الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الكفاءة المهنية في التصور الإسلامي

الكفاءة المهنية في التصور الإسلامي
24 فبراير 2011 19:59
لقد خلق الله تعالى البشر ليكون التعاون فيما بينهم، وما ذلك إلا وفق مقتضيات المدنية التي ركبت في طباعهم، وجبلت عليها فطرهم. وفي الوقت ذاته قسم المواهب بينهم، كما قسم بينهم أرزاقهم، فاحتاج كل منهم إلى الآخر ليكمل بعضهم بعضاً، في الحرف والمهن، وما يحتاجونه من المنافع والصناعات، وفق أخلاقيات وضوابط تؤدي بهم إلى الاستقامة في حياتهم والانضباط في حرفهم. وكان مما أبتلي به بعض المجتمعات الآن تواري الكفاءات في المهن والأعمال، وضياع الأمانة في الحرف والصناعات، وغياب الفضل والإحسان في تبادل المنافع والمعاملات. وما حدث ذلك إلا لغياب الأخلاق المهنية التي أقرها الإسلام لدى الممتهنين، ليكون من خلالها الإتقان في العمل، والإجادة في الصنع، والإتقان في الحرف. هذه الأخلاقيات التي لو روعيت كما وضعها الإسلام لودع الغش دنيا الناس في أعمالهم ومهنهم، ولنعم الناس بالأمانة والإتقان التي توشك أن تغيب من دنيا التعامل فيما بينهم، وتأتي على رأس تلك الأخلاقيات في الكفاءة المهنية التي جعلها الإسلام من جملة مقاصده الأساسية في مجال الحرف و»الإتقان للعمل»، ويقصد الإسلام بالإتقان هنا «أن يحكم الإنسان أي عمل ويؤديه بجودة، وأن يخرج من بين يديه على أحسن وجه وأتمه». وهذا ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه). ولن نصل بالصنعة أو العمل إلى درجة الإتقان إلا إذا قام على أمره المهرة الأكفاء المناسبون له، والمتخصصون فيه. من أجل هذا حرص الإسلام على إيجاد الكفاءات في مختلف المهن والأعمال واهتم بنوعيتهم وكيفهم، لا كمهم وكثرتهم، ذلك لأنه بالكفاءات النابهة تبنى الأمم، وتنهض المجتمعات، لذا وجدنا عمر بن الخطاب وقد عول على الكفاءات العسكرية حال الحرب، ورأى أن الواحد من هذه الكفاءات يعدل ألفاً ممن سواه، حيث بعث عمرو بن العاص لفتح مصر، ومعه أربعة آلاف جندي فقط، ثم طلب منه مدداً، فأمده بأربعة آلاف، ومعهم أربعة من أصحاب الكفاءات الحربية، قال في شأنهم الفاروق عمر «كل واحد منهم بألف» واعتبر المجموع اثنا عشر ألفاً، ولن يغلب اثنا عشر ألفاً من قلة «لقد آمن عمر في هذه الواقعة أن العبرة بنوع الرجال وكفاءتهم وقدراتهم ومواهبهم المناسبة للعمل، لا بأعدادهم وأحجامهم. وروي عنه أنه جلس يوماً مع بعض أصحابه في دار رحبة فقال لهم تمنوا، فقال أحدهم: أتمنى أن يكون لي ملء هذه الدار دراهم من فضة أنفقها في سبيل الله، وتمنى آخر أن يكون له ملؤها ذهباً ينفقه في سبيل الله ،أما عمر فقال:ل كنى أتمنى ملء هذه رجالاً مثل أبى عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبى حذيفة فأستعملهم في سبيل الله «لقد أيقن عمر بمقولته تلك أن الأمم لا تبنى بالكثرة الغثائية وإنما تبنى بسواعد الكفاءات الموهوبة والمخلصة من أبنائها الذين صدقوا ربهم وأوطانهم ما عاهدوهم عليه وما بدلوا تبديلا. وهو في هذا لم يخرج عما قرره القرآن الكريم مما ينبغي توافره في أصحاب المهن المختلفة. حيث بين القرآن أن الكفاءة والخبرة والمقدرة، أول ما ينبغي توافره في أصحاب الحرف والأعمال» وهذا ما دل عليه قول ابنة شعيب تخاطب أباها (يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) القصص (26) .