الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ممالك «النهّام» ومرايا البحر

ممالك «النهّام» ومرايا البحر
5 مايو 2016 03:34
د. منصور جاسم الشامسي مفاتيح في المعنى والدلالات مفتاح 1 هي ممالك ممتدة من اليابسة للبحر، وهذا هو المشهد البريَ البحرى المتواشج، حين يغدو الغناء في البحر مختلف، وسرعان ما صار المغني نافذة الشوق، والموسيقى الحالمة، والنغمة المسافرة، واللغة المُغناة، القادمة من المجهول، والذاهبة للمجهول، غير أنه يعرف المكان، الذي يألف هذه الموهبة البحرية في الوحشة، وفي المجازفة، حيث يصنع الدهشة، يرش رذاذ الحب في اللحظة العصيبة، كي تغدو فاتنة، ويكشف عن معنى مستتر في صوته الراحل في الأثير، يقتحم الصعب بزخرف الأداء، ويُزين المشهد البحري بالحنين الذاهب لليابسة، للمنزل الذي تركه، وللعاشقة التي تسكنه، وللفناء الواسع، حيث الفراغات تأنسُ بالعاطفة المُثلى، ولا يكتم الأنين. مفتاح 2 النهّام هو مطرب، فنان، مُغنٍ، مؤدٍ، مُنشد؛ وهذا فن غِناء إماراتي وخليجي يؤديه مُطرب أساسي على ظهر السفينة، حيث يؤدي أغاني وأهازيج مرتبطة بالعمل البحري نفسه، أهازيجه وأناشيده مؤداة بغرض الترويح والمتعة بعد العمل، وخلال اللقاءات المشتركة لطاقم السفينة، ويمتاز صوته عادة بالجَمَال، والدرجات، والزخرفية، والقوة، والشجن، والتحرك ضمن مدى صوتي شاسع، جملته موسيقية، تنزل وتصعد عبر أكثر من ديوان صوتي، لهذا فهو المطرب في أشد حالات وأوقات الحياة العصيبة، رحلة الحياة والموت، رحلة الغوص للحصول على اللؤلؤ لأهل الخليج العربي، في مرحلة ما قبل اكتشاف النفط. النّهام يُعطي من خلال صوته الفرح والحب والحماس، للعاملين على ظهر السفينة، وعادة تكون لديه ذاكرة قوية في حفظ الأشعار والمواويل والأهازيج و»الشلات» (أداء غنائي خليجي بحري وبدوي) المختلفة، ومعرفة بأعمال البحر، لكونه أحد العاملين على ظهر السفينة، في حين أن قيامه بعمله كنهّام، مرتبط بأوقات ومناسبات معينة على ظهر السفينة، وقد يكون النهّام شاعراً وناظماً للمواويل، وقادراً على ارتجال مواويل أو أهازيج وشلات من وحي الحدث واللحظة العاطفية والمفترق الجَمَالي؛ وهكذا النهّام والنهّمة من أغاني البحر الممتدة وموسيقاه الشائقة الغنية بالحنين. (مرجع مفتاح 2، المقدمة التعريفية: كِتاب أعلام من الإمارات، جابر جاسم، الخروج من المألوف، للباحث: عبدالجليل علي السعد). هكذا ندخل ممالك «النهّام» ومرايا البحر (1) الحب مرايا في «النهّام» الواقف عند حافة البحر يودعُ أشياؤه الصغيرة المتناثرة في داره المزهرة بعذب اللحظات يترك لياليه ذات الشهد ويمضي في سفين الوله مُنشداً: يعود الحب من جديد ! (2) فوق الموج يبحث عن قصيدة فريدة يُرسلها في الأرجاء تمضي في الظلمات تحكي عن أقوامٍ قد نهضوا للنهار يصمت البحر صمت الخاشعين يُنصتُ للغة «النهّام» السارية هذا عطرها هذا شوقها قد جاءت الأغنية العاطفية مغتسلة بالليل والروح الغضة متسربلة بالأنوثة البعيدة يصرخ بها «النهّام»: «قادم لكِ باللؤلؤة» كان قد ودعها؛ حبيبة الشواطئ، وعدها بالهناء والبهاء. (3) في فتنة الذهاب للبحار المُخيفة هناك قد نادته لؤلؤة رشيقة لاطفته أتته من حيث الوجع ساكنتّه قالت: «أصنعُ لكَ الغبطة؛ تعال !» و«هذي الصحاري ثكلى؛ لا تصنع المجد، تعال !» قد سألته المجيء لها والطرقات تسأله البقاء في فتنة الرحيل عن وطن النخيل للوعد الأزرق، هناك ينتظر الغناء والعناء ورعشة القلب عند كل مفردة يقولها «النهّام» بعيداً عن العيون الجميلة بعيداً عن شَعرها يُغازله بشِعر البحر الأثير ينسجه وسائد لها قد طرزها بأعشاب البحر. (4) غادةٌ كانت قد ودعته عند أطراف الصحارى ظلت تحلم بعودته من العتمة وهو ما يزال ينشد للأصدقاء لها نشيد الراحلين نشيد العائدين قد تساوت لديه الحروف في ممالك العواطف الأسيرة تطوف من كل جانبٍ بحرٌ ومن كل جانب وجهها ينتظر أيهما الإشراق؟ أيهما الدُجى؟ مُنى قد جاء يسعى «النهّام» بالأسطورة مُستغرقاً في استنطاق وعدها أن تبقى ذهباً يلمع على جبينه. (5) ها هي وردة الغناء يُرسلها لها شذية بارعة ملتهبة قطوفها غير دانية بعيداً لازا في الحديقة الزرقاء مترعة بالليل والقطاف بعيد هناك في قعر البحر وهناك في الضواحي في عيونها المكتحلة بالوعد بالكحل العبقِ يسأله عن الشاعر المغترب في البحار متى يعود؟ تأتيه الجهات لترى في جبهته الحب الدامي والألم مقاطع ترحل في الضباب ترجف ذكرياته عند لحظة العزف الساحر رائحةٌ وغاديةٌ أغاني الفراق في القلب المشتت عذاب ينشر القلب في البرازخ نيازك وبين البحر والصحراء حُطام يُحصي ما تبقى من زمنٍ ما تبقى من دَمّ كي يدخل ممالك النخيل هناك، كان قد دلها على الشفق حبيبته، كي تهيم وتعشق أكثر «لا رفيق لك سوى الحب» - قد قال لها، يختصر لكِ المسافات تمضي عاشقة تنتظر شاعرها في تشكيلات الحب الواعدة قبل انهيارات البحر. (6) «النهّام» في ذروة الوهج يُصلح هيئته قليلاً يرسم قبلةً في الْيَمِّ ثم يغني في السفين ذوات الأشرعة تبقى قصائده حكايا الفاتنات في الأرض المتصدعة تفتر عن قرىً وادعة يساورها شكٌ في عودة القيثارة العابرة قد حملت أوتارها الريح العائدة عند كل وترٍ تقف نخلةٌ حنونة وفي ظلها عاشقة، لبعض الوقت، تحكي النساء عن الحب عن البحر عن الشعراء عن «النهّام» وأصواته الأودية النافذة أصداءها المهد وسِرُ الوله والهوى يبعثه في الثرى الغائب في لؤلؤة يأتي بالنشوة العادلة في اللقيّا الماطرة عند الارتحال العائد لمهده للسناء المتشرد. (7) كان «النهّام» إذا اشتد الفراق دخل ملكوت الشِعر ليرى سُكنى امرأة قد حدّث الأصدقاء عنها أرخى لهم ربابة قلبه فرأوا عزفها على أوتار صوته من يغني؟ «النهّام» أم العاشقة؟ قد تساوت الأغنية في البحر في الصحراء في عبورها المُتماثل وهي في الحب والغناء ماثلة ماكثة آسرة والبحر آسر و»النهّام» في كلا الأسرين شاعر وعاشق لا يألف المكان! يألف الحبيبة البعيدة وهذي أغانيه في ضُحى الأماكن تدنو منها تجلس عند العتبات تُمشطُ جدائلها بسِر الجَمال الكائن ترقبه حين يمضي في رحلته اللؤلؤية تظل معه غصناً مائلاً ترسمه قمراً ذاهباً لمملكة عالية وترسمه قمراً عائداً يلامس الطين ولمعة الخدين وفي حديث الثغرِ الليّن يحلو الخريف شفيف كله ذَهب وخطوات رائقة ترى الحرف الأزرق في اللجة العميقة قد استحال عِطرا وزهرة أعراس. والممالك الشِعرية جلال التمازج حين تغدو ممالك هيام واحدة. المستوحشون في البحر فهد علي المعمري تعددت الجوانب التراثية في تاريخ ثقافة دولة الإمارات، وتمايزت فيما تقدمة من عراقة وأصالة، وتركت لنا اليوم تراثاً متيناً، له تاريخه، وأعلامه، ومصطلحاته، فجاءنا وفيراً كثيراً، ونحن اليوم نجني حصاد تلك السنين التي خلت، ونقدمه للأجيال الحالية التي تتشوق لتتسلمه، وتحافظ عليه ليبقى خالداً تالداً في تناقله جيلاً بعد جيل. ومن هذا التراث القيّم، تراث غنائي موسيقي، كان له الأثر الكبير في تاريخ الغوص والبحر في دولة الإمارات، وهو فن النهمة، لماذا قلنا فن النهمة، لأنه فن قائم بذاته، له أسلوبه، وطقسه، ووقت أدائه، وألحانه، كما أن مؤدي هذا الفن الغنائي يسمى «النهّام»، ومن هنا جاءت التسمية، ويسمى فعل أداء النهّام بلهجتنا المحلية «انْهمه» بزيادة ألف في أول الكلمة، وسكون النون، وفتح الهاء، وكسر الميم. ويعد النهّام عنصراً مهماً وفاعلاً في رحلة الغوص التي تنطلق دائماً في فترة الصيف، وتستمر لفترة أربعة أشهر وعشرة أيام من شهر مايو ولغاية شهر سبتمبر، وله أي النهّام أبعاد ثقافية واجتماعية واقتصادية وفكرية وأدبية وفنية ونفسية، وهذا البعد الأخير، هو من أهم هذه الأبعاد، حيث يعمل على خلق جوٍ مملوءٍ بالنشاط والحيوية، بعد الأعمال الشاقة والمرهقة التي يقوم بها الباقون مثل الغاصة والسيوب والتبّابة واليلاليس، ولابد لهم من نشاط يزيل عنهم تعب ذلك اليوم الطويل، فكان النهّام يقوم بهذا الدور، في بث النشاط، ورفع المعنويات للجميع، عبر الأهازيج الجميلة، والصوت الشجي الندي الذي يطرب الجميع. والنهّام عندما يؤدي عمله المتخصص، فهو يؤدي عمله الذي من أجله ركب سفينة الغوص، فالغيص يركب سفينة الغوص ليغوص في القاع ويستخرج المحار، والمحار يتصدى له الفلاليج ليفلقونه ويستخرجون اللؤلؤ، والسيب يعمل على شد الغيص من القاع عندما تأتيه الإشارة من الغيص، والنهام يغني في عرض البحر من خلال مناسبات عدة، تستوجب عليه الغناء لرفع النفسية المتدنية عند جميع ركاب السفينة، ولذا نرى أن الجميع يعمل على هذا المركب عملاً مكملاً للعمل الآخر طيلة هذه الرحلة. لا بد للنهام أن يتصف بمواصفات كثيرة، إلا أن أهمها والتي لا غنى له عنها، الصوت القوي الذي يصل للجميع، وقدرته على تنويع الأغاني والألحان، وأداء الجديد دائماً حتى لا يمل الآخرون من تريد الأغاني والألحان نفسها بشكل مستمر، وحفظ الكثير من الأغاني والألحان التي يقوم بتأديتها أثناء رحلة الغوص، وهذا كله داخل تحت صفة لازمة وهي الحس الموسيقي وضبط الإيقاع الموسيقي والشعري عند التأدية، وهو بهذا الدور الذي يقوم به يلعب على تخفيف المعاناة وشدتها الواقعة على الآخرين، ورفع المعنويات