الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

توحُّش الكينونة

توحُّش الكينونة
29 مارس 2017 21:39
في مرسم محمد المزروعي تتعثر نظرتك الأولى بحجر صلْدٍ وحادّ، يوقظ ألم الفكرة السوداوية: الوجود محض كابوس! يلعب محمد المزروعي في مرسمه، كما لو يلعب داخل أحلامه، وأحلامه مكوبسة على نحو واقعي. واقعٌ فانتازيٌّ مفخّخ بالنساء الهلاميات الآيلات إلى كثافات شبحية وسديمية، بوجوههن اللاذعة وأثدائهن الشبيهة بطيور جارحة وأشلائهن المتطايرة كطلاسم في آية أو رؤيا. إنهنّ في المحصلة أطياف هاربة لوجه أنثى واحدة، واحدة متعددة في آن. بمثابة شجرة نسابة لا تمت بصلة لتراسل سلسلة حواء بالضرورة. لأن السيرورة هنا خاضعة لتمفصلات وانشطارات ومسافات. بل إنها ضد السيرورة تماماً. وإذ يلعب محمد المزروعي، فليس لأنه يستبقي الطفل بداخله. بل يحاول أن ينفيه قدر المستطاع. الرسام هنا لا يذهب في اتجاه طفولته واستغوار مناطقها في الذاكرة المنسية، بل يذهب في اتجاه ما قبل الولادة، في اتجاه العدم الذي سبق المجيء إلى الوجود المريب. غير أن نفيه للطفولة وإلغاؤه لها لا يعدو أن يكون بالمقابل إلا تأكيداً لتضاعيفها اللانهائية. ••• دوامة ملغزة هي الفكرة التي تتفرع منها الصور والرموز في كثافات لوحاته المكتفية بعزلة وجوهها. ثمة رعب كامن في العمق تتفجر منه كل هذه الغرابة المتشعبة ذات المنحى السوداوي، الفجائعي، المأساوي، إنه منحى القلق اللايسمى. قلق الموت والغياب والعدم. الرسم هنا ليس خلاصاً، بل موتاً مضاعفاً. الرسم هنا ليس عزاء بالفهم الساذج للعفوية والتلقائية، بل هو صرخة مضادة، صرخة مندلعة من أقصى الغموض في اتجاه الغموض الأقصى. كذلك الحنين في لوحاته إيهاميٌّ، وخادعٌ، لا حنين بل إقامة مضطربة في التمفصلات. التمفصلات المربكة لنظام الأشياء، إذ أن المعنى ينمو ها هنا على نحو فوضوي لا يخضع للنسق. ما يشبه سيرورة مضادة، لا مرئية، لا عمودية ولا أفقية، بل انشطارية، منفلتة وعصية على الترتيب، تجافي منطق المعيار، وتتحاشى قوالب النظر إلى الأشياء بمنطق التدوين وكتابة السيرة. إنها تترامى خلف هذا الحاجز، وتصنع لها حيوات صارخة تجاور تاريخ عريها ومصادر عنفها وقسوتها وصدمتها. عمّ يحفر المزروعي؟ عن معنى خارج التصنيف للعبث؟ عن قيمة إنسانية ترتهن إليها عزلة الكائن؟ عن حقيقة مخادعة يستند إليها كل هذا الوهم الجارح، كل هذه الأقنعة لوجوه حكاية الخلق الأولى؟ ما يحفره الرسام لا يتمرأى، لأن الخلفية الشبحية للعمل وحدها ما يستأثر بهوية وطبيعة ونوع هذا البحث والحفر معاً. ••• لوحات المزروعي لا تخاطب الواقف أمامها بالطريقة المألوفة لخطاب المعارض والمتاحف والغاليريات، لأن خطابها ينحو بخشونته العارية منحى فضاءات أخرى، أكثر حميمية هي فضاءات غرف مستشفيات الأمراض العقلية، والزنازين، والمغارات والكهوف ومجمل غرف العزلة الضارية والموحشة في آن. ••• يزجّ بك المزروعي في دربه الزلق دون مقدمات، إنك لا تحتاج إلى خلفية معرفية بنظرية التشكيل واللون كي تشحذ ذائقتك إزاء ما يحدث في لوحته. إنك تنسى تماماً كل وعيك النظري وتحصيلك الثقافي والفكري، حسك النقدي والفكري والأكاديمي، لتجد نفسك دون أن تشعر بذلك في سديم فراغ يرفض منظومة المرجعيات والإحالة إلى الأنساق، إنه يقترح عليك الاكتفاء به، والسكن في حده، يفرض عليك بسحريته تذوق فن ينتمي إلى ذاته، دونما حاجة إلى اقتراف حماقة تصنيف ما. هكذا تجد نفسك في صلب مرسم يحتفي بالخطاطة/‏‏المسودة. مرسم لا يريد أن يتخطى حد المسودة/‏‏ الخطاطة، ويقيم فيها. كأنما