السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سرد الشجرة

سرد الشجرة
11 مايو 2016 02:54
لولوة المنصوري اللغة تصير شهية لحظة كتابة الأخضر الخصب المتدفق بالولادات لكنها تشيخ وتجف حين الكتابة عن شجر غاف يقف وحيداً بلا رأس ماذا حلَ بالطفلة التي بدأت تمد أصابع عمرها على كتف شجرة غاف كبيرة، اختارت أمها أحد الأغصان العامرة بالأوراق، ركزت ابنتها في حجر الشجرة، تركتها نائمة وانصرفت هي لقطيع الإبل وعطش البئر، لكن الشجرة مشت بالطفلة ، وقيل إنها ارتفعت من مكانها، وظلت لسبعة أيام في حالة اختفاء، ولسوء حظ الأم لم يكن هنالك شهود، فشاعت الأقاويل، كان أكثرها تردداً مع الزمن أن الشجرة ارتفعت لسبعة أيام متواصلة، وبعد أن ماتت الأم حزناً على فقدان مولودتها شوهدت الشجرة مكانها، فدفنوا الأم تحتها، ولم تمسس الطفلة في داخلها بسوء، بل بقيت نائمة في النور. وأين ذهبت طفلة شجرة الغاف؟ تنهدت عجائز الصحراء: كانت تنمو سريعاً مثل شجرة، اكتملت روحها ورحلت منذ زمن ومضت سنوات طويلة على الحكاية، كانت أجملنا في القبيلة وأرجحنا عقلاً وأكثرنا بنيناً. وأين شجرة الغاف تلك؟ (إنها تنتصب قرب بئر عميقة جافة، في السهل، أسفل التلال العالية لمنطقة الخران أو قبلها بمترين أو أقل)، لا يملك أحد علامة أخرى عدا البئر. لم يعد هنالك حاجة لبئر، والمرجح أنه قد طمر بالكثبان أو حُوّل إلى حوض رعوي لإحدى المزارع يشرب منه قطيع الإبل وحمام البر الحر. يا لحسرة الحكاية المبتورة ! *** أتردد كثيراً على منطقة الحمرانية والخران وصفحات الرمال الحمراء المتموجة وشجر الغاف الكثيف المنتشر على مرأى البصر وبلا حدود بين التلال وفي السهول الخفيضة، غالب الظن أن الأم ضلّت طريق عودتها نحو الغافة التي ركزت فيها الطفلة، هي من مشت بعيداً وليست الشجرة. ثم إن زمن ضياعها عن الموقع لا أظنه قد تجاوز اليوم الواحد أو بالكثير يومين، أعرف مقدار الزمن النفسي عند الأم تماماً، فحين تفقد وليدها تتشرنق في عتمة زمن الدموع والمحنة الداخلية، فيبيت حسابها النفسي لليوم الواحد وكأنه سبعة أيام كاملة من الحزن والمرارة والفقد. هكذا تحدّثني الحكمة، غير أن السرد على منوال الحكمة يبدو شاحباً، الروح في داخلي تصر على أنه ثمة غرائبية عنقودية ولغز بدائي مبتور، لابد لهذه الحكاية أن تستمر وتمشي على خط البراءة والفطرة والأحلام. مع الأمطار، وبعدها، نزور منطقة الخران والحمرانية والمزيرع في رأس الخيمة، أعشاب الخبيز والحمّيض تعشش في حقل طبيعي أخضر واسع بين عروش وغابات أشجار الغاف، بعد أن تبرد الشمس أو تتخفّى بين شقائق الغيم نصير على موعد مع رائحة الأخضر الرطب والتقاط عروقه الصغيرة الواثبة نحو قلب الأرض، إن اللغة تصير شهية حين أكتب الآن عن الكون الأخضر، الكون الخصب المتدفق بالولادات الجديدة، وعلى عكس ذلك فإنها تشيخ وتجف حين أرى ذلك اللحاء الناشف المتيبّس على العمود الفقري لشجر غاف يقف وحيداً بلا رأس، وحين أشهد جماعة من الحطّابين الكُثر الآسيويين المترصدين بفؤوسهم صدور وأفئدة عمالقة الأشجار المعمّرة، فقد بات بيع الأغصان محموماً في السوق وطال الاستهلاك كل شيء في البيئة متجاهلين بأنه