المتدنية لديهم، وبالتالي ينقلب هذا التعب والنصب والعبوس إلى نشاط وقوة وفرح. والنهمات البحرية التي يؤديها النهّام تأتي على أنواع، منها نهمة الخراب، ونهمة أفجري، ونهمة حدّادي، ومن نهمة الخراب يغني النهّام: يا ربنا بالطايف عبدك من الذنب خايف عبدك وتغفر ذنوبه يا غافر الذنب يالله ونهمة ثانية: يا والي الأمر كله عبدك تحيّر ابدْله وان كان بامرك تحيّر ما يك من الجود هلّه ومنه اليامال، وهو نوع من الغناء يصاحب سحب المجاديف، وتردد فيه البحارة عبارة يا مال، ويغنى هذا اليامال عند سكون الريح، مما يتطلب من البحارة تحريك السفينة باستخدام المجاديف، ومنها الخطفة، وهي أي الخطفة رفع الشراع، وهي أهازيج يرددها البحارة عند جر الحبال لرفع أشرعة السفينة، ومن أغاني خطف الشراع دار الهوا شامي يا بوعبدالله سنيارنا سافر واتوكل بالله وأيضاً من هذه الأغاني التي يؤديها النهّام، الفجري، وعادة ما يؤدى بالطبول وبعض آلات الإيقاع، ويبدأ البحارة بالغناء، ثم يدخل النهام بموالٍ تردد المجموعة معه، وعند إلقاء السن، بكسر السين، ينشد النهّام يالله بدينا عزيت يامن له الملك يا عالم بالحوال وهناك نهمة للصريدان، وهو مطبخ السفينة، ويغني : صريدان ماله خانه غير الشوي والدخّانه ومن هذه الأدوار المناطة بالنهّام، يتوضح الدور الذي قام به في ذلك الزمن الذي كان شاقاً ومتعباً للجميع على ظهر سفينة الغوص، يبقى دور النهّام دوراً فاعلاً بكل مقومات الحياة الفكرية والثقافية والفنية والأدبية، وانعكاساً للأدب الراقي الذي كان يؤدى في وقت محدد، وزمن مؤقت. حضر في المسرح الإماراتي بشخصه وأغنياته نهّام الخشبة عبد الله صالح الرميثي ارتبط النهام ببحر الخليج وبالتحديد بسفن الغوص التي كان نواخذتها يتسابقون للظفر بأشهر النهامين، لإضفاء روح المتعة والراحة في نفوس البحارة وتصبيرهم خلال هذه الرحلة الطويلة، فهو مؤنسهم ومفرج همهم. وانتشر هذا الفن منذ قديم الزمن في كل من البحرين والكويت اللتين كانتا سباقات لهذا الفن الأصيل الذي لا يضاهيه فن آخر، بدءاً من النهام الذي يملك الصوت الشجي والقوي والعذب، وانتهاءً بالكلمات المنتقاة والتي تبعث الراحة في آذان من يستقبلها، حيث تفنن النهام في مزج لحن الموال الذي ارتبط باليامال وبالدان أحياناً، فقد كان النهام مصدراً مهماً لبحارة الخليج في الماضي، ومن أهميته هذه تأثر به أبناء المنطقة الخليجية، مما أدى إلى ظهور هذا الفن في كل من قطر والإمارات وجوانب من السعودية وسلطنة عُمان، وأخص بالذكر البيئات البحرية في تلك الدول، وعُرف بأسماء عدة (النهمة والهولو والشلة والمداوي والفجري)، واستخدمت عند البعض في حال رفع الأشرعة أو إنزالها، وبعضهم في حالات استراحة البحارة، وبعضهم في أثناء السير في البحر لمسافات طويلة، وساهم تأثير النهام في الخليج إلى ظهور قلة من النهامين الذين اشتهروا على مستوى الخليج: في دولة الكويت: فهد بن حسين وفرحان ابوهيلة وسليمان الغرير وسلطان بن دليم وصالح وشريدة كحيل وابناة سعد وعتيق. وفي