الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

لهجات الموتى

لهجات الموتى
3 يونيو 2009 23:54
لم أتوقع أن أراه أمامي. كان ينتفض من الذاكرة مثل وردة قذفها بركان قديم ثم تحجّـر. شبح عظمي بجمجمة! كأنه مر خفيفاً.. عبر الصالة، ضغط زر الضوء فذهبت الظلمة! لا يراه إلا من يمتلك أشعة كهرومغناطيسية واسعة، وكثيفة.. يمر كالبرق الرمادي.. لا تراه من المرايا، ولا ظل لـه على الجدران.. وليس وهماً.. في البدء، كانت الحركة دليلاً عليه.. أصوات داخل الصمت تتحرك، أصوات لا مفهومة تقفز على سطح المكتبات، تحرك الكتب.. هل كان يشاركني القراءة؟ حدقتُ في الشك لأحرقه، لعل اليقين يحسم ما يتحرك بين غرفتي وبصري ومجالي اللامرئي.. كم تمنيت لو تخليت عن كثافة جسدي لأشف مثله، فنتحاور.. لكنه يبرق ويختفي مثل سؤال ضائع! وذات يوم، بعدما أغلقت الكمبيوتر، ولم أغلق قلقي، غبت في الإرهاق والنوم. لكن أحداً ما ضغط على زر الضوء، فاستيقظت.. ورغم تعبي، مددت يدي وأغلقت إنارة الغرفة، لكنه كرر الإضاءة..! بسملت، ونهضت.. أشعلت سيجارتي، وهرعت إلى الكمبيوتر.. كتبت، قرأت.. وبعد ساعات، عدت إلى السرير.. كانت الكلمات التي لم أكتبها عالقة بدمي. لا تهطل، بل تتكاثر. الدوخة تسيطر على كثافتي المادية من شدة الإرهاق. والنوم دواء أو واجب.. كان الفجر قد استيقظ قبلي بساعات، وكانت المعاني تعتاد على زائري. ليس مفاجئاً لي أن يكون روحاً، ملاكاً، جنياً، أو شخصية من قصائدي أو قصصي أو رواياتي.. المستغرب، أننا تآلفنا! لم أعد أكترث بحركته. وصرت أستفقده إذا ما غاب أو خرج كثيراً. وأكون سعيدة عندما أشعر بوجوده الميتافيزيقي وهو يتنقل في بيتنا. اعتدت على أن يمكث طويلاً في غرفتي. كما أنه لم يبغتني عندما تحرك لأول مرة في غرفتي في الشارقة! شعرت بسعادة لأنه تبعني. كان ذلك ذات ليلة، كنت أنهيت بعض جنوني الكتابي، وأغلقت التلفاز، وتمددت مثل شهيد. وكان أن أعاد تشغيل التلفاز.. فرجوته بأنني متعبة وأريد أن أنام.. وسمحت لـه بخمس دقائق إضافية. أصابعه الرمادية تحركت بأناقة، وأغلقت التلفاز. لا أعرف إن كان يتلصص عليّ الآن مثل أشجار الغابات البعيدة وأنا أكتب عنه.. قد يشعر بأنني أشكوه لكم.. أو قد يعتقد بأنني أكتب عن عوالم الرهافة وطقوس اللامرئيين الجميلين وهم يشاركوننا حياتنا الكثيفة.. تقلبتُ كالموج في بحر تحته البراكين، نظرت حواليّ. الصمت لا فاقع ولا غامق.. والليل يحمل بدره إلى السكينة ليتأمل ما حدث في النهار، فلا ينسى الطفلة المشردة وهي تمد يدها للعابرين، ولا الشيخ العجوز المشلول وهو يتقبّل ما يدفع إليه من نقود، ولا خطواتي الملتهبات بالغيب.. صوت طفلة مع أبيها يعيد إلى الشارع حدثاً يجري بعد منتصف الليل، وحدث لن يحدث يعيد إليّ ما سيجري عند خط استواء القصة.. النجوم تخبرني بأن ذراتها تتمدد مثل النقطة في الحرف. وأنا أخبرها بأن النقطة عصية على الكتابة.. وفجأة.. أرى كيف ان هيكلا عظميا صغيرا يتقمص الهيكل العظمي الكبير راسماً إشارة سرية! هل تعلم أعشاب الحديقة التي خطوت عليها اليوم بما يجري في غرفتي؟ وإلا لما فاضت رائحة العشب مع أول حركة للطيف.. يقال بأن الأطياف لا ترى بالعين المجردة، لكن من الممكن أن تحضر كلما لامست أشعة البدر ذرة معينة من النجوم.. في هذه النقطة بالذات، في هذا الوقت بالذات، ترتفع نسبة الكشف التي لا تعتمد على الحواس، فتبين الأطياف أكثر وضوحاً.. هذه الليلة، البدر يبتسم، وطفل الهيكل يتقمص أباه أو جده أو شيخه.. وعلى سطح إحدى المكتبات حركة مزدحمة.. أنصت فأسمع أناشيد ومولوية ودفاً ومزاهر! هل يحتفلون بتحولات الروح؟ وهنا، كأن الأرواح الطيفية تدخلتْ، وأصابت جهاز الكمبيوتر بسكتة جهنمية.. استنشقت أحوالي، ومخيلتي كأعصابي ترتجف، وترتجف.. كم أخشى أن تضيع القصة! بشدة سحب نزقي المأخذ الرئيسي لكهرباء الجهاز المتضامن مع أشباحي. أشعلت سيجارتي وأنا أدعو الله ألا أفقد ما كتبت. أذكر أنني أضعت أجمل قصيدة سيكتبها الشعر عندما انقطع التيار الكهربائي ذات لحظة فجأة! وها أنا أشتعل مثل خرافة قديمة يحرقها الأبد على فوهة جبل غير موجود! وريثما يستعيد الكمبيوتر ذاكرة أقراصه، وأصابعي على «الفأرة» كما المقاوم الذي يده على الزناد، فتحت صفحة الكتابة، ووجدتُ ما تبقى محفوظاً من هذه القصة. استدرت إلى الطرف الآخر من فضاء غرفتي، وصرخت: ـ هل أنتم مرتاحون الآن؟ أيتها الأرواح أجيبي.. أيتها الأطياف اخرجي.. يبدو أن اللامرئيين حزنوا عليّ، فهدأوا قليلاً.. أناملي تعزف على لوحة المفاتيح بشكل لا إرادي.. كعادتها أصابعي تخطف أعماقي قبلي.. وكم أجهل إلى أين تأخذني الكلمات، وكيف تتطاير من مكوناتي الكثيفة إلى مكوناتها الشفيفة! الزقزقة تتدخل مثل اللاوعي.. والحلم السابق يخرج من هوامش القصة.. الحلم يسحبني إليه مرة أخرى، كأنه يطلب مني أن أكتبه.. يشدني من طرف روحي، فأنتبه كيف كنت جالسة متربعة على أرض ما. وفجأة يدخل البحر الجامح عليّ في جلستي.. موجة جامحة واحدة بحجم البحر، تتمدد تحتي وتخطفني مني.. بجلستي المتربعة التي تشبه جلسة بوذا تسحبني.. موجة البحر لا صافية ولا مشوبة، لكنها مشوشة ببواطن محيطاتها! تخطفني مسافة ما، فأرى جداراً مثل سور الصين وليس هو، مصفوفة عليه أصص بنية كبيرة، فيها أشجار نابتة حديثاً، وأزهار.. أصص جميلة منصوبة على جدار في البحر..! البحر يخطفني أنا الجالسة على الماء، فأتمسك بشجرة تحدق فيّ.. لكن البحر مصر على أن يخطفني.. من قوته تنفلت الشجرة، ويتحرك أصيصها من مكانه ويتدحرج ورائي.. يخطفني البحر بقوته.. مسافة جديدة، وسور ثان من الأصص والنباتات.. مسافة ثالثة، والبحر يعيدني، وأنا في جلستي تلك، إلى شاطئ وجد الآن.. متربعة على الشاطئ.. بنطالي وثيابي مبللة بمياه البحر، وكلي موشاة برماله وبقايا أصدافه المكسورة.. شعري كثيابي مليء بالرمل وبقايا الصدف.. البحر اختفى فجأة مثلما ظهر.. وأنا وحيدة، مبللة على شاطئ مبلل.. الحلم يخرج من ذاكرتي، ثم يخرج من القصة.. أين ذهب؟ حركة مباغتة على سقف المكتبات.. أحرك عينيّ من لوحة المفاتيح إلى الشاشة إلى المكتبة.. كأن الأرواح تحتفل بالحلم. أناشيد.. مزاهر.. طبول ودفوف.. وحركة تشبه المولوية! روح الهيكل العظمي تضاعف حضورها.. يتقمصها طفل عظمي آخر.. الهيكلان متداخلان.. كأنهما ينجبان هياكل أخرى.. الروح الصافية تنفر من جاذبية الأرض. الجاذبية تترسب كما تترسب الأطياف الشريرة.. ووحدها نقطة الضوء، وقطرات الأشعة تخرج عن الجاذبية.. كم أخشى أن يأتي البحر، فجأة، الآن، ويخطف مني هذه القصة.. ما زلت متربعة كما في الحلم.. وما زال الشاطئ هادئاً يستذكر بحره الخاطف.. وما زالت كلمات الوقت المحترق مع القش تنبت في تلك الأصص التي لم تقبل أن تغيثني.. موجة البحر، تهجم، أيضاً.. سأمسك بالقصة التي تتمسك بالموج.. أخشى على القراء من البحر.. أخشى عليكم.. فالتفتوا إلى الحلم أو البحر القادم الآن.. هل استعصمتم بالنقطة؟ البحر يخطفني.. والموجة مازالت عالقة بين الليل والنهار.. فلا الوشاية تتدلى.. ولا أنا أغيب أو أحضر.. وحده الطيف يتحرك.. أراه يمط رأسه قريباً من كتفي.. يتابع ما تكتبه أناملي.. يبتعد بهدوء.. ثم أستفقده.. لم أتوقع ألا أراه أمامي.. أين أنا؟ رغيف ولكن!... عفراء نبيه الحسن * عبرت أسواق المدينة لأبتاع هديّة لمن قال الرّسول الكريم عنها: «الجنّة تحت أقدامها»، وبعد عناء عثرت على ضالتي، كنت في غاية السعادة، قفلت أدراجي سمعت صراخاً.. تلفت إلى الوراء، وقع بصري على حشد من النّاس يشكّل دائرة، دفعني فضولي أن أستطلع الأمر، لا أدري كيف قفزت عدّة قفزات، وما إن أصبحت بين الناس حتى وجدت نفسي أشقّ طريقاً إلى وسطهم. وقع بصري على طفل دون العقد الأول تقبض على عنقه يد رجل عريض المنكبين، قويّ البنية، ذي شاربين عريضين، فبدا الطّفل كعصفور بين أظافر طائر جارح، رفعه عن الأرض حوالي عشرة سنتيمترات، دفعتني الشفقة أن أقترب من الرجل الخشن، وقلت له: أترك الطّفل .. نهرني وقال: لا... لا إنّه حراميّ. ـ ماذا؟ رفع بصره حدّق في وجهي، وأردف قائلاً: ما شأنك... أتكونين شريكته؟ ـ أريد الحقيقة.. ـ من أنت؟ ـ صحفيّة.. هزّ رأسه قائلا: أنت حشرية... ورغم ذلك اسأليه. وقفت أمام الصّغير، نظرت إلى عينيه المنكسرتين، ثمة لؤلؤة تعلقت على أهدابه، مسحت يدي على شعره الأشعث برفق، رفع بصره إلى وجهي، أحسّ بالأمان، مدّ يده إلى عبّه، وأخرج رغيفاً لم يأكل منه سوى لقمة واحدة، لا أدري لِمَ أجهش لعله وجدني أشبه أمه، أو أنه وجد من يدرأ عنه المصائب وقال: وحياتك وشرف أمي لست سارقاً.. ضحك الرجل الخشن متسائلا: وهذا الرّغيف؟ - منذ البارحة ووالدتي المريضة دون طعام، أرسلتني إلى خالتي لأجلب من عندها ما يسدّ رمقها، فلم أجدها، وفي طريق عودتي، عبقت بأنفي رائحة الخبز، حبّي لوالدتي دفعني أن أخطف رغيفاً واحداً. هززت رأسي ونظرت إلى الرجل وقلت: عملك غير قانونيّ وتحاسب عليه.. ـ تدافعين عن سارق... ـ أتحسب من يسرق رغيفاً بدافع الجوع لصاً، والتّاجر يسرقنا يومياً ولا من يحاسبه.. تنهدّت من الغيظ، وسألت الطفل: أين والدك؟ ـ لا أعرفه... مات قبل ولادتي. مسح لؤلؤة عن أهدابه، بدأ النّاس يلقون عليه القطع النّقديّة، ولأنه لم يبق معي نقود بعدما أنفقتها على الوردة التي ابتعتها هديّة لأمي، ناولته إيّاها، وضعها على صدره، واندفع بقوة ليقف على بعد أمتار. قذف أحدهم بالرّغيف، ترك القطع النقدية على الأرض تعكس أشعّة الشّمس وقال: ـ وحياة عيد ماما وهديّتك لا أحبّ الصّدقات... * سوريا، حمص تَعْوِيذة يَقِين موزة عوض آخر السطور ضوء شارد تتأفف له ارتجاجات عقل أحمق، مغلق من روح تلك بعثرة تساقط أَجلها إلى يوم لم تطأه أقدام العابرين توهمتُ، قايضت المدة المقررة تبسم القمر بمحض صدفة وتركني بين الضوء والحكاية الشاردة فلم يكمل الليل ثوانيه العابسة تلك كانت الذاكرة كتلفاز تتجسد عليه مشاهدٌ محتقنة وتعويذةُ حب لم يعد ذكرها مكرراً.. تِلك الأباريق تُسكب الدمع وجعاً والأوراق باكية.. لها من الظمأ ما تطويها الأيامُ للنسيان! بين مساء ونهار قادم لم يبق للأرض بساط مرصوف كأمنية ولا آخر الضحكات حين ترادفها ضحكات مُجلجلة.. أبحرٌ نحنُ غرقى فيه؟ هناك أهزوجة أكثرُ اتساعاً هناك مسافةٌ اخترقها ضجيج الموت هناك..غفران له اتِساعُ السماوات السبع.. إن لم يكُن هكذا اليأس في ظلمة.. والسكون لغفلة ينطق للحرية موطُنها! المستحيل أنتَ والعابر المجنون عَقلُك.. لن أغفر ما خامر الوجدان وما ارتطم بحاجز القلب من ألم.. وحدكَ تناظر الكاف والنون قلبٌكَ مرهون بوقته الْمعلوم وحدكَ تسرقني لمسافات البكاء وترغمني لممارسة الصمت وأنينه.. لم يشأ الموت أن يميط اللثام الأول إصرارك/ غضبكَ/ ملامح العتاب لم يطفئ نار الجمر بعدُ.. وعيدكَ ذاك آخر نصٌ غلفْتّه بمنديلك الأبيض وتلك الزهرة المقطوفة من حقول الرياء هكذا.. تركت الغيم والمطر والضوء والخاتم الأسود بين أصابعي وهربتْ مذموماً.. لماذا تنعطف دروب الضجيج حيث الطريق الأول ووسادتي الخالية...؟ سأَلتُك كثيراً توكأت ضحكتُك عميقاً ودفنتُ تلكَ الأحزان بمقبرة الأسفار وحدها تعاويذ السفر كانت بجانبي وسحابة المطر بللت وسائدي وذاكرة اللهو ارتعشت بشعور الخوف القاني، بأخاديد الألم وتموجات البحر الهادر للغضب... الآخرون منهم رحلوا والقادمون منهم غادروا وحدها فوضى الورق كانت هشة كروحي.. لم تغامر للمضي وحدها تساقطت آلاف الحكايا بين وبين ثنايا الألم خَلفت البكاء بِمساء على حافة الرحيل يطوي ذاكرة الحب... وصورت الوجوه بإطار من نور.. بلا ضوء كُنتَ لي.. كتعويذة نسيان وذَاكِرة اليقين للموت.. تترامى أطراف أنثى بِصُبح يَتسربُ شقوق قلبْ وقهوةٌ لَها مَرارة وَجع.. ومساؤُها... بلا سُكر..!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©