديق زوجها ريتشارد هناك أيضاً، قريباً منها· وهو الذي كان في مكتب الصحيفة حيث تلقى أخبار كارثة سكة الحديد، وكان اسم صديقه ''برنتلي مالارد'' يتصدّر قائمة القتلى· أخذ بعض الوقت ليتأكد بنفسه من حقيقة ذلك، عبر إرسال برقية ثانية· واستعجل ليسبق أي صديق أقل منه حرصاً ووفاءً، في إيصال الرسالة الحزينة· لم تسمع الخبر كما تسمع كثير من النساء خبراً مماثلاً، بعجز كامل عن قبول فحواه، فقد بكت في الحال بشكل فجائي، وسقطت منهارة بين ذراعي أختها، وعندما انجلت عاصفة الأسى ذهبت إلى غرفتها وحيدة، ولم ترغب في أن يتبعها أحد· هناك، حيث وُضِع كرسي مريح ذو ذراعين، في مواجهة النافذة المفتوحة، ألقت بنفسها· تحت ضغط الإنهاك البدني الذي لازم جسدها، وبدا أنه وصل إلى روحها· استطاعت أن ترى في الجانب المكشوف من الساحة مقابل منزلها رؤوس الأشجار التي كانت كلها تهتز طرباً بالحياة الربيعية الجديدة· أنفاس المطر المنعشة تعبق في الجوّ، وثمة في الشارع بائع متجوّل ينادي على بضائعه، وأنغام أغنية بعيدة يغنّيها أحدهم، وتصل مبهمة إلى أذنيها، وعصافير دوريّ لا تحصى كانت تزقزق فوق الأفاريز· وعبر الغيوم المتراكمة هنا وهناك، كانت تظهر قطع من سماء زرقاء في الجهة الغربية التي تقابل نافذتها· جلست، وقد ألقت برأسها إلى الخلف، فوق وسادة الكرسي بهدوء، ودون أية حركة، سوى تنهيدة تصاعدت من حلقها وهزّتها مثل طفل يبكي من تلقاء نفسه لينام، ويستمرّ وهو غارق في أحلامه· كانت شابة ذات وجه جميل هادئ، تظهر قسماته حزماً وقوة أكيدة، أما الآن فثمة نظرة كليلةٌ في عينيها اللتين كانتا تحدقان بعيداً باتجاه ثابت نحو واحدة من تلك الرقع الصغيرة للسماء الزرقاء، ولم تكن تلك نظراتُ تأمل، بقدر ما كانت تعبّر عن استغراق في تفكير ثاقب· كان ثمة شيء قادم إليها، وكانت تنتظره بخوف، ترى ماذا كان ذلك الشيء؟ لم تكن تعرف، أنه كان لطيفاً جداً، وعصيّاً على التسمية، ولكنها شعرت به، يزحف من السماء، ثم يصل متقدّماً نحوها عبر الأصوات والروائح والألوان التي ملأت الجوّ· صدرها يعلو ويهبط الآن مضطرباً· لقد بدأت بالتعرف على ذلك الإحساس الذي يطغى عليها، وهي تجاهد لكي تقاومه بإرادتها الواهنة التي تشبه يديها البيضاوين الهزيلتين· وعندما حرّرت نفسها من ذلك الشعور هربت كلمة صغيرة هامسة من شفتيها النحيلتين المنفرجتين· قالتها مرّة بعد مرّة تحت ضغط أنفاسها: ''حرّة، حرّة، حرة''· فرت من عينيها الآن تلك النظرة المحدقة الحمقاء، وكذلك نظرة الرعب التي أعقبتها، وحلّت مكانها نظرة متوقدة مشرقة، وراح قلبها يخفق بسرعة، وأدفأ دمها المتدفق كلّ جزء من أجزاء جسمها· لم تتوقف عن التساؤل عما إذا كان ذلك الإحساس مجرد بهجة شاذة سيطرت عليها، غير أن نفاذ بصيرة واضحاً وقوياً مكّنها من نبذ اعتبار ذلك الإحساس على أساس أنه أمر تافه· عرفت أنها ستبكي عليه ثانية عندما ترى اليدين الرقيقتين الضعيفتين، وقد