البحرين: سالم العلان واحمد جاسم بوطبينه. وفي الإمارات: جمعه ابوسماح. وفي السعودية: سعود صرام ومبارك الراعي. وفي قطر: عمر سلطان الكواري وفرج المناعي. وأهم ما يميز هذا الفن هو نوع الكلمات المستخدمة فيه، فهي من نوع الزهيريات مثل: شوق الأحبه بميدان الضماير ثبت وهيهات يا هاجري تاصل وهجرك ثبت ثابت يقيني بهواكم يا الحبايب ثبت حياة من سير الكونين واللي به إنى فلا يات ليلى وخاطرى اللي به بجاه إللي أشهر الإسلام واللي به ماجوز من حبكم لو عقلي ثبت ومن نماذجه أيضا: لك فى صميم القلب آيات وقْراها ومحبتك لم تزل بالروح وقراها إنت الذى بالهوى عيناك وقراها من حيث غيرك على بالى فلا هو يجي واللوم من عاذلى مهما يقول ويجي شيدت لك بالحشا قصر ولو به تجي شفت العجايب وكل اسماه تقراها أما على مستوى المسرح فارتبط ظهور النهام مع ظهور الأعمال المسرحية الأولى، التي قدمت في الإمارات التي ارتبطت بالبحر، مثل دبي وأبوظبي والفجيرة ورأس الخيمة والشارقة بمدنها البحرية كافة مثل: مسرحية (الغواص واليريور) او (او يامال) او (رحلة العودة الطويلة)، حيث تفاوت دور النهام فيها؛ فبعضهم استخدمه في ربط مشاهد العمل المسرحي، والبعض الآخر وظفه لكونه واحداً من شخصيات العمل ذات تأثير في سير الحكاية. وهي في المجمل تجارب قليلة ونادرة، ثم غابت شخصية النهام وبقي اللحن والكلمة. ولقد أثرت سيرة النهام في العديد من الفنانين سواء ممثلين أو مطربين وموسيقيين وحتى الشعراء الذين تأثروا في قوافي وأوزان فن الزهيريات. كما لجأ بعض الفنانين لنقل هذا الفن لمسرح الطفل أمثال: إبراهيم جمعه وعبد الله صالح. أما بخصوص تجربتي في أغنية المسرح الإماراتي، والتي تحدثت فيها عن مختلف تجاربي الغنائية، ولعل تأثري بالموال البحري ساهم في كتابتي مجموعة من الزهيريات التي قدمتها في كثير من الأعمال المسرحية على شكل نهمات. وتعد مسرحية المصير لحبيب غلوم مثال على هذه التجربة، حيث جسدت هذه الشخصية التي وظفها المخرج حبيب غلوم كلسان لشخصية العمل، ومن خلال المواويل التي كتبتها بعناية، على شكل نهمة أراد بها حبيب إيصال رؤيته الإخراجية وكان موفقاً فيها. ومن نماذج توظيفي للمواويل البحرية عبر كتاباتي للأغنية الممسرحة. قرر تعلم وقول أنا البحر ماضي خوض المهاير عهد ع دانتك ماضي له أنت أبوك البحر وأنت اللي ماضي لك واللي ملك حاضره يا ولدي ماضي له ومن ذلك أيضاً: يا روح روحي روحي شوق جدى الروح خل المحامل مدمعي وشراعي جروح سلي عن الخلان في غبة الريح قولي الصبر من بعدهم صابر بطلعة روح جليس الأيام في مركب الأحلام يوسف فخراء للنهام بصوته وشخصه أثرٌ واضح على قريحة الشعراء، خصوصاً شعراء البحر والساحل، الذين كانت حياتهم فيه، وشوقهم دائم إليه، وتحمل مخيلاتهم الكثير من الذكريات الجميلة عنه. كان البحارة في رحلة الغوص يعيشون فترة من الصعوبة أن نصفها أو نتخيل معاناة الذين كانوا يعيشونها؛ تغرب وتعب، فراق وعمل شاق ضيق وفقر ومعاناة بالغة. ولم يكن لديهم من وسائل الترفيه والترويح