يمثل موروثاً شعرياً ومورداً تاريخياً وكنزاً وطنياً للبلاد، ومخزوننا الطبيعي في الأكسجين والسرد. الغاف شجرة سرد الوطن وشعر التاريخ، ارتبطت بعادات الإمارات وتقاليد شعبها على مدى الزمن، كانت ظلاً ومأكلاً للبدو والحضر، الغاف شجرة تكاد أن تنافس النخلة في مكانتها بين أبناء الإمارات، بل تفوقها خصوصية ورمزية، فهي من جوهر روح الإمارات بما تحمل من قيمة وطنية مرتبطة بالرموز الثقافية والبيئية والمنفعة العامة واحتلالها منذ القدم مكانة في الفلكلور والثقافة البيئية والشعبية، وفي ظل هذه القناعة تسعى جمعية الإمارات للحياة الفطرية سعياً حثيثاً بالتعاون مع الصندوق العالمي لصون الطبيعة إلى حماية غابات الغاف بجعلها تستحق بجدارة تسميتها (بالشجرة الوطنية) فهي صديقتنا في الإمارات، رفيقة الصمود والعطش الصحراوي وسيرة النهضة، تتكاثر تلقائياً وتطلق فروعها الجديدة من جذورها الأصلية في مواسم الجفاف والتبخّر العالي حين تكون معظم النباتات في سبات عميق وغفلة. هي أيضاً رمز للديمقراطية والوعي الثقافي، انعقدت تحت ظلالها مجالس القبائل ومنابر الشعر واستظل بها رواة التاريخ والأمثال والحكايات الشعبية والأمجاد التراثية، وفي المساءات العذبة ينعقد تحتها المنتدى الحر لأبناء القبائل، يتوسط كل شيخ من شيوخ القبائل مجلسه تحت أشجار الغاف يرحب بضيوفه وعابري السبيل وطالبي الجيرة، وتشعل المواقد والحكايات والأخبار وطرائف العرب الأوائل، وتحت ظلال الغاف، وعلى مسمع لحن البراري والنسيم الطلق برائحة القهوة العربية وشمس الأصيل تُسْرَد مطالب الرّعية بشكل مباشر وأريحية مع الحاكم الذي يجالس رعيته وكبار القوم وينظر في شؤونهم قبل أن يطفئ اليوم مصباح النهار. أشجار الغاف هي عنوان الاستقرار والسكينة والمودة والتكافل الاجتماعي في صحراء الإمارات، استقرت بين أغصانها أراجيح الأطفال وملاعب الأعياد والطفولة وضحكات النساء ومواقد الأعراس ونداءات الكرم والضيافة وشمخت تحت وارف أغصانها السابحة في الشمس أهازيج القبائل وصوت الأمل والصبر والوطن. ولازال البدو في الصحراء والحضر من أهل البحر يعتبرون شجرة الغاف عضواً مهماً في العائلة الإماراتية فهي الشجرة الأخت والصديقة والمُحبّة في الحل والترحال ومراحل أيام الصبا ومرابع الطفولة، لازالت رمز الثنائية البيئية، ثنائية البر والبحر، القيظ والشتاء، إنها شجرة تزدان أغصانها ألقاً وتفوح أوراقها خضرة ونضارة في موسم الصيف، تخضر وتورق في الأعالي صيفاً، وتتبرعم كائنات خضراء أسفلها شتاءً بعد المطر، حيث ينبت العشب النافع بأنواعه. ** (من يستند إلى شجر الغاف في زمن الإسمنت؟) علّق أصحاب الإبل بحنين وحسرة ومضوا في دروب بديلة ممهدة. راعي الغنم الأخير ضاع في الصحراء، انقرض رعي الغنم، رحل الراعي وحيداً مع زفير الصحراء العالي وبعيداً جداً عن الريح القادمة من مباهج المدن، يحدو للسراب بعد أن استنشق الماضي البعيد المحمّل باحتفالات الشمس والصيهد والعطش، لم يعد للبراري صوت غير بحّة ناي الرياح، وحفيف أشجار الغاف الوحيدة التي تكابد وحشة الجز وبتر الغصون. أفكر في كل هذا وأكتب فيه، وأمامي شجرة غاف وحيدة على طرف شارع إسمنتي قديم ما بين إمارة أم القيوين ورأس الخيمة، يريدونها ميتة غداً لتكتمل توسعة الطريق. أعبر الطريق القديم نحوها مثل طائر مغترب يسعى إلى تثبيت نفسه في تجاويف الغصون والجذوع، تملأني رائحة اللحاء وقشور الغاف المتساقط على التربة، رائحة خشب رطب ببخار فجر متناثر مع أول أشعة ضوء في الفضاء، إنها الساعات الأولى للشمس، التنفس الأول للصبح والحياة الجديدة للكائنات، ماذا تفعل الغاف الوحيدة هنا في يومها الأخير؟ أفكر لو في إمكاني اقتلاع الشجرة من هذا الطرف المهمّش وبث الحياة فيها من جديد عند باب قريتنا التي لم تخرج بعد من ثوب الماضي، أو زرعها خلف جدار بيتي كيما تطل برأسها على الأسئلة الغامضة وعالم غيب البلدة، ولتحتضن قبل كل ذلك عظامنا الباردة المتخشبة في السكون والقطيعة، وأسرارنا المكتظة بالحنان والصبر في مسارب وعرة نلملم منها شظايا الماضي والأقدار المجهولة. أفكر أن أزرع هذه الغافة أمام نافذتي، ثم أفتح الهواء عليها لتتشرّب الحكايات والرؤى القادمة، أو تأتي أمٌ لا أعرفها، تهدهدني ثم تتركني نائمة على كتف الشجرة وترحل، لتبدأ مواسم وتنقضي مواسم أخرى، يعشش زوج حمام قربي ثم يتلف عشه ويرحل، تولد أوراق وتسقط أخرى، وأنا لازلت على كتف الشجرة أرتفع، ومن بعدنا يرتفع حمام البيت والأطفال والقرية وكل أشجار الغاف. وحدها الأم في الأرض، تركض وحيدة ونحيبها يملأ البراري وحقول العطش، تبحث عن طفلتها التي نامت في سبات طويل جداً بين طيّات شجر الغاف، ودون أن تعثر على خبر أو أثر تمد أصابع عمرها على أكتاف الطريق الطويل، تلتحف بحزن هادئ كل أشجار العالم... وتنام. تصحو إذ تنام النباتات تستحق الغاف بجدارة تسميتها «الشجرة الوطنية»، فهي صديقتنا في الإمارات، رفيقة الصمود والعطش الصحراوي وسيرة النهضة، تتكاثر تلقائياً وتطلق فروعها الجديدة من جذورها الأصلية في مواسم الجفاف والتبخّر العالي حين تكون معظم النباتات في سبات عميق وغفلة. حكاية شاعت الأقاويل، وكان أكثرها تردداً مع الزمن أن الشجرة ارتفعت لسبعة أيام متواصلة، وبعد أن ماتت الأم حزناً على فقدان مولودتها شوهدت الشجرة مكانها، فدفنوا الأم تحتها، ولم تمسس الطفلة في داخلها بسوء، بل بقيت نائمة في النور. غذاء ودواء الغاف نبات رعوي جيد، معمّر وصديق للبيئة، ويلعب دوراً مهماً في تشجير الصحراء، يوفر الظل في الصحراء الرملية. كانت أوراقه تؤكل وخاصة تلك الحديثة النمو، وتبدأ مواسم أكله مع موسم الرّطب. يأكل البدو قرون البذور والأوراق الصغيرة، كما يستخدم الخشب وقوداً وفي بناء المنازل. تعددت استخدامات الغاف في الطب البديل، فقد فطن البدوي والإماراتي القديم إلى مواطن الصحة والعافية في لحاء وأوراق وزهور الغاف حتى أنه خلط السنفات الأرضية بأوراق الريحان وعصير الليمون. وتستخدم كقطرة للعيون في علاج المياه الزرقاء، كما تستعمل السنفات المسحوقة كنقط للأذن. تمضغ الأوراق لمعالجة آلام الأسنان وعسر الهضم. يخلط الرماد المحروق بالماء ويوضع على أماكن الكسور لتخفيف الآلام، كما يستعمل لحاء الشجرة لعلاج الروماتيزم ويوضع على لسعات العقارب. يستعمل لبن الأغصان كمطهر.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©