الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الأدب والمقدس ميمياء الرغبة

الأدب والمقدس ميمياء الرغبة
30 مارس 2017 15:14
يقوم كتاب «الكذبة الرومنسية والحقيقة الروائية» للأنثروبولوجي والمفكّر رونيه جيرار (1923 - 2015) على أطروحة طريفة: أنّ ثمّة علاقة مثيرة بين الأدب والمقدّس، وذلك عبر حدس طريف يجد في مفهوم الرغبة الميميائية تعبيرته العليا. ولقد اتّخذ رونيه جيرار من حقل الأدب الحديث ورشة اختبار واسعة لأطروحته الأصيلة التي يعبّر عنها في حوار معه قائلاً: «يبدو لي أنّ كلّ أدب إنّما هو في جوهره بحث عن المقدّس. نحن نتكلّم عن العلاقات بين الرغبة والمقدّس، إنّ كلّ شعر، إنّما هو نزول نحو المقدّس، هو بحث عنه، هو استعارة للمقدّس». تقوم العلاقة بين الأدب والمقدّس على فكرة طريفة هي ميمياء الرغبة التي تعني أنّ المرء لا يرغب في أيّة رغبة من لدن نفسه، بل هو يحتاج دوماً إلى وسيط يدلّه على رغباته. وعليه فرغباتنا ليست رغبات فردية ولا رغبات حرّة. كلّ ما نرغب فيه إنّما رغب فيه آخرون قبلنا. وهنا يدحض رونيه جيرار ما يسمّيه بالوهم الرومنسي القائم على الاعتقاد بأنّنا أحرار في كل اختياراتنا وفي كلّ ما نرغب فيه. وهذه الفكرة وجدت صياغتها الحاسمة مع فرويد. وضدّ هذا «الوهم الرومنسي» يختبر رونيه جيرار الحقيقة التالية : نحن لا نرغب الاّ بقدر ما نحاكي رغبات الآخرين، أي أنّ رغباتنا هي دوما محاكاة لرغبات رغب فيها الآخرون قبلنا. فالرغبة أذن ليست بالشأن الخصوصي بل هي شأن جماعي في جوهره. وانطلاقا من هذه الفكرة يؤوّل رونيه جيرار ولادة مشاعر العنف فينا، أي التنافس والكراهية والنفاق والحقد. وهي المشاعر الحديثة التي يلتقط تشخيصاً فلسفياً لها ضمن كتاب «إنسان الحقد» لماكس شيلر. وهي مشاعر تمتدّ من الإعجاب وتصل إلى حدّ الحقد على من تفشل رغباتنا في محاكاة رغباتهم. لكن كيف تولد مشاعر الكراهية والحقد صلب الرغبة الميميائية؟ إنّها تولد من الرغبات التي لا يمكن تقاسمها (الحبّ). وهي تولد من التنافس الميميائي، الذي يولّد العنف نفسه، وهذا العنف يجد في الرغبة في الثأر هالته العليا، لأنّ الثأر هو محاكاة لعنف الآخر. وتمثّل إرادة الثأر التعريف الكبير للإنسانية نفسها. لكن إذا كانت الرغبة الميميائية مدمّرة إلى هذا الحدّ كيف تمكّنت الإنسانية من الاستمرار؟ من هنا ولد المقدّس: الذي يقوم على الأضحية بمن لم نستطع الظفر برغبته، فنجعله كبش فداء، من أجل أن تبقى الجماعة أي من أن أجل تطهير الجماعة من مشاعر العنف. مع واقعة الأضحية يقع طرد الشرّ خارج دائرة الجماعة. الأدب يقوم على نفس العمليّة : هو ضرب من القربان الرمزيّ للتطهّر من مشاعر العنف. فالأدب هو على نحو ما ضرب من مواصلة المقدّس بطرق مغايرة: أي من دون دماء ولا دموع القساوسة ولا صكوك غفران. الرغبة هي الأصل إنّ مفهوم الرغبة الميميائية هو إذن نقطة انطلاق جيرار. وإنّ كلّ ما كتبه حول الرواية الحديثة أو حول العنف والمقدّس أو حول تاريخ الأساطير والأديان بعامّة، إنّما هو من أجل فهم الرغبة. فهذا المفهوم يبدو أكثر تعقيداً من مجرّد اختزاله في الثنائية الكلاسيكية ذات - موضوع. إنّ كسر هذه الثنائية القائمة على ضرب من النرجسية الحديثة هي الرهان الفلسفي العميق الذي دفع بهذا الفيلسوف المعاصر إلى فتح ورشة مغايرة للحداثة من أجل تأسيس علم الإنسان. ما أضافه جيرار هو مفهوم «الوسيط» لكسر ثنائية الراغب والمرغوب فيه. هذا الوسيط هو النموذج الذي نحاكيه. ونقطة