يجافي الصورة النهائية للوحة، يرفض المآل الأخير للشكل، ويراهن أبداً على الحركية المتفجرة والمبهمة للتشكل، للأشياء المتغولة وهي قيد الانشطار والتحول. مسودة أو خطاطة اللوحة هي اللوحة ذاتها. إنها تجعلك منتظراً بإرباك ما يمكن أن يضيفه الرسام إليها، في حين هي كذلك مكتفية بنقصانها، كأنما كمالها في استيفاء شروط نقصانها. لا يعني الأمر أن الرسام هنا يتقصد أن يهب التلقي إمكانيات إنهاء اللوحة، وإضافة الرتوشات اللازمة، بل يعني أن المسودة والخطاطة هنا لا يمكن تخطيها إلى شيء آخر، إذ قيمة اللوحة ومعناها رهين بالجماليات السديمية للتخطيط الأولي، وهو التخطيط النهائي عملياً. تلك هي الفلسفة البصرية للعمل الذي يكثف وجوده ويؤبده في نمط المسودة/‏‏ الخطاطة. ••• ما يحدث في لوحات المزروعي من صخب ورعب وانشطار الكينونة، لا يأتي من الذاكرة كما يعتقد الكثيرون من أصدقائه والمهتمين بتجريب لوحاته، بل يأتي كل ذلك من الموت. يعيش الرسام داخل الموت وليس يجاوره، إنه يحيا في رعبه الدائم، ومن إيقاعه يتفجر كل شيء داخل اللوحة، وداخل المعنى الهارب. ••• ما السر في عيش هذا الفنان داخل سؤال الموت المتواصل؟ هل هي طريقة خاصة من طرق الاحتيال على الموت نفسه؟ هل هو نمط وجود يسبغ المعنى على حياته بمجاورة الموت والموتى؟ هل هو التفكير القدري الموروث عن انتماء مصري (فرعوني) ما؟ أم هي التجربة الأنطولوجية اللابد منها، التي تعسكر في ما وراء تلك الحدود، حيث تعج القيعان المظلمة بذهب يؤرق اهتمام فنه وأسئلته وأفقه الجمالي؟ كل هذه الأسئلة تهاجسك بقوة في المرسم، وأنت تتحاشى تماماً أن تحاصر جماليات الموت في لوحات محمد المزروعي ضمن حدود الحكاية الشخصية المعروفة، ذات العلاقة المتشعبة والصادمة بموت أمه في مخاض ولادة آخر أبنائها. تتحاشى ما أمكن أن تسقط على نحو سيكولوجي جاهز، صورة موت الأم على وجوه النسوة في تخييل اللوحات، كما لو كان الرسام، الطفل، يحاول استعادتها في حالات ووضعيات وأحلام ورؤى وصور طاعنة في النوستالجيا. الأمر أعمق وأبعد من أن يكون صدمة ذات أثر أوديبي، لأن الحكاية الشخصية هنا، محض منعطف حاد في تجربة كبرى، المنعطف الذي فجر صندوق الحكايات الأخرى قاطبة، وهي تتناسل وتتلولب وتتلحزن وتمضي في مصائر بمختلف الاتجاهات، تسائل برعب المادة والتاريخ والمعنى والجدوى، إذ تتحول الحياة إلى لاشيء أمام قسوة الموت، وعنف غموضه. ••• نساء لوحاته تخرج من إطاراتها ليلاً، في مرسمه، تتجول في البيت، تصعد الأدراج، تصخب في غرف النوم والحمام ومخزن الأكل والمطبخ... تتعانق في احتفال مأتمي حول أريكته وهو نائم، كما لو كان جثة في تابوت على أهبة الدفن. ••• أن تستشري الوجوه وتستفحل وتتفاقم في لوحات مرسمه، في مجمل منجزه، لا يعني بتاتاً أنه رسام بورتريه. إن هوية البورتريه في عمله تفقد معياريتها المألوفة، إذ يفرغها من جوهرها المزعوم، ويخرج بها من سطوة اعتياديتها إلى غرابة خلاقة، تغدو معها المتعة البصرية ملازمة للإرباك واللاطمأنينة. على هذا النحو يزحزح المزروعي وجوهه من منامها الحجري، من ارتكانها المطمئن للإيقاع اليومي، ويكشف عن قلقها الداخلي، عن توترها الأزلي، عن رمادية حالاتها الصامتة، عن أحوال طقوسيتها المضطربة. يخرج بها الرسام من حصار ألفتها المضجرة، إلى منفى حريتها المشرعة على شتات الأبعاد وتشعب الاستيهامات. ••• عندما يتحدث الرسام عن لوحته، فهو ينفيها، يشوش عليها وعلى أفقها، إنه يعي تماماً أنه يحكي عن شيء لا علاقة له بها، شيء منفصل تماماً عن كيميائها، شيء ينتمي لخطاب موازٍ ينزاح