غير الطرب والأدب، والتمازح ، والتغني بالشعر.. وكان النهام بما يؤديه من الغناء، بأسلوب معين معتمداً على عمق النفس وحدة الصوت والإحساس المرهف مع شيء من الحنين والبكاء، يحقق لهم الراحة، ويخفف الأحزان، ويطلق غناءه العنان لحماسهم إذا ما أصابهم الكلل، وهيمن عليهم الملل، وتقاعسوا عن أداء العمل. ويطلق مصطلح النهمة عند أهل الخليج على الأغاني والفنون البحرية، والنهام هو المطرب البحري الذي يغني الأهازيج البحرية، ويذكر بعض الباحثين مصطلح النهمة والنهام في البيئة الصحراوية في الخليج، ويقصد بها الحدو أو الونة أو الغناء البدوي مع الطير أو الجمل. وذكر ابن منظور في لسان العرب أن النهمة بلوغ الهمة. ونهم ينهم (بالكسر) نهيما؛ وهو صوت كأنه زجير. وقيل بأنه صوت فوق الزئير، والناهم هو الصارخ. والنهام هو الأسد لصوته. ونهم بكسر الهاء هو الزجر، نهمت الإبل إي زجرتها لتتابع المسير. ونستنتج أن قول ابن منظور لا يختلف عن الغرض الذي يؤديه النهام على ظهر السفينة مع البحارة، فقد كان ينهم عليهم ليتابعوا العمل ولا يتعودوا على الخمول والكسل. ولذلك كان النواخذه يجدّون ويتسابقون للحصول على نهام جميل الصوت، لكي يكون في أدائه تأثير يحرك معنويات وعضلات البحارة، كما كان البحارة أنفسهم يفضلون الرحلات البحرية مع النهام المتميز، وكان النهام عضواً رئيساً لا غنى عنه في فريق العمل المعد للرحلات البحرية. وتعددت النهمات في التراث البحري الإماراتي، فقد ارتبطت بالعمل على ظهر السفينة، وتأصلت معه في البناء الثقافي والاجتماعي والأثر السلوكي لرجال البحر على ظهر السفينة، فتعددت النهمات خلال مراحل الرحلة البحرية؛ فظهرت لكل عمل ومرحلة نهمة خاصة، ومن النهمات: نهمة الشراع ونهمة المجداف (الميداف)، نهمة الخاطفة، ونهمة الشرت، ونهمة الخراب، ونهمة فلة الجيب، ونهمة لمة الجيب. وارتبط فن النهمة بمجتمع الإمارات، وتأصل في جذوره الثقافية وإبداعاته الفنية والأدبية عبر التاريخ الثقافي للمجتمع، فمنذ أن عرف الإماراتي البحر وواجه أمواجه، وغاص في أعماقه، وأبحر في عرضه، واستخرج منه ما أستخرج، كان النهام شامخاً بشخصيته ومبدعاً بعفويته ومسموعاً بنهمته ومتفرداً بقريحته. أما اليوم فقد اندثر ذلك المعلم وتلاشى كالحلم، فجفت عنه المنابع ولم يعد للنهام سامع، ولم توثق له مراجع إلا سوى أخفاف الألطاف التي تذرف لها المدامع. ومن النهمات الإماراتية: من حين خطك أتى نار بدليلي لهب حرمت طيب الهوى نارك خليلي لهب من عقب شخصك ترى كل من مثالك لهب دونك دليلي عجز عن الوداد ومال هايم وغصني ذبل وبعدك سريع ومال بالروح لو ينشري وصلك شريت ومال والروح لمبشري خلي بشوقك لهب المقابل الموضوعي للشقاء خالد الظنحاني دار الهوى شامي يا بوعبدالله سنيارنا سافر واتوكل بالله يا الله يا كريم.. هيلي يا معبود يا رحيم.. هيلي من خلال هذه الكلمات المعطرة بالدعاء والرجاء والتوسل إلى الله، نبدأ رفع شراع الكتابة لنبحر في حديثنا عن «النهام»، هذا النهام الذي يمثل حكاية التاريخ مع البحر