تجريب هذا الحدس التأويلي الأولى هو حقل الأدب أي الرواية الحديثة. ولقد انتخب جيرار لهذا الغرض خمسة أدباء، هم عيون الأدب الحديث، وهم: سرفانتس وفلوبير وبروست ودستوفسكي وستاندال. فالروايات الكبرى يمكنها أن تخبرنا عن الرغبة أكثر من علم النفس التحليلي والماركسية والأنثروبولوجيا البنيويّة. الوجه المشرق للكارثة إنّ ما أثار اهتمام جيرار هو المفارقة التالية: من جهة، ظهور أشكال جديدة من الفنّ أي نزع الأنسنة عن الفنّ وبالتالي نزع الأنسنة عن العالم برمّته، ومن جهة أخرى دخول العالم في موجة من العنف المطلق. وبالتالي هذا الضرب من التلازم بين الكارثة وولادة عدد من العباقرة في مجال الأدب يقود إلى السؤال: هل أنّ للرعب وجها مشرقا؟ ما يقترحه جيرار هو مفهوم «اعتناق الفنّ» وهو مفهوم التقطه من عبارة لبروست هي «الاعتناق الروائي». ويبدو أنّ الوجه المشرق من الكارثة هو الأدب. كيف يكون الأدب هو الوجه المشرق من الكارثة؟ لأنّه يقوم على ميمياء الرغبة، أي على ضرب من الخروج من «الأنا المحض» للشاعر الفرنسي فاليري، بما هو ضرب من الكوجيتو الفارغ وذلك من أجل توجيه الرغبة نحو الاهتمام بالآخر. ولقد اكتشف جيرار هذا الاهتمام بالآخر لدى ستاندال الذي يستثمر دوما الأدب صلب عالم الغرور. والغرور يتطلّب دوما نظرة الآخر. لكنّ هذا الحدس لستاندال قد ارتبط بحدث الثورة الفرنسية نفسها بحيث أنّ الجميع قد مرّ من الضحك إلى الغرور، أي إلى الرغبة الميميائيّة. لقد أصبح الجميع ناظراً ومنظوراً في آنٍ معاً. لكن أيّ تصوّر للآخر يقترحه جيرار؟ ضدّ سارتر يسعى جيرار إلى تكذيب خرافة النرجسيّة المغلوطة، ويتصور أنّ «الغيريّة إنّما توجد في كلّ ما أعتقد أنّه ملكي أنا وحدي». وضدّ فرويد الذي يعتقد في «نرجسية جوهريّة» يرى جيرار أنّ «وسواس الأنا ووسواس الآخر ينموان معاً وإنّ الرغبة هي من طبيعة ميميائية» وليست من طبيعة جنسيّة. إنّ الأدب ضرب من الجوع الهائل إلى المقدّس: من أجل ذلك «يؤله البشر بعضهم بعضا». لكن كيف يقع تأليه الوسيط؟ يختبر جيرار أطروحته على رواية رجل القبو لدستوفسكي التي تدور في صالة للبلياردو وفيها تعطّش رجل القبو للثأر من منافسه .. بحيث يحلم البطل بابتلاع كينونة الوسيط إذ هو يحلم أن يصبح الآخر. فما سرّ الرغبة بالآخر؟ يجيب جيرار بأنّ «الرغبة في جوهر الآخر بهذا الشكل لا بدّ أن تكون نتيجة الإحساس بنفور كبير تجاه الذات الخاصّة، فرجل القبو إنسان ضعيف حقّاً وهزيل، ومدام بوفاري برجوازية صغيرة من الريف، وبالتالي نفهم سبب رغبتهما في تغيير كينونتهما». إنّ تأليه الوسيط يتجلّى أيضاً ضمن ما يسميه جيرار «لعنة البطل»، ويقول «إنّ لعنة البطل رهيبة وشاملة لدرجة أنّها تنتقل إلى الكائنات والأشياء التي تقع تحت تأثيره بصورة مباشرة، فالبطل، كمنبوذي الهند، ينقل العدوى إلى الكائنات والأشياء التي قد يستخدمها». والمثير هو أنّ كراهية الذات لا تأتي من المجتمع بل من البطل نفسه. وهو ما يلتقطه جيرار على لسان رجل القبو لدوستفسكي: «لا يمكن للإنسان الشريف والمتعلّم أن يكون مغروراً إلاّ إذا كان صارماً مع نفسه إلى أبعد حدّ ويحتقرها أحياناً حتى الكراهية». لكنّ هذه الكراهية لا تأتي إلاّ من عهد كاذب يأتي من الخارج. هذا العهد الكاذب هو بيت القصيد ضمن مقاربة جيرار. وهو عهد الوعد باستقلالية ميتافيزيقية للذات. العهد الكاذب كيف تعيش الإنسانية الحديثة هذا العهد الكاذب؟ ما حدث هو الوعي الحادّ بوحدة كلّ منّا تجاه هذا الوعد الكاذب. بحيث لم يعد البشر قادرين على التخفيف من معاناتهم بالاشتراك فيها. وهو ما عبّر عنه رجل القبو لدوستفسكي: «إنّي وحيد وهم معا». والمثير ههنا هو أنّ كلّ منّا يكتشف في قرارة نفسه أنّ هذا الوعد كاذب لكنّه يظلّ يتوهّم أنّ الوعد يبقى حقيقياً لدى الآخرين «فكلّ امرئ يظنّ أنّه الوحيد المحروم من الميراث الإلهي ويجهد لإخفاء هذه اللعنة، فالخطيئة الأصلية لم تعد حقيقة كل البشر كما في العالم الديني..». ولأنّ الجميع قد فقدوا قدرتهم على الاشتراك في حقيقة الخطيئة الدينية، لم يبق للذات الحديثة غير أن تعيش معاناتها في وحدة: «الجحيم الحقيقي هو أن يظنّ المرء أنّه وحيد في الجحيم، وكلّما كان الوهم عامّا كلّما كان فاضحاً..». ورغم ذلك فالأدب يصلح كي نعيش معاً ضمن هذا الجحيم. وهنا يقارن جيرار بين «نزوع المتديّن نحو الله» و «النزوع المذعور للذات الحديثة نحو الآخر». ويرى أنّ العلاقة عكسية : وتصير بذلك مشاعر الكراهية التي للإنسان الحديث هي الصورة المعكوسة للحبّ الإلهي، فيقع تقديم المحبوب أي النموذج الذي نحاكي رغبته، أضحية للآلهة المرعبة. ما نظفر به من هذا الكتاب هو النتائج التالية: 1) إنّ البشر يرغبون في رغبات الآخر هرباً من الإحساس بما هو خاصّ، والآخر هو الجحيم الذي سنظلّ رغم ذلك نحاكيه دوماً. 2) يصلح الأدب كي يصاحبنا صلب الجحيم، مثلما يصاحب فيرجيل دانتي في الكوميديا الإلهية. والجحيم ههنا هو جحيم المشاعر الحديثة أي، على حدّ توصيف جيرار، «الحسد والغيرة والكراهية العاجزة». 3) ثمّة ضرب من «الجوع الهائل إلى المقدّس» هو الذي يجعل الكتابة الروائية الحديثة ممكنة. 4) الأدب هو الذي يعلّمنا كيف نتوجّه نحو المقدّس. لذلك تظهر الحاجة إلى الرواية الحديثة التي ولدت لكي تمنح الإنسانية نماذج جديدة من التعلّق بالمقدّس. إنّ روايات من قبيل دون كيشوت لسرفانتس والأحمر والأسود لستاندال والإخوة كارمازوف لدستوفسكي والبحث عن الزمن الضائع لبروست ومدام بوفاري لفلوبير هي بمثابة الأناجيل الجديدة للإنسانية الحديثة. 5) لكن هل يمكن التحرّر من هذا الدور الميميائي ومن هذه الرغبات اللامتناهية في رغبات الآخر؟ أم نحن محكومون بالإحباط دوما لأنّ العالم الذي سقطنا فيه هو عالم الوعد الكاذب؟ هو عالم العنف المعمّم الذي يتقاتل فيه البشر باستمرار؟ ومن يسعفنا من هذا الجوع الهائل إلى المقدّس؟. إنّ جيرار يقترح علينا أفقاً طريفاً هو أفق «اعتناق الفنّ» بوصفة تجربة روحيّة عميقة قادرة على إدراك ضرب من المقدّس، مقدّس من نمط جمالي، بوسعه أن يمنح العالم إيقاعاً جديداً. كيف يولد الحقد؟ كيف تولد مشاعر الكراهية والحقد من صلب الرغبة الميميائية؟ إنّها تولد من الرغبات التي لا يمكن تقاسمها (الحبّ). وهي تولد من التنافس الميميائي الذي يولّد العنف نفسه، وهذا العنف يجد في الرغبة في الثأر هالته العليا، لأنّ الثأر هو محاكاة لعنف الآخر. وتمثّل إرادة الثأر التعريف الكبير للإنسانية نفسها. لكن إذا كانت الرغبة الميميائية مدمّرة إلى هذا الحدّ كيف تمكّنت الإنسانية من الاستمرار؟ «آخَر» جيرار أيّ تصوّر للآخر يقترحه جيرار؟ ضدّ سارتر يسعى جيرار إلى تكذيب خرافة النرجسيّة المغلوطة، ويتصور أنّ «الغيريّة إنّما توجد في كلّ ما أعتقد أنّه ملكي أنا وحدي». وضدّ فرويد الذي يعتقد في «نرجسية جوهريّة» يرى جيرار أنّ «وسواس الأنا ووسواس الآخر ينموان معا وإنّ الرغبة هي من طبيعة ميميائية» وليست من طبيعة جنسيّة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©