الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الأفلام مؤدلجة وإن تقنَّعت

الأفلام مؤدلجة وإن تقنَّعت
5 مايو 2016 03:37
محمد العباس من يشاهد فيلم (الصبي ذو البيجاما المقلّمة) The Boy in the Striped Pajama المقتبس من رواية الأيرلندي جون بوين، لا يمكنه أن ينسى سُحنة ومسكنة وعذابات الصبي اليهودي (شمول) ببيجامته المقلّمة البالية، المقيم خلف السياج الحديدي المكهرب لمركز اعتقال نازي، ولا يمكنه إلا أن يصاب بالألم والحسرة في نهاية الفيلم، عندما أُعدم هو وصديقه (برونو) ابن ضابط النخبة النازية (رالف) الذي يدير ذلك المعسكر بالخطأ في غرفة الغاز، حيث يسفر الفيلم عن نواياه الغائرة بمحاكمة النازية تحت غطاء إنساني، ككل الأفلام التي تنوّع على الهولوكوست. وتلك هي الأيديولوجيا التي تستدر عواطف المشاهد، وتستوطن الصناعة السينمائية المنافحة عن الإنسان اليهودي، حيث تحضر الأيديولوجيا بمختلف أشكالها وتوجهاتها في مجمل أفلام العالم، سواء من خلال الدعاية الصريحة، أو عبر نص أيديولوجي تحتي يستبطن طيات الفيلم، فالأفلام بتعبير جيل دولوز، ليست وسيطاً لسرد الحكايات، بل لتوليد الأفكار. لكل فيلم قاعه الأيديولوجي الذي تترسب فيه مراداته الجمالية وهواجسه الفكرية، وهذا هو بالتحديد ما أوجد النقد الأيديولوجي في حقل السينما، الذي يعود في أصل تأسيسه وبدايات الجدل حوله إلى مقال (السينما/‏‏ الأيديولوجيا/‏‏ النقد) Cinema/‏‏ Ideology/‏‏ Criticism للباحثين جان لوك كوموللي JEAN-LUC COMOLLI وجان ناربوني JEAN NARBONI. وهو المقال الافتتاحي لمجلة (كراسات السينما) عام 1969م، حيث توصلا إلى استنتاج مفاده (أن كل فيلم هو فيلم سياسي بالضرورة، لأنه محدد بالأيديولوجيا التي تنتجه)، فالأفلام تصوّر واقعاً، وليس الواقع ذاته، أي أنها لا تعرض الحقيقي أو حتى الحيادي، بمعنى أن عدسة التصوير منذورة للحركة في حيز أيديولوجي. نبرة بيانيّة المقال تغلب عليه النبرة البيانية ككل الكتابات التأسيسية، وفيه دعوة لرفض ما أسمياه بتقاليد الكتابة التافهة الزائلة عن السينما The tradition of frivolous and evanescent writing. وعلى هذا الإيقاع التحفيزي كُتب لتأسيس قاعدة نظرية واضحة إزاء الممارسة النقدية في حقل السينما، وذلك للإجابة عن متوالية من الأسئلة حول كيفية إنتاج الفيلم، وتصنيعه، وتوزيعه، وفهمه. ومن خلال تطوير نص معرفي يلامس النظرية، ويؤسس لمنهج قادر على تعبئة فراغات المصطلح، وعلى هذا الأساس تشكّلت النظرة للأفلام، أي بمقتضى كونها منتجات مادية لنظام ما، وتمتلك قيمتها التبادلية داخل السوق، وبالتالي فهي منتجات أيديولوجية لذلك النظام، بحيث لا يمكن لأي صانع أفلام مهما بلغ من الثورية والرغبة في التغيير من زحزحة معادلات الاقتصاد، سواء على مستوى الشكل أو المضمون. حيث يدلّلان على ما ذهبا إليه بتهديد غودار - مثلاً - بعدم رغبته في العمل داخل مستوجبات النظام. فئات الأيديولوجيا السينما هي إحدى اللغات للتواصل البشري، بمنظورهما، وهي لغة ذات طابع أيديولوجي، كما يتأكد هذا المنزع في كل مراحل إنتاج الفيلم، أي فيما يتعلق بالموضوع، والأسلوب، والمعاني، والسرد، وذلك من خلال طبيعة النظام الذي تعمل داخله وتعكس أيديولوجيته، الأمر الذي يصعّب قطع الصلة ما بين السينما ووظيفتها الأيديولوجية، فقد تحولت السينما بالفعل إلى أداة لفكرٍ يؤدي بدوره إلى تصوير الواقع بهذا الشكل الأيديولوجي، وبالتالي فإن كل فيلم هو سياسي بموجب الفكر الذي يتبناه. ومن ذلك المنطلق صنفا طبيعة الأفلام ومنسوب الأيديولوجيا الطافحة، أو الراسبة فيها إلى فئات. الفئة