عن كينونتها، ما يحكيه الرسام عن لوحته إنما يزعج روحها ويذهب بالمعنى المفترض إلى هوامش لا تفضي إليها. هكذا يمكن الحديث عن لوحة ما، عندما يمضي الخطاب إلى نقيضها، إلى الغبار الذي يتراكم في المسافة بين النظرة وبينها. ••• عيون النساء التي تزدهر بها اللوحات، شبيهة بزهرات عباد شمس في غسق. عيون تطل إلى الداخل وليس إلى الخارج. إنها العيون التي يمكن أن ننظر بها إلى اللوحة ذاتها. موجز تاريخ اللوحة السري كامن في عيون النساء. العيون المزهرة داخل الموت. منها نتلصص على الحياة الأخرى هناك، الحياة المتوارية في الغياب. تتراجع اللوحة وتتقوض مساحاتها، تتكاثف الأشياء الملتبسة التي تحدث في الجوار، إذ يبدو كل ما يحيط بالعيون هامشياً، لأن العيون في اللوحة هي اللوحة ذاتها. على هذا النحو تزهر العيون كثقوب سوداء، تبتلع كل شيء. ••• العيون تكاد تزهر في الحيطان، وليس داخل اللوحة فحسب. العيون التي تلغي اللوحة وتصنع لفضائها إطاراً سديمياً غير محدود. العيون التي ما أن تمعن النظر فيها حتى تدرك بأن فكرتك التي كونتها عن اللوحة ليست مقنعة. اللوحة متمنعة ما أن تقف عند لذوعية العين وإرباكها لنظام القراءة والتلقي. إرباكها لنظام المتعة البصرية نفسها. يمكن عزل العينين عن الوجه. ليس لأنهما اللوحة داخل اللوحة كما هو ملمح إليه سابقاً، بل لأنهما ما يبدأ به الرسم، وما ينتهي إليه. ••• وإنْ كان مرسم الفنان يقع في مناخ الصحراء، في جو قائظ بشكل دائم، فالمفارقة الغريبة أن برودة قطبية يترف بها بيته، وكأنه بيت مشيد على جبل ثلج. المسألة لا تتعلق ببرودة المكيف، إذ يمكن للرسام أن يستغني عن تلك البرودة المصطنعة، بل تتعلق ببرودة محسوسة فعلا وليست متخيلة، برودة ملازمة للمرسم حتى مع إغلاق المكيف. إنها برودة الموت. ثلج الموتى. جليد العيش في أحلام الجثث. كأن تلك البرودة تؤبد جمال الجثث وحزنها. تقيها من التعفن والتحلل. كأن تلك البرودة المفرطة مندلقة من الموت الذي تعج به اللوحات، يندف الموت ثلجاً في المرسم، فيحيا الرسام ككائن قطبي في بياضات شقته، فيما يشعر الزائر بارتعاش صاقع يزحف في أطرافه، ويجعله يتجمد كما لو سيؤول إلى جثة. إنها ساعة القطب تحلّ محلّ ساعة الصحراء. كما لو أن كارثة كونية عبرت المكان. ووحدها عيون النسوة كانت شاهدة على ما حدث. ووحدها من يمتلك حقيقة ما جرى من رعب. في كل وجه يستنزف الرسام ذاته. في كل وجه تنهار هوية الرسام وتؤول إلى أثر لا يحيل عليه بقدر ما يحيل على غيابه. في كل وجه يصنع الرسام شاهدة لقبره. من يتقهقر؟ الوجه في اللوحة، أم وجه الرسام؟ أم وجه الناظر إليها؟ صحراء في غرفة يتقوض فضاء المرسم، ليكتشف المرء نفسه في غرفة هائلة تعج بالوجوه، وجوه نسائية تحكي في هلع وانتشاء، حكايات أفعوانية تعض بأنيابها على أذيالها. تكتشف بأن الغرفة وإن كانت صغيرة الحجم، فهي بالمقابل غير محدودة، لانهائية. أي غابة أو صحراء مترامية الأطراف تسكن هذه الغرفة ؟ إنها غرفة جليد وأشباح وموسيقى، غرفة باردة كأنما تطل على مقبرة. نساء السديم كل هؤلاء النساء الهلاميات، المزهرات في سديم الرعب، هل تضيء وجوههن المأساة الأزلية الكامنة في هاوية ذاته؟ أم تفصح هذه الوجوه المكلومة على نحو احتفالي بالكآبة الصلدة الراسبة كحجر أسود في بركة أعماقه؟ إنك إذ تقف في مرسمه، تشعر تماماً بأن محمد المزروعي يتكلم من بعيد، من كهف بدائي، من قعر بئر شطون، من قبو مجهول أو من دهليز منسيّ. هل للقبو والدهليز علاقة بسراديب المقبرة الفرعونية؟
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©