السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

النهّام.. شجن المحامل

النهّام.. شجن المحامل
5 مايو 2016 03:31
إعداد وتنسيق - محمد عبدالسميع يُعتبر «النهّام» صاحب وظيفة أساسية في رحلة الغوص في ماضي الإمارات والخليج؛ وذلك لأنه يُمثل الدافع للروح المعنوية لدى العاملين على السفينة من غواصين وغيرهم، خاصة أثناء أدائهم للأعمال الشاقة، كجرّ المجاذيف، وسحب المَراسي، ورفع الأشرعة وغير ذلك. والمُلاحَظ من تاريخ مهنة الغوص أنها كانت في منطقة الإمارات أقسى وضعاً من غيرها من مناطق الخليج، وذلك بسبب بُعد «الهيرات» أو مغاصات اللؤلؤ عن البر؛ ولهذا لم يكن في رحلات الغوص الإماراتية الكثير من عدّة الفنون كالطبول ونحوها ؛ لعدم توافر الوقت الكافي للسمر كما لدى بقية سفن الخليج. ومع ذلك، يُخبرنا الشاعر الشعبي الكبير ربيّع بن ياقوت عن بعض أنواع الفنون الشعبية التي عاصرَ استعمالها في رحلات الغوص، وهي من النوع الذي يستدعي وجود آلات الإيقاع كالطبول ونحوها. وقد امتهن مهنة «النهّام» العديد من أبناء الإمارات، منهم المرحوم جمعة بو سماح الذي كان آخِر «نهّام» محترف في الإمارات، وكذلك الفنان المرحوم حارب حسن الذي ذهب في رحلة غوص مع النوخذا ماجد بالروغه ـ وهو عم الفنان المعتزل علي بالروغه، ومن المعروف عن حارب حسن رحمه الله أنه يُجيد فنون السجع والشلّات والونّه، ولعله مارس ذلك في تلك الرحلة إلى جانب أعمال الغوص الشاقة. ونظراً لمكانة وأهمية النهام في حياة المجتمع البحري الإماراتي، كان هذا التحقيق مع بعض الباحثين والكتاب. من يتتّبع التاريخ البشري يجد أنّ الإنسان منذ القدم لامس الأثر النفسي والسحر العميق الذي تتركه الأناشيد والأغاني في أعماقه، وتنعكس في إيماءاته وتقاسيم وجهه وحركات جسده، منذ أن اكتشف صفير الريح وحاكى أصوات الطبيعة، وإلى أن ابتدع واكتشف الآلات الموسيقية البدائية، ومن ثم راح يطورها ويبدع في دقتها، حتى وصلت إلى أعلى درجات الدقة والإبداع فأنتج هذا السحر ملاحم إيقاعية راحت الأجيال تتوارثها، لتصبح جزءاً لا يتجزأ من حياتها. فأصبح الغناء ديدن الإنسان وارتبط بكل تفاصيل حياته حتى بالمهن والعمل، لما له من أثر كبير في لاشعوره، إذ أصبح الغناء والإيقاع متنفساً لإلهاء العقل عن التفكير في التعب واستشراف السعادة والسرور. ونتيجة لذلك راحت أنواعه تتعدد باختلاف المهن وحاجاتها، ولو وقفنا على هذه الظاهرة في خليجنا العربي، حيث البيئات المتعددة والمتنوعة بين البحر والصحراء والريف والجبال، وهو ما دفع إلى توليد أنماط متعددة من الغناء المرتبط بالظروف القاسية لتلك البيئات. ولو تتبعنا ذلك في عمق التراث الخليجي، لوجدنا الإنسان الخليجي منفتحاً على أنواع مختلفة من الغناء، وذلك وفقاً لطبيعة المهن التي يمارسها، إلا أن الغناء المرتبط بالبيئة البحرية، والغوص هو الأوضح والأدق، لما للبحر من أثر كبير تجلى في التاريخ الذي صنعه الإنسان الخليجي بين أمواجه، حيث استفاد البحّار الخليجي من أصوات الموج وهدير البحر وصرير الصواري وفعل الريح في الأشرعة المسافرة، استفادة كبيرة شكّلت بدائعه الغنائية ولوّنتها. فظهر النهّامون وانتشر صداهم على امتداد الخليج العربي، وكان لهم الأثر الكبير في حياة الإنسان الخليجي عموماً وأبناء البيئة البحرية خصوصاً، فمن هو النهّام ؟ أنوع النهمة النهام: مصطلح يطلق على منشد السفينة، وهو الذي يتولى مهمة إثارة التفاؤل والحماسة لدى البحارة وخصوصاً في الليالي المقمرة، حيث يرفع النهام صوته بالدعاء لله بتسهيل مهمتهم وعودتهم سالمين إلى الديار والأحبة. والنهمة أنواع منها: نهمة الخراب، نهمة أفجري، نهمة حدادي، لعبوني، سامري (مواويل). ولعل النوع السائد في الإمارات العربية هو نهمة (الخراب). ولو تتبعنا واقع النهّامين في الخليج العربي، لوجدنا أنهم كانوا بكثرة في البحرين والكويت، ولكنهم لم يكونوا كثيرين في الإمارات العربية المتحدة حيث كانوا يعدّون على أصابع اليد، ولم تكن مهنة النهام وسيلة لكسب الرزق فحسب، بل كانت تجمع معها أنشطة أخرى حيث نرى النهام هو المؤذن والإمام الذي يصلي خلفه البحّارة. وسيكون وقوفنا في هذه القراءة السريعة على واحد من أبرز وأهم النهّامين في الخليج العربي عموماً، وفي الإمارات العربية خصوصاً، إنه (جمعة الفيروز)، المعروف بأبي سماح. حياته لا يوجد تحديد دقيق لتاريخ ميلاد جمعة فيروز عبد الله، الملقب (بو سماح)، ولكن المرجح أنه ولد العام 1917م[1]، تزوج ورزق بولدين وثلاث بنات، وكان يسكن بيتاً متواضعاً في منطقة المصلى. ولو تتبعنا طفولته لوجدنا أنها كانت طفولة محافظة ملتزمة، حيث ارتاد الكتّاب وحفظ القرآن الكريم على الرغم من عدم تمكنه من الالتحاق بالمدارس، كما كان مواظباً على الصلاة في المسجد، ومجالس التربية والتوجيه مما انعكس على شخصيته، فأضحت شخصية متمرسة ملتزمة بالمبادئ والقيم الدينية والاجتماعية، وهو ما مكنه بعد ذلك من رسم أهداف دقيقة لحياته وهواياته التي نحت منحى الفن والغناء وحفظ الشعر والمأثورات، فكان بذرة لنهام مبدع أصبح فيما بعد نهّاماً متميزاً من الدرجة الأولى، ولم يكن ذلك ليتحقق له بيسر وسهولة، بل كان ذلك نتيجة جهود مضنية، حيث راح يجول ويبحث عن النهامين الذين برعوا في مهنتهم، فاستفاد منهم ومن خبراتهم، ولعل من أبرز الشخصيات التي أفاد منها شخصية علي سعيد البردان، وهو الذي تتلمذ على يديه فارتقى وأصبح ضليعاً خبيراً يتسابق النواخذة لأخذه معهم، لما يتصف به من صفات وإمكانات صوتية عالية، إضافة إلى مخزونه الكبير والغني من الأناشيد والمواويل البحرية، مما مكّنه بعد ذلك من العمل بصفته نوخذاً، وقد بقي بوسماح علماً من أعلام النهامين، حتى تراجع عصر الغوص مع تغير ظروف الحياة، لينحو نحو الفن الشعبي، فكان نشيطاً ضليعاً مبدعاً، ولم يكن إبداعه فيه أقل من إبداعه مع النهامين، فشارك في تأسيس جمعية الشارقة للفنون الشعبية، وخصّص بيته مقراً لها تقام فيه أنشطتها وفعالياتها. وفي العام 1995 غربت شمس حياته المتألقة، ليرحل عن هذه الحياة تاركاً خلفه شخصية نهّام مبدع، شخصية رجلٍ من رجال البحر الذين عاصروا الشطآن والرمال والأمواج، رجلٍ ضليع خبر السفن، ورافق بحارتها في بحث حثيث عن اللآلئ الثمينة في الأعماق، ناظماً مواويله وأناشيده الرائعة الخالدة التي جعلت كل المتابعين والباحثين يعتبرونه آخر النهامين الذين