والقوة هنا تعني الكفاءة والمقدرة التي بها يتأتى الفعل. فقد بينت في قولها هذا معيار الاختيار للوظيفة والعمل، وبينت أن الكفاءة والمقدرة هي أول ما يبحث عنه في ذلك، وليس حكم ابنة شعيب ومعيارها هنا في تولي الوظيفة والمهنة منبعه الهوى، بل مرده إلى الاختبار واليقين، حيث رأت من كفاءة موسى عليه السلام ما يرشحه للعمل عند شعيب عليه السلام، إذ رفع حجراً لا يقوى على حمله إلا العصبة أولى القوة، فاستدلت بذلك على قوته وكفاءته وقدرته وأهليته للعمل. كذلك نجد هذا المعيار وقد تعارف الجن عليه أيضاً في عالمهم، فعندما خاطبهم نبي الله سليمان عليه السلام قائلاً لهم في شأن ملك بلقيس (يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) النمل (38). هب من رأى في نفسه الأهلية والكفاءة من الجن معلناً عن نفسه، كاشفاً عن مواهبه ومؤهلاته، قائلاً: (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) النمل (39). وكأنه عرف كذلك أن الكفاءة والقدرة من مبررات الترشح للوظيفة، ومن السمات التي يجب توافرها في الممتهن. ودلتنا هذه الواقعة مع نبي الله سليمان كذلك أنه عند تعدد الكفاءات فإنه يختار لإنجاز المهمة الأكفأ والأقدر، ألم تر إلى قول الله سبحانه وتعالى في سياق القصة ذاتها (قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) النمل (40). وكأن العلم عند هذا الجني قد زاد عن سابقه، فأهله للعمل وإنجاز المهمة بدلاً منه نظراً لزيادة كفاءته عن سابقه. من هذا نأخذ أن مدار الكفاءة في الإسلام إنما يرجع إلى العلم والخبرة اللذين من خلالهما يكون الإتقان في العمل والتجويد في المهنة والإصلاح فيها، لأجل هذا نقرأ عند الإمام الغزالي فيما بثه من حكم لتلميذه في رسالته له «أيها الولد العلم بلا عمل جنون، والعمل بغير علم لا يكون». من هنا كان العلم الذي يعد أساساً للكفاءة شرط في كل عمل قيادي وغير قيادي سواء كان عملاً سياسياً إدارياً، مثل عمل يوسف عليه السلام الذي قال له ملك مصر (إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) يوسف ( 55،54) . وقوام هذه المؤهلات أمران:حفظ، يعني به الأمانة. وعلم يقصد به الخبرة والكفاءة. وهذا يوافق ما أوردناه سابقاً على لسان ابنة شعيب عليه السلام، وعلى لسان الجني في حديثه مع نبي الله سليمان عليه السلام. كذلك يشمل العلم الذي هو عنوان للكفاءة والدربة الأعمال العسكرية، كما قال الحق سبحانه في تعليل اختيار طالوت ملكاً على أولئك الملأ من بنى إسرائيل ( قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) البقرة (247) . لذلك يحذر الحسن البصري رضى الله عنه من الكفاءات الزائفة التي تدعي الأهلية للعمل فيقول «العامل على غير علم كالسالك على غير طريق، والعامل على غير علم يفسد أكثر مما يصلح»، ويلحق بما سبق من يٌنصِب نفسه للفتوى، إذا لم يكن أهلاً