الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«الميكانيكي» يصلح الأعطاب وإن كانت بشرية

«الميكانيكي» يصلح الأعطاب وإن كانت بشرية
24 فبراير 2011 20:01
الميكانيكي اصطلاحاً هو رجل يصلح الأعطال، أي يتولى إزالة عوامل الإعاقة من دروب الذاهبين إلى أهدافهم اليومية في الحياة. وفي قاموس العصابات التي طورت أداءها ليصير عملاً متوافقاً مع السائد، تفسير آخر للمصطلح، حيث يكون على الميكانيكي أن يزيح العقبات البشرية من أمام الطامحين إلى مراكمة الثروات. هي مهنة كسائر المهن تستدعي المهارة والبراعة، وتحتمل الاحتراف أيضاً. (أبوظبي) - هي مهنة يجدر بأصحابها التعامل معها بمنتهى الجدية إذا أرادوا تمايزاً في إطارهم العملي، عليهم أن يعترفوا بأنفسهم أولاً لينتزعوا اعتراف الآخرين، وأن يصدقوا أن ما يقومون به هو عملية إصلاح للأعطال ليس إلا، وما من مبرر للتوقف عند كون الآدميين مادة عملهم.فيلم «الميكانيكي» (إخراج سيمون وست، تمثيل: جاسون ستاتام، بن فوستر، وطوني جولدن) يبدأ من مشهد رجل يجر كرسيه المدولب، عجوز لم تفقده السنون عزيمته، هو لا يزال يحتفظ بكل ما يسع الوجه البشري أن يختزنه من مشاعر دافئة وباردة أيضاً. لا يزال يملك شجاعة أن يحب الحياة، ومقدرة أن يدافع عنها، ورغبة أن ينتصر على أعدائه، ولو عبر الفرار منهم. موعد مع الموت هاري دين، رجل أعمال، لا يهم كيف بنى امبراطوريته، ما يعنينا حقاً أنه أثار في سبيل ذلك غضب الكثيرين، بعض هؤلاء لن يتساهلوا، ولن يسامحوا، وها هو الرجل العجوز يتلقى اتصالاً من مجهول يخبره خلاله أنه مستهدف من خصومه، وأن ساعة تنفيذ المهمة الدموية قد أزفت، المتصل يحدد للرجل المستهدف خطوات عملية يجدر به تنفيذها للفرار من شرك الموت المنصوب له بعناية، خارطة لطريق النجاة لا يتردد صاحب الكرسي في الالتزام بها بدقة تبدو إحدى سمات عمله، هو رجل يحترف الهجوم على أعدائه بمثل ما يتقن الهروب من غضبهم المدروس وفق خطط علمية. خطة متقنة بسرعة لا تلائم مستوى إعاقته يغادر الرجل مكتبه الباذخ، موقناً أنه لن يعود إليه يوماً، وببراعة لافتة ينزل درجاً ضيقاً، وبمثلها يتابع سيره نحو قبو شحيح الإضاءة، كل ذلك فيما المتصل به يقود تحركاته وفق مستو عال من الدقة، يكون الظن أنه قد بلغ شاطئ الأمان أخيراً عندما يفاجئه (ويفاجئنا معه) المتصل نفسه وقد قاده نحو كمين محكم، خطة متقنة للموت سعى إليها الرجل المخضرم على دواليب كرسيه المتحرك بعد أن خذلته الأقدام. الميكانيكي عادة يشتهر بدقة العمل، إذ ليس من متسع للخطأ الذي يكون مكلفاً في حالات مماثلة، كذلك هو يتعامل مع آلات معقدة يصعب التنبؤ بسلوكها في الحالات الحرجة، تكتسب المقاربة أبعاداً موحية عندما يصير الكائن البشري محور الاستهداف، الأخطاء هنا قاتلة، أما ضبابية السلوك فقاعدة متحركة يستحيل ضبطها، لهذا كان على الميكانيكي في الفيلم أن