الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

لماذا ينبغي أن ننبهر؟

26 ابريل 2008 02:42
مع اقتراب الذكرى الستين لقيام دولة إسرائيل، أي ما يسمّيه يهودها ''استقلالاً'' ويسمّيه سائر العرب ''النكبةَ''، يُستحسن بنا أن ننبهر، نعم، ننبهر، بما يستدعيه ذلك من شجاعة وقسوة في مصارحة النفس وإقدام على إنصاف الخصم الظالم، فإن لم نفعل كنّا عاجزين لا عن مقاتلة اسرائيل -تبعاً لما لا يزال يزعمه كثيرون بيننا- ولا حتّى عن مفاوضتها فحسب، بل أيضاً عن فهمها، وبالتالي عن فهم العالم الذي يحيطنا وموقعنا فيه· والانبهار المطلوب نابع من حقائق عدّة قد نكرهها وقد لا نفعل، غير أنه لن يكون في وسعنا أن نشيح بأبصارنا عنها على طريقة تجاهلها عبر تسميتها ''الكيان الصهيونيّ'' أو التذرّع بالدعم الغربيّ لها كي لا نرى عناصر القوّة الذاتيّة فيها التي سهّلت لها تفعيل ذاك الدعم، ومن ثمّ كي نجهّل عناصر المسؤوليّة الذاتيّة المترتّبة على الفلسطينيّين والعرب، لا سيّما منهم المحيطون بفلسطين· وأولى تلك الحقائق الباعثة على الانبهار، انتقال عشرات الجنسيّات، من شتّى أنحاء الأرض، بثقافات ولغات وألسنة لا يجمع بينها إلاّ الخلفيّة الدينيّة، لبناء تجربة أريد لها أن تكون تأسيساً وطنيّاً وقوميّاً جديداً، لكن الأمر لا يقف عند هذا الحدّ: إذ في قوس القزح هذا، يمكن العثور على سائر الاتّجاهات السياسيّة والأيديولوجيّة، الإيمانيّة والإلحاديّة واللاأدريّة، من ماركسيّين أصابتهم الستالينيّة بالنفور والجفلة لما انطوت عليه من نزعة لا ساميّة الى قوميّين رجعيّين وصوفيّين انبثقوا من تعاليم فلاديمير جابوتنسكي المتعصّبة، ومع هذا أمكن بناء تجربة تستطيع السياسة أن تحتوي تناقضاتها، فلا تؤدّي إلى انفجار الدولة المتولّدة عنها، وقد تزايدت مع السنوات اللاحقة أسباب الانبهار، خصوصاً مع تعاظم الهجرات السفرديّة (الشرقيّة) ثم الروسيّة التي جعلت من الدولة العبريّة مجموعات شبه متعادلة عدديّاً: غربيّة وشرقيّة وروسيّة وعربيّة، من غير أن يختل نصاب الحياة المدنيّة والسلم الاجتماعيّ· وبين ما يحثّ على الانبهار الصحيّ النجاحُ في إنشاء صلة حميمة بأرضٍ لم تكن ثمّة صلة بها من قبل إلا في حدود ما يتيحه الدين والطقوس والأساطير، وهذا ناهيك عن الإقدام على بناء تجربة في منطقة غريبة، اليهودُ أقليّة هزيلة فيها، وهي غير معروفة بحبّ الأقليّات أصلاً، لقد انتقل الوعي اليهودي الأوروبيّ الشرقيّ الذي قاد بناء الدولة العبريّة من طور الاكتشاف لهذه المنطقة التي لم يكن يعرف شيئاً عنها إلى طور الصراع معها وإخضاعها لحاجاته، وللأسف، فقد نجح في طوريه الاكتشافيّ والعدوانيّ في إحداث التكيّف والتكييف المطلوبين· هكذا، ومع أن الدولة الجديدة حملت في ذاتها كلّ الأسباب التي تجعلها عصيّة على الديمقراطيّة (أقليّة في محيطها، حالة حرب شبه متواصلة مع هذا المحيط، عدم تجانس سكانيّ داخليّ···)، فإنها رعت تجربة ديمقراطيّة وتعدّديّة، أقلّه لمواطنيها اليهود، متقدّمة على سائر ما نعرفه في جوارها· وهي، الى هذا، طوّرت اقتصاداً غنيّاً من دون امتلاك نفط أو ثروات طبيعيّة وفيرة العائد التصديريّ، حتّى بات تشبيه دخل الفرد الاسرائيليّ بالدخل الاسبانيّ إحدى العبارات الشائعة حتّى الابتذال، وهذا، بدوره، ما نجم عن سبب آخر للانبهار هو قدرة إسرائيل على مواكبة العالم المعاصر وجديده، ولئن كان التحوّل إلى الاقتصاد المعلوماتيّ ما بعد الصناعيّ آخر تجلّيات هذه المواكبة، فقد سبقه الانتقال من عالم النفوذ البريطانيّ، أواسط الخمسينيات، إلى عالم النفوذ الأميركيّ، ناهيك عن الحسم الأكبر والأسبق لحظة التصميم على الانحياز إلى الكون الغربيّ بُعيد نشأة الدولة، ضدّاً على الكون السوفييتيّ الذي لم يكن أقلّ حماسة لتلك النشأة وتورّطاً فيها (صفقة الأسلحة التشيكيّة الشهيرة)· أما القول بالخصومة والعداء مما يربطنا بإسرائيل، أو بالقسوة والعدوانيّة مما شاب سلوكها حيال الفلسطينيّين والعرب، فهذا ما ينبغي أن يكون سبباً إضافيّاً للانبهار، خصوصاً متى طبّقنا هذه المعايير على السلوك العربيّ، أو معظمه الأغلب· فنحن، من ناحيتنا، انطلقنا من بلدان منسجمة لم نهاجر إليها، بل أقمنا فيها لقرون وتكلّمنا لغاتها الواحدة ومارسنا عاداتها إيّاها؛ أما النتيجة فما تسمعون وترون!· حازم صاغيّة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©