الأولى، الأفلام المشبّعة بالأيديولوجيا التي تتحدث فيها الأيديولوجيا عن نفسها، فيما يبدو إفراغاً للأيديولوجيا القديمة في قالب جديد يمجّد الحياة والإنسانية. والثانية، هي التي تستخدم الموضوع السياسي لمهاجمة المنزع الأيدلوجي. أي استخدام النشاط النظري بشكل معاكس للأيديولوجيا، كما في فيلم (الحافة) The Edge. والثالثة، هي الأفلام التي لا تعتمد على الموضوع السياسي بشكل صريح، إلا أن مسار الفيلم يتخذ هذا المنحى من خلال ما يؤديه الشكل، كما في فيلم (خادم الفندق) The Bellboy. والرابعة، هي الأفلام التي تطرح قضية سياسية صريحة، على خلفية أيديولوجية منذ البداية إلى النهاية. كفيلم (زِدْ) Z. والخامسة، هي الأفلام التي تبدو للوهلة الأولى أنها تنتمي بقوة إلى الأيديولوجيا. وتبدأ من منطلقات غير تقدمية، تراوح بين الرجعي والانتقادي، مروراً بالاسترضائي، وهي أفلام تعتورها الفراغات، وتكشف عن انقياد النص للأيديولوجيا، كما في أفلام روسليني Rossilleni مثلاً. والسادسة هي الأفلام الحيّة live Cinema التي تقوم على أفكار وأحداث سياسية، وتعتمد على مصطلحات مثالية، وهي أشبه ما تكون بالأفلام الاجتماعية، كفيلم (العائلات الكبيرة) The Grand Families. ويتحدر منها فئة أخرى معنية بالأشياء والتعويل عليها لإنتاج المعنى. وبعد كل ذلك التطواف التنظيري والتصنيفي يختتمان مقالهما بإلماحة عن وظيفة النقد الأيديولوجي ومجال نشاطه، كما يتمثل في كشف ما تخفيه الأفلام المصوغة بالأيديولوجيا. وقراءتها على مستوى الدال والمدلول، لبيان ضعف المدلول، الخاضع للسياسة، بغياب الدوال المتمثلة في العمل التقني النظري، وكذلك الوقوف على الفجوة ما بين الفيلم والأيديولوجيا، وقياس الأثر الذي تحدثه الأفلام، وهذا لن يحدث - برأيهما - عن طريق ممارسة نقدية تخمينية، يمتزج فيها التعليق العابر بالهذيان، على طريقة كُتّاب الأعمدة، بل على قاعدة علمية منهجية تعتمد التحليل الواقعي الدقيق لما يحكم الانتاج من الظروف الاقتصادية والأيديولوجية والطلب والاستجابة من ناحية، ولمهمة إنتاج المعاني أيضاً، من ناحية أخرى، ولو في إطار الممارسة التجريبية. قراءات مفهوم الأيديولوجيا منذ ذلك البيان تعرض لقراءات مترادفة ومغايرة بمقتضى التحولات والمنعطفات الواقعية والفكرية، حيث تم توسيع المصطلح داخل الحقل السينمائي بشكل أكبر ليغطي كل إشكالات الحضور الفكري والعقائدي في الأفلام، حيث يميل لويس غيانيتي Louis Giannetti في دراسته (وعي الأفلام) Understanding Movies إلى القول بأن الأيديولوجيا هي مجموعة من الأفكار التي تعكس احتياجات فرد أو جماعة أو فئة. ويربط المصطلح مع السياسة والبرامج الحزبية، كما يعني أيضاً مجموعة من القيم داخل مشروع إنساني، بما في ذلك صناعة الأفلام. مقترحاً تنقيل المعاني وتداولها مع جمهور السينما. وهو ما يعني إدراج كل الأفلام المعنية بالدفاع عن البيئة والانتصار للمرأة ومناهضة العنصرية وإدانة الحروب ومقاومة الشركات الاحتكارية والتصدي لسطوة رجال الدين وغيرها من القضايا والموضوعات داخل ذلك المدار الأيديولوجي بمعناه الإنساني الواسع. لا يمكن التغافل عن وجود نص تحتي سياسي للأفلام أيديولوجي في المقام الأول. وهو نص له مهاداته الفلسفية داخل التفكير السياسي، ولكن لا بد من الحذر المنهجي عند تجريب النقد الأيديولوجي على الأفلام، فهذا النوع من النقد، حسب برنارد ف ديك Bernard F. Dick في كتابه (تشريح الفيلم) Anatomy of Film ليس على تلك الدرجة من البساطة والجاهزية. إذ قد يفسر الفيلم على أساس أنه انعكاس طبيعي لأيديولوجية صانعه، لأن