الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أبنية جديدة في تشييد القصيدة التقليدية

أبنية جديدة في تشييد القصيدة التقليدية
4 يونيو 2009 00:03
لا يزال شعرنا العربي الكلاسيكي يعيش تحت سلطة العلاقة البنيوية بين الموضوعة والبحر، حيث ظلت قناعات الشعراء مُصرّة على أن كل بحر خليلي يصلح لنمط معين من الموضوعات دون الأخرى بفعل تعدد مفاصلة طولاً وقصراً، ومن جانب آخر ظلت سمة الشاعر البارع لدينا هو من يورد القوافي، لا المتعددة المعاني بل ما تتطابق أو تتضاد مع متن البيت الشعري من أجل خلق المفارقة. المفارقة ذروة القصيدة بل هي مركز رؤاها وتجليها، حيث تتجسد فيها كل مباهج الاختلاف، بين ما تقدم من معنى وما يريد الشاعر أن يوصله إلى المتلقي من معنى آخر. المفارقة تلخص الشعرية وتعيد صياغة المعنى وهي في جميع الأحوال حالة تضاد مع النسق التقليدي للقصيدة الإبلاغية التي لا نجد فيها أي روح لعلاقات تضادية، بل العكس تماماً نجد حالة من التصالح التقليدي بين الواقع وبينها، أي أن القصيدة تصور الواقع، ولا تكشف عن تناقضاته، أي لا تعيد تشكيل الواقع من جديد داخلها، بل يظل ما تقوله غير قادر على أن يعطي المتلقي اختلافاً بين ما يراه وما يقرأه.. إنها اصطفاف صور مرئية لا متخيلة، حكائية لا سببية. ذلك المفهوم قادني إلى قراءة قصائد الشاعر طلال سالم بعد أن صدر ديوانه الثاني «خرير الضوء» عن مشروع قلم التابع لهيئة أبوظبي للثقافة والتراث، وسبق للشاعر أن أصدر ديوانه الأول «حتى تعود». نقد الشعر في البدء وقبل أن نقرأ قصائد طلال سالم، أتساءل هل ينطبق تقسيم الناقد العربي قدامة بن جعفر في «نقد الشعر» للشعر إلى أربعة أنواع وهي: ما حسن لفظه وحسن معناه وما حسن لفظه وساء معناه وما ساء لفظه وساء معناه وما ساء لفظه وحسن معناه. تلك التقسيمات التي استطاع من خلالها الناقد العربي بن جعفر أن يقرأ العلاقة بين اللفظ والمعنى وكأنه من خلال ثنائية اللفظ/ المعني يخلق ثنائية الحسن/ السيئ، وكأني بهذا الناقد قد اعتمد الثنائيات في بناء نظريته النقدية وهي ذات الثنائيات التي اعتمدتها البنائية فيما بعد، أما الجانب الآخر والمدهش حقاً هو أن هذا التقسيم الرباعي الغريب يتطابق تماماً مع مكونات وأنواع القصيدة العربية التقليدية، ولا يمكن بأي شكل من الأشكال قراءة الشعر العربي الحديث ـ التفعيلية/ الحر ـ من خلاله لسبب بسيط وهو أن الشعر الحديث يتداخل فيه حدود اللفظ والمعنى، أي أن هذه الحدود تبدو واضحة وجلية في القصيدة التقليدية كونها محكومة ومنضبطة في إطار وحدة الموضوع وتناسق الشطر والعجز وتشابه حدود الاقفال «كل بيت ينتهي بما أقفل البيت الذي سبقه وما يليه، هذا بالإضافة إلى تساوي مفاصل جميع الأبيات. كل تلك الحقائق جعلت اللفظ يتوافق مع المعنى بناءً ومعماراً. بنية اللغة أما القصيدة الحديثة فإن جميع هذه الأسس قد كسرت فيها ولم يعد يعرف أيهما أكثر فضيلة في بناء القصيدة، ما تطرح في ثناياها من معان أم من بنية شكلية مغايرة ومن لفظ لم يكن مطروقاً من قبل على مستوى التركيب والدلالة. ولكن هل أستطيع أن أقول مع الحداثيين إن الحداثة تجلت في بنية اللغة، وهو ما قال به العرب من قبل «الجاحظ أنموذجاً»؟ وهل أستطيع أن أقول أيضاً إن ثمة أنماطاً ثلاثة من الشعر من الضروري الالتفات اليها وهي ما طابق لفظه ومعناه الواقع وذلك يتجلى في الكثير من الشعر الكلاسيكي، وما لم يطابق لفظه ومعناه الواقع، وهذا يتجلى في الكثير من الشعر الحديث وما طابق لفظه ومعناه ذاته الشعرية، وذلك ما قل وندر، وهو نموذجنا هنا. أي أن القصيدة قد بنيت بناء درامياً لا تحيل إلا إلى مرموز عن الواقع. يقول طلال سالم في قصيدة «من صحراء الحزن» وهي أولى قصائد ديوانه خرير الضوء التي بلغت 42 قصيدة: هل جئت للحزن من صحرائه قدراً على القوافل وجداً بالأنين سرى وبحت للمركب تستجدي نعطفه وفيك من كبرياء المستحيل ذرى ويبدو المرموز هنا غائراً في البنية العميقة للنص، غير واضح، بعيداً، وربما يسهم العنوان «من صحراء الحزن» أن يكون شفرة لفك مغاليق مضمون القصيدة وهذا ما لا يحيل أو يحيل إلى معان متعددة، الأقرب منها أن نقول إنه يحيل إلى ذاته والذي أطلقت عليه «ما طابق لفظه ومعناه ذاته الشعرية» أي أن القصيدة تحيل إلى مرموز يحيل إلى القصيدة نفسها دون سواها. الواقع الشاخص ذلك الشعر صعب الحفظ، حتى قائله لا يحفظه لأنه غير مربوط بالواقع الشاخص، إنما هو جزء من رؤى عقلية يدخل فيه الخيال إلى أقصى طاقته أما الشعر الذي يطابق فيه لفظه ومعناه الواقع هو ذاك الذي قرأناه في مراحل مختلفة من عصور شعرنا العربي، أما الشعر الذي لا يطابق لفظه ومعناه الواقع فذلك هو الشعر التجريدي بكل ما يحتوي التجريد من عدم الإحالة إلى شيء ملموس فعلاً. طلال سالم وازن بين القديم والحديث وكأن قصيدته تنهل من القديم بناءه ومن الحديث معناه، وكأني به يذكرني حين قلت في مقال لي: إن الجواهري محدث بالرغم من شكله الكلاسيكي والمحدثون اصبحوا كلاسيكيين بالرغم من شكلهم الحديث. وفي قصيدة «إلى فوز» يقول طلال سالم: أنذرت قلباً في الهوى يتصبر أم في عيونك للغرام تصور يا فوز قولي فالوصال مرافئ وضنى جفونك في فؤادي يبحر وهو منذ البيت الثاني يفصح عن المخاطب في القصيدة «يافوز» فتصبح بذلك أكثر وضوحاً ولكنها سرعان ما تبدأ بالانغلاق على ذاتها بالرغم من أن المخاطب يبقى واضحاً بدلالة البيت الثاني، وما نفهم من الانغلاق على الذات هذه الأبيات التي تلت تلكما البيتين: وسفينتي في كل صوب حملت بالأمنيات وحلمها.. ما يبهر وتركت أحزان الزمان تكدست فوق الضفاف وهمها متصحر ولنحاول أن نمسك ما جاء في البيت الثاني حيث «تركت أحزان الزمان» و»وهمها متصحر» والهم هو الحزن وبذلك جاء التصحر مع الهم في هذا البيت كما جاء التصحر مع الحزن في قصيدة «من صحراء الحزن» السابقة، وكأن القصيدتين تحاولان أن تصورا عالماً واحداً متشابهاً إلا أن قصيدة «إلى فوز» تبدو أكثر وضوحاً في بدئها وتتطابق في خاتمتها مع «من صحراء الحزن». البناء اللفظي يسيطر على البناء اللفظي للشاعر حالة التكرار بفعل محدودية المعنى أو لنقل المعنى الواحد المتكرر أيضاً ولنأت بأمثلة: قصيدة «ألف عام»: منذ عام وفؤادي في هواها منذ عام والليالي في حنيني وهي في الود خيال نرجسي وهي كل الكون في كل قصيدي وفي قصيدة «ما أنت؟»: ما أنت يا هاجساً في الروح قد طفقا ما أنت يا كبرياء الشمس قد نسجت ما أنت يا موكب الأنغام مرتحلا ما أنت بل كيف أنت اجتزت موهبتي كذلك في قصيدة «أخرى الرسائل» نجد تكرار «هذه» وفي «كوني» نجد تكرار كوني.. ولو تتبعنا مسببات هذا التكرار لاوعزناه إلى ارتداد القصيدة لفظياً على ذاتها وهذا بالضرورة يقود إلى المعنى أيضاً.. وفقاً لما قلنا به وهو تطابق اللفظ والمعنى مع ذاته. حتى في قصيدة «حكاية» التي يشي عنوانها بغير بنائها الموضوعاتي، إذ المتوقع من العنوان أننا سنجد قصة شعرية، كما هي عند الأقدمين منذ أمرؤ القيس حتى عمر بن أبي ربيعة وانتهاء بالشعراء الحكائين، إلا أننا نجد طلال سالم ينحو منحى آخر، إذ يفارق الحكاية كلياً، ليعطي في قصيدته معنى الحكاية، خطابها، رمزها، ليس إلا: حتى ان القصيدة ولقصرها «7 أبيات» لا يمكن أن تمتص كامل الحكاية، لو افترضنا أنها قائمة على سردها. إن القصيدة خالية من السرد لأنها مرمزة بشكل خفي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©