استمروا وواصلوا طوال حياتهم منذ أيام الصيد والبحث عن اللؤلؤ على ظهر السفن الشراعية، ولم يحتفظ أبو سماح بمعارفه ومواويله وتجربته لنفسه، بل حاول أن ينقلها للأجيال كي تبقى حية نابضة، إذ حاول في العقد الأخير من عمره أن يحيط كل المهتمين ومن هم حوله بما يحفظ من مواويل، ويطلعهم على أسرار مهنته، ونشاطاته على سطح السفن، حين كان يصدح بصوته منشداً ناظماً أجمل المواويل التي تشجع البحارة على العمل والجد، وتنسيهم التعب والرياح والعواصف، وملوحة البحر، ومعاناة الجوع والغربة في وسط بحر هائج مخيف، بعيداً عن الأهل والأحبة. ولم يقتصر جهده على من هم حوله فحسب، بل حاول توسيع دائرته من خلال الإذاعة والتلفزيون، مما دفع كثيراً من المهتمين بالتراث للتواصل معه لجمع درره وكنوزه التي تعتمل داخل صدره، وهو ما تمّ توثيقه من قبل إدارة التراث في الشارقة، ليكون خاتمة العقد الفريد، وليغلق باب النهامة من بعده، ليكون بحق آخر نهام في الإمارات العربية. وقد كان لدائرة الثقافة والإعلام جهد مبرور يحفظ عبقرية المبدعين ويخلّد ذكرهم، فكانت ولادة كتاب جميل غني، أبصر النور عام 2003، على يد باحثَين نشيطين نذرا نفسيهما لتتبع نتاج بوسماح وسيرته، وهما الأستاذ عبدالعزيز المسلم، والأستاذ محمد عبد السميع يوسف، فألّفا كتاباً قيّماً ضمّنا بين دفتيه معلومات عن حياة وشخصية آخر نهامي الإمارات العربية أبي سماح، متناولين تفاصيل حياته وصلاته بالبحر والموال البحري، منتقلين بعد ذلك إلى عمله في الفن الشعبي بعد انحسار مهنة الغوص وتراجعها. فوقفوا على تأسيسه فرقة الفنون الشعبية، وما كان لها من أثر كبير ومهم تمثّل في جمعه للشباب وتعليمه لهم فنون (العيالة)، والعيالة: فن شعبي إماراتي مشهور، يتمتع بشعبية كبيرة، ثم وقفوا على تأسيسه جمعية الفنون الشعبية، والأنشطة التي كان يتابعها فيها مختلف الأنشطة الثقافية الشعبية، وقد تتبع الباحثان بدقة وموضوعية منهجية أبي سماح في توليد الإيقاع والنغم، مستدلّين من خلال ذلك على إبداعه، مما يؤكد على اعتباره موسيقاراً من الطراز الأول، موسيقاراً جمع التراث الماضي، وواكب الحاضر، ولم يكتف الباحثان بالجانب التنظيري فحسب، بل سجّلوا مواويل وأناشيد قالها وغناها قبل رحيله، مواويل كان يحفظها عن ظهر قلب عن أيام الصيد ورحلاته الشاقة والمتعبة، لعلنا نذكر منها على سبيل التمثيل لا الحصر، قوله: بتينا.. بتينا.. بتينا يا زعولة بتينا بتينا غم على الحاسدين اطلعي فوق، فوق اطلعي يا أم العجول اطلعي من العام لول وهو موال كان ينشده النهام أثناء رحلة الغوص والبحث عن اللؤلؤ وسط بحر هائج. وقد واصل الباحثان مهنيتهما العالية حين قاما بشرح الموال: ستأتينا.. ستأتينا اللؤلؤة بعد الخصام.. ستأتينا رغماً عن الحاسدين.. ثم يدعوها للخروج من الماء، إلى الأعلى، إلى السفينة، ويريدها لؤلؤة سليمة غير مصابة بخدش. بهذه الطريقة كان بو سماح يحمس الغواصين ويشد أزرهم وهم يجرون الحبال وينزلون إلى أعماق البحر، بحثاً عن اللؤلؤة المعتقة، والتي هي هدفهم في رحلتهم الطويلة الصعبة. وعلى سفينة الغوص تقوم حياة اجتماعية مستقلة بكل ما تعنيه الكلمة من تفاصيل التعاون والتعاضد