الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عن المُزَّة والخرطوم

عن المُزَّة والخرطوم
4 يونيو 2009 00:00
استعرضت في هذه القراءات الشعرية فلذات منتقاه من الأجزاء الثلاثة الأولى من كتاب الشاعر والأديب العباسي «السري الرفاء»، وقد توقفت مليًّا عند الجزء الخاص بالمشروب، وهو الرابع، متسائلاً عن جدوى استعراض بعض نماذجه في هذه القراءات النقدية، في مناخ ابتلي بارتفاع صوت تيار التعصب وضيق الأفق، مما قد يؤدي إلى سوء الظن، لكنني لم ألبث بعد المضي في تصفحه أن تبينت ضرورة الحفاظ على شجاعة الأقدمين والوفاء لتراثهم وصيانته، بل وإعادة اكتشافه، لأن ذلك يحقق الغايات النبيلة للثقافة العربية على الوجه التالي: هو أولاً نوع من البحث في فقه اللغة، والوعي بمذخورها الغني من الشعر والأدب، ليس من حقنا تجاهله وإهماله، بحجة التخنث؛ لأننا لسنا أوصياء على المبدعين القدماء، ولا أقل حرصًا منهم على استثمار حق حرية التعبير كما فهموه في عصرهم، بل إننا أشد حاجة إلى تأكيد هذا الحق في العصر الراهن؛ حيث أصبحت الحرية هي المقدس البشري الذي تقوم على أساسه الدول والمجتمعات فضلاً عن الأفراد وأنماط سلوكهم، وتجاهل هذا الوجه الطلق من الإنتاج الإبداعي تشويه مقصود لصورة الماضي ونعيمه لمنجزاته الحضارية، وخلط مقيت لسياقات الأدب والفن المستقلة عن الدين، طبقا لما قرره كبار العلماء والفقهاء في العصور السالفة ذاتها، بل إن تفادي إبراز هذه الجوانب في الثقافة العربية الإسلامية، هو الذي أعطى الانطباع الخاطئ بتطهرها ومثاليتها على غير شهادة الواقع التاريخي. وهو ثانيا لون من الكشف عن صورة الحياة كما عاشها هؤلاء الشعراء وتمثلوها وقدموها جماليا في إبداعاتهم معبِّرين بنشوة عن مباهجهها وآلامها في ظروف تاريخية وبيئية متنوعة، فدخلت في صلب الثقافة التي لا تنضج إلا بتفاعل عناصرها المتباينة واحتدام مقتضيات التمازج فيها حفاظا على ثرائها في التعدد والاختلاف، ووصولا إلى تعايش الأضداد وتسامح المختلفين مما يطبع أزهى العصور التاريخية في الحضارة الإنسانية. وإذا تذكرنا أن علماء الشعر قديما كانوا هم علماء الدين، أدركنا وعيهم العميق بعدم وجود تناقض بين الطرفين وقدرنا جهدهم في تنمية روح التوافق والوئام، وفهمنا كيف كان ينشد بعض أجلاّئهم الأشعار المكشوفة ثم يقيمون الصلاة في المساجد. أما ثالث أسباب حرصي على المضي في قراءة الخمريات الواردة في هذا الجزء الرابع فلأaنها تمثل جزءا حيويا من نسيج التقاليد الأدبية الأصيلة في الثقافة العربية، وهي مظهر لافت للثراء التصويري والفني في أشكالها الشعرية، فهي عندنا بديل اللوحات التشكيلية البديعة، وقد سرت مجازاتها وصورها إلى شفاف الشعر الغزلي والصوفي في التراث العربي والإسلامي. وقد حرص المؤلف على تأكيد وعيه بهذه العوامل عندما استهل الجزء الرابع عن المشروب، وهو أضخم الأجزاء حجما إذ يبلغ 641 صفحة ببيان أسماء الخمر العربية والتي تصل إلى نيف وخمسين اسما تتراوح في درجات شهرتها، من أطرفها ما تمت استعارته لمشروبات أخرى مثل القهوة، وما استعير في الآونة الأخيرة للحسناء الشابة المعجبة وهي «المُزَّة» إضافة إلى ماهو متداول مثل المدام والسلاف والرحيق والمشعشعة، غير أن المدهش أن نجد كلمة «الخرطوم» ـ عاصمة السودان ـ من أسماء الخمرة العربية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©