طواهما الموت، والوجه الذي لم يعبّر قط إلا عن حبها، وقد أصبح جامداً ورمادياً وميتاً· ولكنها رأت بعد تلك اللحظة الموجعة موكباً من السنوات الطويلة تأتي إليها، تخصّها وحدها بكل تأكيد· وفتحت ذراعيها ومدّتهما للترحيب بها· لن يكون هناك من تعيش لأجله خلال تلك السنوات القادمة، ستعيش لنفسها فقط، لن تكون هناك إرادة قادرة على إخضاعها لذلك الإصرار الأعمى الذي يجعل الرجال والنساء يعتقدون أنّ لكل منهما الحق في فرض إرادته الخاصة على قرينه· وبدا لها في لحظة الإشراق تلك، أن ذلك الأمر، في نظرها، سواء أكان القصد شريفاً أم وضيعاً، ليس أقلّ من جريمة· لقد أحبّت زوجها في بعض الأحيان، وفي الغالب لم تحبه، ذلك لا يهمّ، وماذا يمكن أن يعدّ الحبّ، تلك الأحجية غير المفهومة، في مواجهة هذا التوكيد التام للذات الذي تعرفت إليه بشكل فجائي حالما داهمها ذلك الإحساس القويّ بوجودها: ''حرّة،! حرّة جسداً وروحاً'' تابعت هامسة· كانت جوزفين راكعة أمام الباب المغلق، واضعة شفتيها على مقبض الباب، ملتمسة الإذن بالدخول: ـ ''لويزا·· افتحي الباب، أرجوك·· افتحي الباب، ستؤذين نفسك، ماذا تفعلين لويزا؟ أناشدك الله أن تفتحي الباب''· ـ ''انصرفي فأنا لن أؤذي نفسي''· لا·· كانت تستنشق جوهر الحياة الحقيقية من خلال تلك النافذة المفتوحة· خيالها كان يتدفق مسرعاً بمرح صاخب نحو أيامها القادمة: أيام الربيع، وأيام الصيف، وكل صنوف الأيام التي ستكون لها وحدها، وابتهلت بدعاء سريع تدعو الله فيه أن يطيل عمرها، فقد فكّرت، بارتعاد، منذ الأمس بأن حياتها ربما تكون طويلة· أخيراً نهضت وفتحت الباب أمام إلحاح أختها، وفي عينيها بهجة النصر المحموم، وحملت نفسها دون وعي، مثل آلهة النصر، وأمسكت بخصر أختها، وهبطتا السلّم معاً· وكان ريتشارد ينتظرهما في الأسفل، بينما كان شخص ما يفتح البوابة الأمامية بالمزلاج، لقد كان برنتلي مالارد الذي دخل المنزل، وعليه بعض آثار السفر، هادئاً يحمل حقيبة سفره ومظلَّتَه· كان بعيداً عن مكان الحادث، حتى أنه لم يعرف بشيء مما حدث· وقف مذهولاً بسبب صرخة جوزفين الحادة، وبسبب حركة ريتشارد السريعة، وهو يحاول إخفاءه عن نظرات زوجته· وعندما أتى الأطباء قالوا إنها ماتت إثر أزمة قلبية ناجمة عن فرحة قاتلة· كيت تشوبين (1850 ـ 1904) كاتبة أميركية، كتبت القصص القصيرة والروايات، وتعدّ رائدة الكتابة النسائية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين في أميركا· نشرت مجموعتين قصصيتين هما ''شعب البايو'' BayouFolk 1884 و''ليلة في أكادي'' Night in Acadie عام ،1897 كما نشرت روايتين هما ''المذْنِب'' At Fault عام 1890 و''اليقظة'' The Awakening عام ،1899 ويتفق النقاد المعاصرون على أن تشوبين برعت في تصوير أدقّ المشاعر الإنسانية في جميع الموضوعات التي تناولتها· ترجمة: د· يوسف حطيني
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©