هوليود - برأيه - ليست على تلك الدرجة من التطرف في استدعاء الأيديولوجيا على حساب الفن. ويمثل في هذا الصدد بجوزيف ليو مانكيويكز Joseph Leo Mankiewicz وهو مخرج ليبرالي وليس يسارياً، حيث أخرج فيلم (لا مخرج) No Way Out في الخمسينيات طارحاً قضية التمييز العنصري، وكذلك المخرج ستيفن سبيلبيرج Steven Spielberg الذي أدان في فيلمه (قائمة شاندلر) Schindler›s List الفاشية، ولم يكن يسارياً. مقابل الصورة الغائمة للشيوعية التي يستعرضها فيلم (ريد) Red الذي استعرض حياة الصحفي جون ريد المتأثر بالثورة البلشفية، فيما يفترض أن يكون فيلماً يسارياً وهكذا. محاذير تفسير الفيلم بموجب عقيدة مخرجه ممارسة نقدية لها محاذيرها، كما أن تحليل الفيلم بموجب سياسته هو ضرب من التعسف النقدي الذي يقترفه النقد الأيديولوجي، وهو منحى نقدي تم الانتباه إليه فيما أُصطلح عليه بعنوان (نقاد الغابة ونقاد الشجرة) Forrest and Trees Critics، حيث يقارب نقاد الغابة المنجز بكامله، فيما يكتفي نقاد الشجرة ببعض الأفلام والمخرجين بموجب حالة انتقائية، للتدليل على وجهة نظرهم ومزاجهم الأيديولوجي، تماماً كما قوربت نظرية سينما المؤلف Auteur theory بشيء من الحذر بالنظر إلى الحضور الطاغي للمخرج كمؤلف وصانع لكل تصورات الفيلم، حيث كانت البنيوية ترفض كون الفيلم حالة مغلقة. النقد الأيديولوجي، عندما يتمادى في التأويل والإحالات يلبس اللبوس الاجتماعي الموشى بالطابع الأخلاقي، وهذا لا يعني أن السينما ليست محلاً للصراع ما بين الأيديولوجيات، ولكن هناك فرقاً ما بين مساءلة عقيدة الفيلم ومنظومته الفكرية وبين تحليل بنيته الموضوعية والفنية، إذ ينبغي على النقد أن يؤدي مهمة الحفر الفكري والجمالي في فضاء أرحب، أي في الكيفية التي يُبنى بموجبها الفيلم. لأنه - أي الفيلم - فن من فنون تصوير الحقيقة. وهو مزيج من السلعة التجارية والقوة الاجتماعية والمادة الفكرية واللمسة الفنية، بمعنى أن الفيلم لا يكتسب قوته بسبب مغزاه الاجتماعي وصدقه الفني فقط، بل بمقتضى معادلة مركبة ما بين التجاري والفني. العلاقة بين السينما والأيديولوجيا ليست على تلك الدرجة من الوضوح والفرز، بل هما في حالة من التداخل والتمازج، وإذ لا يمكن للأفلام أن تعمل خارج الإطار الأيديولوجي، يصعب على الأيديولوجيا أن تصوغ كل مركبات الفيلم، لأنها في هذه الحالة ستؤدي دوراً إرشادياً أقرب إلى الوصاية والتلقين، وهو اتجاه لا يمكن التسليم به حتى فيما عُرف بسينما جبهة اليسار، لأن القيم الجوهرية للفيلم الجمالية والموضوعية، أكبر وأوسع وأعمق من أن تُضغط في معلبات أيدلوجية، كما أن أدلجة الفيلم بهذا الشكل السافر، سواء كمنتج أو على مستوى القراءة النقدية العقائدية يؤدي حتماً إلى إنكار علم الجمال التجريبي في السينما، والسينما الجيدة هي السينما الجيدة بغض النظر عن الأيديولوجيا. سطوة لا يمكن لصنّاع الأفلام الهرب من الأيديولوجيا، فالسينما والفن - بتصورهما - فرعان منها. وكل مراحل الفيلم لا بد أن تعبر من خلال قنوات احتكارية لشركات كبرى، بما في ذلك المادة الخام للفيلم. وهنا مكمن التحدي لكل من يفكر بإحداث تغيير ولو بسيط في صناعة السينما، لأن الفيلم، على عكس الآداب والفنون، يتطلب وجود قوة اقتصادية خلفه في كل مراحله الإنتاجية والتسويقية، وهو ما يعني حضور تلك القوة بكل سطوتها الأيديولوجية، ومن خلال وجودها الواقعي الذي يمثل هو الآخر وجهاً من وجوه الأيديولوجية، كما يعني ذلك أيضاً انتفاء فكرة كون الكاميرا أداة غير متحيّزة لتصوير العالم.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©