يكون حاسماً، مقلاً في الكلام، متقشفاً في إيحاءات الملامح أيضاً. حتى أننا لم نتذكر اسمه، فاللقب سيكفي لأن يقنعنا. أسئلة حرجة يمضي هاري دين إلى حتفه، بعد أن يترك قاتله مثقلاً بالأسئلة التي تحتمل تأنيب الضمير في زمن التقاعد من مهنته الدموية، حيث سيعلم المشاهد عبر الحوار المختصر الذي سيدور بين القاتل وضحيته أن هناك صلة قديمة تجمع بين الرجلين، وفي جرعة مضافة من الإثارة سيشهر الرجل المقعد مسدسه قبل ملاحقه، لكنه سيحجم عن إطلاق النار عليه؛ لأنه لا يرى فائدة في ذلك، كما يوضح في خاتمة السجال مع قاتله: «كان بوسعي إرداؤك، لكنهم سيرسلون غيرك، ولن أقوى عليهم». غريزة الأذى عملية القتل كان مخططاً لها بعناية بحيث تبدو ناجمة عن حادثة سرقة سيارة، وبعد مواراة الضحية في الثرى سنتعرف إلى ماكينا، ابنه العابث الذي بدا على خلاف مزمن مع والده، دون أن يجعله ذلك يتخلى عن رغبته في الثأر، هو ينوي الانتقام من قتلة أبيه عبر الإطاحة بمن تطالهم يداه من سارقي السيارات، إذ «قد يكون القاتل أحدهم»، إفراطه في استعمال القوة سيجعله يبدو كما أن هدفه ليس الانتقام بحد ذاته، وإنما إشباع رغبة غريزية جامحة في الأذية. دقة تنفيذ العملية لم تترك شكوكاً في كون الحادثة ناتجة عن عملية سرقة، كما سبقت الإشارة، وسيتعزز هذا اليقين بوجود القاتل في جنازة ضحيته، وسيؤول الموقف نحو مفارقة تحاذي الطرافة عندما يستعين ماكينا بالميكانيكي من أجل الثأر لوالده، أما حين يوافق المحترف، مبدياً بعض الحماس المتقشف، فيغدو المناخ سوريالياً بامتياز. جوانب خفية كان لرفقة ماكينا مع الميكانيكي أن سلطت الضوء على جوانب خفية في شخصية الأخير، وأثبتت أن الرجل ليس هاوياً للقتل، إنما هو صاحب مهنة حريص على الالتزام بمقتضيات مهنته، لكنه يبدي ممانعة متجذرة لأي أذية تطال من ليس موضوعاً على لائحته، وهو سينقذ أحد سارقي السيارات من براثن ماكينا، منحياً باللوم على الأخير: «لا تحاول قتل من لديك مصلحة بقتله.. فذلك أقرب طريق لإدانتك». دوامة الدم مرحلة التعاون بين ماكينا والميكانيكي تدخل المشاهد في حالة الإرباك، العديد من الأسئلة تطرح نفسها: من يخادع من في هذه الدوامة الدموية؟ هل يتعلق الأمر بمحاولة ذكية من ماكينا للإيقاع بقاتل والده؟ هل هي قواعد الاحتراف التي تفرض على الميكانيكي البقاء متواصلاً مع غريمه المفترض؟ مسار الأحداث يأخذ على عاتقه مهمة تمويه تلك التساؤلات والإيحاء بانسجام حميم بين الرجلين، إذ تتطور العلاقة بينهما نحو تحالف متين، خاصة عندما يأخذ الميكانيكي على عاتقه مهمة الثأر لوالد ماكينا من قتلته الحقيقيين، أي من المجموعة التي أوكلت إليه مهمة القتل، والأمر لا يبدو مخالفاً للمنطق: كان مكلفاً بتصفية هاري دين ففعل، واليوم هو مكلف بالانتقام من قتلته وهو يزمع الوفاء بتعهداته، فالمسألة لا تتعدى الواجب المهني، والتقني البارع