الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

في بيتنا إيدز 1

2 مارس 2014 00:28
بولينا الشغالة الجنوب أفريقية من قبيلة السوتو، امرأة لا يبدو عليها هزال من يحمل فيروسا قاتلا فتاكا يرعب الجميع، تعمل معي في منزلي في بريتوريا لمدة ستة أشهر وأنا لا أدري شيئاً. بولينا امرأة نظيفة جداً، تجيد الغسل والكي ونظافة المنزل والمطبخ بصورة مذهلة، وهي متفانية جداً في عملها ولا تجلس أبدا للراحة طوال اليوم كالنحلة الفرحة في البيت هنا وهناك، وهي تحب طفلتي خديجة جدا، وتحب زوجتي وتقدرها، وهي امرأة حساسة شفافة يرق قلبها لأقل نقاش يفوق حد الاعتياد وترى أعينها تمتلئ دموعا وبريقا من أسف وحسرة لأقل الأشياء. دخلت المطبخ صباح اليوم كعادتي لعمل كوب من الشاي، وقلت لها اغسلي هذه الملعقة والكأس لكي أعمل الشاي، فغسلتهما بصورة جيدة، والتفتت إلى لتقول: إني سوف آتي متأخرة غداً ربما الساعة الحادية عشرة، فقلت لماذا، قالت لي غدا هو يوم مقابلتي مع الطبيب!، أي طبيب؟ قالت إني مصابة بالأيدز من العام 2006 من زوجي الذي توفي بعدها بعام، وأنا أقابل الطبيب منذئذ، قالت ذلك بكل راحة وأناة ووعي وثقة بما تقول، ثقافتها وحقوقها المدنية في جنوب افريقيا تتيح لها العمل مع الأسر أو أي جهة مؤهلة لها، لذلك لم تكترث بإخباري بأنها تحمل فيروس الإيدز الفتاك، وهي تواصل غسل أواني المطبخ كأن شيئا لم يكن!. اتسعت دوائر عيوني وأنا (أبحلق) في الكأس التي ناولتني لها، وقمت بغسلها بالماء ثانية، وقد أصابني ما أصابني من قشعريرة الرعب الذي صلبني لبرهة لا تقل عن خمس دقائق، وقلت لها، بولينا أنا أشكرك جزيل الشكر على إخبارك لي بأنك تحملين فيروس الإيدز، أنت امرأة نبيلة وصريحة!، وطفقت أبحر معها في كيف يعيش الشخص حامل هذا البلاء عبر المخاوف ومداهمات هواجس الموت التي تلفه كل حين؟، وكيف يعيش المرء عيشة عادية، وهو قد رأى بأم عينيه أحب الناس إليه وهو يتجرد من اللحم وتتحلل أعضاؤه وأعصابه كل يوم نحو قبره، كيف يتعامل مع ذلك ويقينه أنه ميت لا محالة وبداء العار هذا؟. قالت لي “ماستر”، في جنوب أفريقيا تقريباً نحو 5 ملايين يحملون هذا الداء العضال، وحكومتنا”الرشيدة” قد بثت فينا من التوعية ما يجعل الشخص يتعايش مع هذا المرض، وقد رفعت معنوياتنا لنرى انفسنا أننا لا نختلف عن الآخر الذي سوف يموت حتما يوما ما بالإيدز أو بغيره، كما أنها توفر لنا كمية من الأدوية التي نستعملها كل يوم ما يضفي علينا هذه الحيوية ويطيل فترة بقائنا على هذه الفانية والأعمار بيد الله ، والأهم من ذلك أن حكومتنا وشعبنا من الوعي والإدراك التام من مساواتنا بالآخرين في الحقوق والواجبات بشرط ألا نكون نحن حاملو مرض الإيدز قتلة لآخرين لم يصابوا به ، ولهذا أخبرتك ، وأنا أعمل بكل تأكيد على ألا أصيب أحدا في حياتي ولا أريد أن أحمل هذه العبء النفسي البغيض لأي أحد غيري وأحمل جرائره ، خصوصا أني أدين بدين (الزد سي سي، ZCC) الذي يحرم علينا أذى الآخرين !. التحامل على حاملي الإيدز هنا في جنوب أفريقيا، والتحامل على اللون والعرق والجنس والدين هنا، يعتبر انتهاكا صارخا لحقوق الإنسان يعاقب عليه القانون! والبوح بالإصابة بالإيدز على الملأ أمر لا يندى له الجبين ولا يهز شعرة لأي شخص، وإعلانه على الملأ شرف كبير ونبل وشجاعة ، ليس لأن معلنه يحمل هذا الداء، وإنما لأن الإعلان عنه في حد ذاته شجاعة فائقة وكبر في النفس ونبل في القصد. رأيت بولينا عدة مرات وهي تلاعب طفلتي خديجة ذات العام والشهرين، والتي تحبها كثيرا وتأخذها على عاتقها جيئة وذهاباً، وهي تغسل لنا أواني المنزل وتساعد زوجتى في الطهي! تُرى كيف أتصرف مع بولينا التي لا تزال تغسل في الأواني حتى كتابة هذه الرسالة، وقد أعطتني درسا قيما في الأخلاق وترفعا عن الحسد وسوء النوايا، والصبر على البلايا، وطهر في الطوايا، وهي تحمل هذا الداء الفتاك وهي تعول أسرة تتكون منها ومن أبيها وبنتين ولا تملك في هذه الدنيا أي عائل وأي نصير خلاف بضعة (الراندات) التي أعطيها لها آخر كل شهر، وهي فرحة تتقافز هنا وهناك لمجرد أنها ستملك قوتها في الأيام الباقيات؟ وترى كيف أتعامل معها وهي تحمل حقوقاً لا تتيح لي طردها أو إيقافها لمجرد أنها تحمل فايروز الإيدز! وإلا سوف أجابه مصيري القضائي المحتوم!. الرفيع بشير الشفيع جنوب أفريقيا
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©