لها كفء لمنصبها ومهنتها متمكناً في عمله، فقيهاً في دينه، فإنه والحالة هذه «يحرم الحلال، ويحل الحرام، ويسقط الواجبات، ويلزم الناس بما لم يلزمهم به الله تعالى، ويقر المبتدعات، ويبدع المشروعات، ويكفر أهل الإيمان، ويبرر كفر أهل الكفر، وهكذا»، وهذا كله مرجعه إلى غياب الكفاءات المؤهلة لعمل الفتوى بالعلم والفقه وغير ذلك من المؤهلات والشروط. ولقد رأينا تشديد النبي صلى الله عليه وسلم على من ينصب نفسه لهذا العمل وهو غير كفء له أو غير حائز مؤهلاته، حينما أنكر على من تسرع في الفتوى في عهده فأفتى بها رجلاً به جراحة، أصابته جنابة أن يغتسل، دون رعاية لما ألم به من جراح، فكان ذلك سبباً في موته. فقال عليه الصلاة والسلام «قتلوه قتلهم الله! ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم». وهنا نلحظ كيف اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم فتواهم التي غاب عنها الكفاءة والأهلية قتلاً له، ودعا عليهم بقوله «قتلهم الله» ومعنى هذا أن تولي الأدعياء الوظائف مَفسدة تجلب الدمار على الأفراد والجماعات، ولهذا يقول ابن حزم «لا آفة على العلوم وأهلها أضر من الدخلاء فيها، وهم من غير أهلها، فإنهم يجهلون ويظنون أنهم يعلمون، ويفسدون، ويقدرون أنهم يصلحون». ويلحق بالفتوى مهنة «الداعية» فالكفاءة والأهلية المؤسسة على العلم مطلوبة له وإلا أضر بعمله ومهنته، ومن ثم كان قول الله تعالى تعالى ( قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي) يوسف (108). فكل ممتهن للدعوة يجب أن يكون عمله ودعوته على بصيرة ودراية، ومعنى هذا أن يكون على بينة من دعوته، ومعرفة مستبصرة بما يدعو إليه فيعلم إلام يدعو؟ ومن يدعو؟ وكيف يدعو؟ وإلا لم يكن كفء لعمله الدعوي. هذا ويترجم فلاسفة الأخلاق الإسلاميين «للكفاءة» «بالحكمة» والتي تعني الإصابة في العلم والعمل وعلى ذلك يكون الرجل الحكيم هو الرجل البصير بوضع الأمور في نصابها، وهى فضيلة عقلية تمكن صاحبها من حسن القيام بعمله». ويرى ابن مسكويه، والإمام الغزالي «أنها فضيلة النفس الناطقة المميزة». ويذهبا كذلك إلى أنه من خلال الحكمة يمكن للإنسان أن يقدر حركاته بالقدر الواجب في كل الأحوال، وأن يلم بصواب الأفعال. كذلك يؤكد ابن مسكويه أن للحكمة أقساماً كثيرة تعد مقومات للكفاءة بالمصطلح المهني هي: الذكاء: ويعنى سرعة انقداح النتائج وسهولتها على النفس. الذكر: وهو ثبات صورة ما يخلصه العقل، أو الوهم من الأمور. التعقل: وهو موافقة بحث النفس عن الأشياء الموضوعة بقدر ما هي عليه. صفاء الذهن: وهو استعداد النفس لاستخراج المطلوب. جودة الذهن وقوته: وهو تأمل النفس لما قد لزم من المقدم. سهولة التعلم: وهي قوة للنفس وحدة في الفهم بها تدرك الأمور النظرية. هذه صفات من خلالها تتكون الحكمة ويحصل العلم لدى الإنسان بها، وباجتماعها تتم الكفاءة الذاتية لديه، وهذا ما ينشده الإسلام لدى العمال والممتهنين كافة في الحرف وسائر الأعمال. د. محمد عبد الرحيم البيومي كلية الشريعة والقانون - جامعة الإمارات
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©