لا يتحول طرفاً في خصومات زبائنه، هو يقف على مسافة واحدة من الجميع، وهذا ما ينوي القيام به. جريمة كاملة خلال فترة التحضير لعملية الثأر يمارس الميكانيكي مهمة تدريب ماكينا على بعض الأعمال المهنية، يسند إليه مهام اغتيال كان قد كلف به هو شخصياً بعد أن يكون قد أشركه في إحدى العمليات لتكون بمثابة اختبار عملي له، يضع أمامه المخططات الدقيقة التي تسهل له الوصول إلى أهدافه دون مشقة، كل الأحداث المقررة تسعى إلى تكريس القتل كمهنة نظامية تمتلك شروطاً وآليات تنفيذ يسعها أن تكون متقنة. هناك فرصة للجريمة الكاملة إذن بعكس ما كان سائداً في المدرسة الروائية البوليسية سابقاً. وعندما يقرر ماكينا الخروج عن القواعد المقررة، مدفوعاً بالرغبة في إثبات نفسه كمحترف خارج السلطة المعنوية لمعلمه، فيستعمل أسلوبه الشخصي في القتل، يكون قد ارتكب مجازفة من مرتبة الحماقة كادت أن تطيح به لولا أن أسعفه الحظ في اللحظة الأخيرة. براءة فائقة ينجح الميكانيكي وشريكه المتدرب في الانتقام لهاري دين، تكون العلاقة بينهما قد قطعت من الأشواط ما يدخل في روع المشاهد أن خطر الخصومة قد زال فعلاً، حتى يعود الشك مجدداً بعثور ماكينا على مسدس والده في أحد مخابئ الميكانيكي «هل سبق لك أن قتلت أحداً تعرفه»؟ يسأل ماكينا مدربه بأسلوب التلميذ المعجب بمعلمه، فيرد الأخير بإيجابية مختصرة، لا يلبث ماكينا أن يغير الموضوع بسؤال آخر بعيد عن السابق: «متى سنذهب في رحلة بسيارتك الجديدة»؟ يرد الميكانيكي بسؤال يغلب عليه الإنكار: «أنا وأنت معاً»؟ وقبل أن ينتظر إجابة من محدثه يتابع جازماً: «لن يحدث ذلك يوماً»! الخط المشتعل يكون الموقف نوعاً من الثرثرة بالنسبة لمشاهد طيب النوايا، لكن تتالي الأحداث لن يترك لحسن الطوية مجالاً، إذ سرعان ما يتوقف ماكينا أمام محطة للوقود بحجة فراغ المخزون، يحمل وعاء بلاستيكياً ويتوجه إلى المحطة لملئه، لكن النفط يسيل من الوعاء بدءاً من السيارة التي ينتظر فيها المحترف، هي لحظات قليلة قبل أن يلقي ماكينا عود ثقاب مشتعل عل خط النفط المرتسم فوق الإسفلت، ولحظات أقل قبل أن يشتعل الخط ومعه السيارة، وفوقها المحطة وسط دوي يوحي بهيمنة مطلقة للموت على المكان، وسرعان ما ينفتح المشهد التالي على ماكينا يقود السيارة الجديدة للميكانيكي مع ابتسامة نصر على وجهه، رسالة مختصرة يقع عليها ماكينا، تدفعه لزيادة حجم الابتسامة على وجهه: «ماكينا إن كنت تقرأ هذه الرسالة.. فأنت ميت»! قبل أن تبلغ ابتسامته مداها المتوقع تنفجر السيارة ماكينا محدثة دوياً يتجاوز مثيله لمحطة الوقود، وتتطاير أجزاؤها ومعها أشلاء سائقها، وفي المشهد الأخير سنطل على عنصري أمن يشاهدان شريطاً مصوراً في المحطة المحترقة، حيث يظهر الميكانيكي وهو يغادر السيارة فور توجه ماكينا لملئ وعاء الوقود.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©