والترحال والغوص على اللؤلؤ. النهام.. حكاية الرزق، حكاية التعب والشقاء والمعاناة والبعد عن الأهل والأحبة، حكاية المغامرة والسفر بين الأزرقين البحر والسماء، حكاية البحر الحاني والغادر في الوقت نفسه. النهام.. هو المقابل الموضوعي للشقاء، إنه الطرب الجميل الذي يغذي الأرواح ويساعد على الصبر وتحمل المشاق والغربة، وهو المحفز والملهم لقوى البحارة لمقارعة الأمواج والعواصف والعمل الشاق. النهام.. هو اسم يطلق على مغني السفينة، الذي يتولى مهمة إشعال الحماسة لدى البحارة، بحيث يغني لتعبهم ويدفعهم إلى مشاركته تلك الحالة، هو لسان حالهم الشعوري، وهو يدفع بصوته الدعاء لله بتسهيل مهمتهم وعودتهم سالمين إلى الديار والأحبة. يا بحر رد في بحورك يا بحر يكفينا شرورك إنها الكلمات التي يتغنى بها بصوته الشجي، فينعكس تأثيرها على النفس والروح والوجدان، وكما يقول علماء النفس، إن الغناء ينتج عن رغبة في مقاومة الطاقة لدى هذا الإنسان، أو استفزازها، أو إشغالها، فالإنسان حينما يبذل جهداً عضلياً، يكون بحاجة إلى تسخير حواسه جميعها في اتجاه ما يبذل، والغناء عبارة عن حركة فسيولوجية في تركيبها الفيزيائي، تكمن في دفع الهواء خارج الصدر، ينتج عن دفع الحجاب الحاجز نتيجة تعرضه للضغط من جراء الأفعال البدنية التي يتطلبها إنجاز العمل، والغناء حيلة ذكية ابتدعها الإنسان، لكي يصبح للزفير طعم آخر. نعم، إن أغاني النهمة من أهم أنواع الغناء الشعبي البحري عند أبناء الخليج العربي، وليس الإمارات فقط، حيث ينطلق النهام من على سطح السفينة كأنغام ملاحية متتالية من تحت ظلال الشراع المبحر نحو البعيد، نحو الغيب والمغيب، والآمال تكبر عند البحارة وهم ينصتون إلى صوته الشجيّ وهو يردد المواويل الشعبية التي تهزهم هزّاً عند سماعهم هذا النغم أو ذاك وهو ينساب في لحن عذب. لقد سطر أهل الخليج أهم محطات مسيرتهم على رمال الشاطئ ودونوها فوق صفحة البحر الزرقاء فأدمنوا قراءتها وعشقها الصغار قبل الكبار وعرف الجميع لغة البحر وفهموا فن الإبحار وقيادة السفن ووصلوا إلى مغاصات اللؤلؤ واستمعوا لصوت النهام، وأدركوا إيقاع الموج فشكلت هذه الأبعاد تراكماً حضارياً وثقافياً عبر الأجيال سيبقى خالداً في ذاكرة التاريخ. وسيظل هذا الفن العريق منهلاً إبداعياً نفيساً عند الأدباء والشعراء يستقون منه أفكارهم ورؤاهم وموضوعاتهم، ولا تكاد تخلو كتاباتهم من إشارات أو استلهامات جميلة مستمدة من روح التراث الشعبي ومعينه. وسنبقى أوفياء لهذا التراث، لأننا نعلم جيداً مدى الثراء المعرفي والثقافي والأدبي الذي يزخر به تراثنا الشعبي الإماراتي. إن الثقافة الشعبية الإماراتية ثروة عظيمة، خصوصاً فنون البحر كونها تزخر بالكثير من الأفكار والمضامين والدلالات الراقية والبكر، ولو عمل الأديب على سبر أغوار هذه الفنون لاستخرج منها أجمل الدانات الإبداعية وصاغ منها أروع القلائد الأدبية، التي حتماً ستؤدي به إلى صدارة المشهد الثقافي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©