والألفة التي تتخللها أنشطة غنائية عاطفية وأناشيد وجدانية، لعلنا نختار منها قوله: حلفتك بسورة قريش قل هو الله أحد لن طبخن من عقب ما أعرف أحد قريت على الباب أنت مقصودي يا دار العود بالعودي النار في مهجتي كما العودي وهنا نلمح العمق الديني الذي يبرز جلياً واضحاً من خلال توظيف الشاعر سورة قريش والإخلاص في تصوير تأكيده على الجانب الوجداني والتعلق بالديار ومحبته لها، كما نلمح الأثر العميق للإيقاع الموسيقي الذي أضفى على النص تأثيراً وجدانياً يشعر القارئ بأنفاس الشاعر الحرّى من خلال الياء الساكنة عودي/‏‏ مقصودي/‏‏ العودي، وهي التي توحي بالامتداد الروحي العميق. ومن الأمور التي يلحظها الباحث في النهمة أنها عادة ما تبدأ بترديد كلمة (يا مليه) لمرات عديدة ثم يدخل النهام بقوله: «الصلاة والسلام عليك يا رسول الله»، فترد المجموعة يالله، ثم يقول هي ياهيه، فترد المجموعة بقولها يالله، ليختم النهام بقوله: يا رحمن يا رحيم، ويبدأ بعدها بالغناء. ومن الجمل المهمة التي كانت يوردها النهام في غنائه: دامنَه يا دامنَه البحر لا تامْنَه وهو بذلك يؤسس لفكرة الحذر وأخذ الحيطة والتنبه، فالبحر لا يؤمن جانبه، وبعد مرور الوقت وحين تغرب الشمس، وبعد أن يؤدوا صلاة المغرب، ينشد النهام نهمة بناء على طلب النوخذا، من ذلك قول بو سماح: هيه هييه لي يا رب صلي على أحمد يا رب صلي على أحمد خير المنازل محمد هيلي هيلي خير المنازل محمد انصلي كل يوم بليله الطير في الجو أحمد يصلي على أحمد هيييه نفسٌ إيماني تفوح منه نهمة المغني بوسماح محورها محبة النبي الكريم والصلاة عليه، فهو مثال للمؤمن المحب، وهو ليس بالأمر الغريب فقد نشأ على قراءة القرآن الكريم وارتياد المساجد. وتتوالى النهمات وتتنوع بتنوع الظروف والأحوال، ويظهر هذا التنوع جلياً في ما كان يغنيه بوسماح ويردده، وقد اكتفينا ببعض النماذج البسيطة التي تعكس طبيعة النهمة لديه. ومن مصادر الإبداع في شعره أيضاً إتقانه فن (اليامال)، وهو نوع من الغناء يصاحب سحب المجاديف تردد فيه البحارة عبارة (يا مال)، وهو يغنّى عند سكون الريح، مما يقتضي من البحارة بذل الجهد في التجديف، فهو يشجّعهم ويحفّزهم للعمل، لعلنا نذكر مثالاً على ذلك، قوله: إي يا مال يسلام هيلي يُو يا سلام ربي سهّل يا سلام هيلي يُو سهّل لنا يا سلام هي يالله هيلي يُو وهنا التوازن الإيقاعي الذي يفرز تناغماً نفسياً أساسه النشاط والهمة، والتوكل على الله تعالى، وتأتي القفلة المتكررة في قوله (هيلي يُو)، وكأنها النغمة التشجيعية التي تحيي الهمة في قلوب البحارة. وبالتالي يمكننا أن نعتبر النهام مصدراً للحماسة وشحذ الهمم والتحفيز، وهو ما يحيل يأس البحارة وتعبهم قوةً ونشاطاً وتفاؤلاً، بل ويفجر مكامن الفرح والسعادة لديهم، فينعش روح الرقص والتصفيق والإنشاد، وكأنهم ليسوا بحارة تحت أشعة الشمس المحرقة، بل مدعوون إلى حفلة غنائية تجمع الأصدقاء، حفلة إيقاعها وآلاتها أمواج البحر وارتطام المجاديف بالمياه، وارتجاف الشراع وسط الرياح الهائجة. ليستحيل ذلك كله سيمفونية موسيقية بديعة صيغت بأنامل مبدعة خالدة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©