الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الروائية اللبنانية صمتت 15 عاماً كانت تشعر خلالها بأنها من مفقودي الحرب

الروائية اللبنانية صمتت 15 عاماً كانت تشعر خلالها بأنها من مفقودي الحرب
15 يناير 2009 00:52
بعد غياب دام قرابة عقد ونصف العقد، أطلت الروائية علوية صبح على القراء اللبنانيين والعرب، بعملين روائيين مفاجئين من حيث التقنية السردية والموضوعات المتداخلة في دهاليز النفس والجسد والسياسة والعنف، والأعراف والتقاليد· ومن حيث الجرأة أيضاً والحكي والتعرية التوصيفية للمجتمع اللبناني المهجوس بالحرب· فاستحقت بهذين العملين ـ وهما ''مريم الحكايات'' و''دنيا''، الصادرين عن دار الآداب في عام ،2002 وعام 2006- أن تتبوأ مكانه متقدمة في الرواية العربية، وأن تحصد أكثر من جائزة معنوية ومادية مهمة· حوارنا مع علوية صبح يبدأ من سبب عودتها إلى الكتابة الروائية، ويتساءل عن أهداف هذه الكتابة الحكائية والسردية في آن معاً: ؟ بداية، ما الذي دفعك إلى العودة إلى الكتابة بعد توقف طويل؟ ؟؟ السؤال هذا يعيدني إلى رواياتي ''مريم الحكايات'' التي كانت قد صدرت بعد صمت لي دام أكثر من خمس عشرة سنة· وهذا السؤال، لا أدرك حقاً جوابه إلا بما يصلني من أسئلة بطلتي مريم التي راحت تحكي حكاياها وذاكرتها في الحرب اللبنانية· وهي تطاردني طوال الرواية بسؤالها عن اختفائي وصمتي عن عالم الكتابة والحكاية التي كان من المفترض أن أرويها أنا والمسرحي الدكتور زهير توأمي في الرواية، كما تقول الراوية مريم· السؤال هنا لا أدرك جوابه· ما أدركه فقط هو ذلك الإحساس العميق المؤلم خلال فترة الصمت والذي جعلني أشعر بأني قد أكون بين المفقودين في الحرب· كأن الصمت هو الموت بعينه· وهذا الإحساس رافقني طوال فترة انقطاعي عن الكتابة لسنوات· ولما جعلت بطلتي مريم تلاحقني على امتداد الرواية وتسألني عن سر اختفائي ولماذا لم أكتب حكايتها كي تعيد اكتشاف ذاكراتها، كنت وأنا أدعها تفعل ذلك أعيد الحياة إلى الكتابة وأرفع نفسي من بين الموتى والأنقاض، لأن اللاكتابة هي الموت بالنسبة إلي· لم أستطع طوال تلك الفترة أن أكتب رواية خارج الحرب، فآثارها حتى في جسدي ومخيلتي كما في المجتمع· احتجت لسنوات إلى صمت كي أفهم وأستوعب وكي أتأكد ربما من وجودي على قيد الحياة· وطوال فترة انقطاعي عن الكتابة بدت ذاكرتي وكأنها ممحوة ووجودي أشبه بوهم شديد· كما أن الشك بكل القيم وبالذاكرة وبالكتابة وما آلت إليه الحرب ترك آثاره علي وعزز إحساسي بفقدان الذاكرة، فكانت حاجتي إلى تخيل الراوية مريم أشبه بحاجة إلى من يريد محو النسيان والعثور على ذاكرة كتابية تعيد وجودي على قيد الحياة· تخيلتها تروي ذاكرتها بدلاً عني، وكأني بوعي مني، كنت أدرك أن ذاكرة الأبطال هي التي تنشئ احتمالات وجود الكاتب وذاكرته الكتابية، وأننا حين لا نروي حكايات البشر فإننا نقتلهم، أما حين نرويها فهم يعيدون خلق الكاتب· ولعل أكثر ما أقلقني قبل أن أبدأ بالكتابة بعد صدمة الحرب التي أودت بي إلى الصمت هو السؤال: كيف أكتب عن أو في أي مدينة لا تشبه المدن التي أولدت القصص التي تخبرنا عنها الكتب، والتي أنتجت وتنتج سرداً ومتناً وتقنيات تنتجها تاريخية وواقع مجتمعاتها وثقافتها؟ عن أي مدينة أكتب وكيف وأنا لم أعش حالة مدينية كاملة ومضيئة في مجتمع مدني سليم؟ فأنا المولودة في بيروت والتي عشت حروبها وتهجيراتها وجدت نفسي أوائل العشرينات من عمري في خضم حرب شوارع تكسر فيها حلمي بمدينة علمانية رسمها لي وعيي السياسي والإنساني· مدينة شهدت انهياراً على كافة المستويات، والحرب التي دخلها المجتمع أفضت إلى انهيار وتصدع المدينة وإعادة صياغة المجتمع على صورة هزيمة المدينة· فكيف إذاً لمدينة أن تشهد حرباً أهلية طائفية شرسة ولا تترك آثارها على الكتابة؟ وعن أي مدينة أحكي في نص روائي والكتابة الروائية حالة إبداعية بامتياز شرطها الحرية والقلق المفتوح على الاستكشاف والحفر والأسئلة وفضاء الحياة الواسع الرحب؟ ولأنني لست من أهل اليقين لا الروائي ولا الحياتي، أنحاز إلى الحكايات انحيازي إلى حرية الفن والكتابة والإبداع والحياة· أنحاز إلى تعرية أسرار المدينة· هزائم الحرب والحياة ؟ ماهي علاقة الذاكرة الروائية بأسرار الحرب والمدينة؟ ؟؟ رحت أكتب عن الأجيال وأنا أكتب حاضر المدينة· أكتب وكل شيء بمحو الذاكرة التي صارت الحروب والقتل والدماء والنسيان تملأها· أكتب لأخترع حكايات تنجينا من محو الذاكرة· أكتب فيها مدننا تحولت إلى مقابر جماعية تحت التراب وفوقها· أكتب روايات لتكون ابنة مدينتها والحروب تقتل مدنها· وكنت في كل هواجسي وقلقي أحاول أن أكتشف بالكتابة تقنياتي وعالم الشخصيات التي جذبتني للكتابة· وربما دفعني الشعور بالهزيمة الراكض وراء شخصيات قد تبدو نافرة، إلى أنني كنت أجد نفسي وأنا أصطدم بتفكيك الشخصيات وتركها تتحرك في الحياة بلا إسقاطات ذهنية تقيدها، أعثر على وحشية داخلية وعنف داخل الشخصيات والمجتمع كلما ذهبت في رحلة كشف الشخصيات وحفر الأمكنة المعتمة فيها· وكنت أهجس في الوقت نفسه بعوالم النساء وذاكراتهن وهزائمهن· وكأني بوعي مني كنت أهجس القول إن ذاكرة النساء تبدأ بالشك في النمطي والذهني الجاهزين وبكشف المستور وتحرير الذاكرة من صنميتها وخفائها، لينفتح القول على طرائق تعبيرية، قلتها محاولة الكشف عن المضمر والمحتمل وتحريره من سجون قوله وطرائقه الكتابية الأيديولوجية حين نسنده إلى حركيته في حيوات الأبطال· ولذا جعلت مثلاً من الراوية مريم في ''مريم الحكايات'' قادرة على مساءلتي وعدم الحاجة إلى لغتي الكتابية الجاهزة، وأن تكون على قدر من الإبانة لتناقضات الشخصيات الإنسانية وازدواجية معاييرها، وقادرة بمسحة ساخرة على استنطاق خفايا النفس وزواياها المتراكمة، وتكشف عجز البعض عن فهم الآخر والخوف الذي يكبل النساء والرجال من الحياة والأجساد· وكان البطل هو القهر الاجتماعي الذي يلحق الهزائم بكل من يعترض طريقه· وبحس أنثوي أعدت صياغة ووصل ثلاثة أجيال من النساء في المدينة· وبين هذا الوصل وتلك الصياغة كنت أحاول أن أعري تاريخاً من النفاق الاجتماعي والعنف الخفي· ولذا كتبت بجرأة وخشونة وسخرية وغرابة السردية· كتبت عن هزائم الحرب والحياة الداخلية المعقدة المضطربة للشخصيات، ووظفت الإيروسية هنا من أجل لعبة الكشف والستر والتواتر بينهما· وسعيت إلى توليد الكلام حيث القلم رحم أنثوي يضمر فتنة خاصة وولعاً شديداً بقدرة المحكي على السرد· ؟ هل كنت تبحثين في هذه الكتابة عن رائحة الحياة؟ ؟؟ نعم، حلمت برائحة الحياة في الكتابة والتعبير عن العنف الداخلي في العلاقات والعمى الإنساني تجاه الآخر والعالم· لم أر الشخصيات بمعزل عن العام، ولا العام بمعزل عن الجسد، وإنما مهجوسة بمجابهة الواقع وقمعه الوحشي لإنسانية الإنسان للرجل كما للمرأة· والإيروسية التي تحفل بها رواياتي كُـوىً نطل منها لنكتشف الدواخل والشخصيات ونطل منها على عالم يمجد العنف وتسوده القيم الإلغائية· وفي ذلك استخدم اللغة المباشرة بمعزل عن أي رقابة خارجية إن في وصف الحالات والمشاهد الشبقية والجنسية أم في سرد العلاقات السائدة· وأحاول أن تحاكي لغة المشهد في حقيقته وصدقه· وهذا ما يعطيني القوة في اختراق مكامن المحرمات النابعة من زوايا أغوارنا· تناسل الحكايات ؟ ثمة مخزون لغوي شعبي في ''مريم الحكايات'' ما الغاية منه؟ ؟؟ لقد هجست بالكتابة عن حاضر متعثر ومحاولة الارتداد للماضي وسحبه على الحاضر المتأزم والوعي المغلوط وبشخصيات فقدت بوصلتها الصحيحة على فهم الواقع وما أصابه من تحولات بدلت سلم قيمه وراحت تتلمس خلاصها في عالم غيبي ما ورائي· هجست أن أكشف عن أوجه الصراع العميق الذي يدور بين الإنسان البسيط وظروفه القاهرة· هجست بالألم والحياة والجرح اللبناني في الحرب والفشل العربي والتعبير عن اللايقين· هجست بالنفي لكل ما هو مستقر بالموجوب والمكموم· وهواجسي لرصد ذاكرة الابطال جعلتني لا أحاكي المرجعية الغربية في الكتابة· تركت الحكايات تتناسل على لسان الراوية والتفت للذاكرة الشعبية التي هي الخزان اللغوي للراوية، وبالتالي كانت الحياة هي مرجعية الشخصيات واللغة الروائية· أسقطت الحدود بين ما هو ذاتي ومجتمعي، بين الشفهي والمكتوب، ما بين التاريخ والفولكلور، بين المتخيل والواقعي، كما أسقطت الحدود بيني ككاتبة وبين الشخصيات· ولعل إستكشاف الذاكرة عندي في ''مريم الحكايات'' مثلاً خلق لعبة مرايا بيني ككاتبة وبين الأبطال، وانسحبت على القارئ أيضاً· فما عاد مهما إن كانت الراوية مريم أو أنا التي تفتش عنها في الرواية أو أي من الشخصيات ذاكرتي أم ذاكرة الأبطال أو القارئ· ولا عاد مهماً إن كانت الشخصيات أوجه حقيقية أم أوجه حقيقة الراوية، فذاكرتي باتت هي ما أكتب وليس ما أعيش· والحقيقة أنني أنتصر لجنس الكتابة دون أن أنسى هواجسي في التعبير عن جنسوية من اكتب عنهن وعن خصوصية ذاكرتهن وتعبيراتهن وأقوالهن بلا خطاب أو إيديولوجيا· وهذا ما جعلني أقوم برحلة اكتشاف شخصيات الرواية وعالم النساء الموؤودات بالخوف والعنف والجهل والخرافة والإلغاء والوحشية والإنغلاق على الذات في آبار سحيقة تحبس الجسد والروح بالخوف من الحياة والرغبات والآخر· آبار تجعل الجسد والروح في أماكن قصية ومحرمة ومظلمة· وكل هذا تطلب مني في الوقت نفسه الذهاب إلى ما هو حقيقي ومتبئر ومسكوت عنه في الدين والجنس والعلاقات· تمجيد السلالة ؟ أسلوبك الروائي يتميز بمروية الحكي، هل يمكن القول إنك تنتمين إلى حكايات ''ألف ليلة وليلة''؟ ؟؟ لاشك أن سؤال ماذا اكتب وكيف أكتب دفعني إلى أن أكتشف لغتي الخاصة وطريقي في السرد والاخبار، وأنا أحاكي المشهد في حقيقته وصدقه بمعزل عن أي رقابة أو ردات فعل أو ادعاء جرأة إن في وصف الحالات أو في طبيعة سرد العلاقات السائدة· ومحاكاتي للمشهد أعطتني قوة في اختراق المحرمات القابعة في زوايانا المحتجبة· ولم تكن ذاتي الضيقة خزان الحكايات، بل كنت مستندها ومستودع الأسرار، فتقاطعت الحكايات، تناسلت، واختلطت في سياق درامي كان يضغط بي أحياناً إلى حد الانفجار· لكن حريتي في تقنيات السرد كانت تنقذني وأنا انتقل بيسر وسهولة من حكايات إلى أخرى، أقفز بين الأزمنة السردية، أمازج المرثاة الساخرة بالدراما، كما وانتقلت من الخاص الأنثوي نحو العام الاجتماعي والثقافي والسياسي، وأعود من العام إلى الخاص في حركة السرد الروائي وتنامي أحداثه عبر تقاطعات وتماسات تفرضها طبيعة التجربة التي تعيشها شخصيات العمل الروائي وتكشف فيها عن مرارة التجربة وفداحتها في الحرب· والحقيقة أنني سعيت إلى تناغم بين فن القصص الشعبي كما في ألف ليلة وليلة وتقنيات الرواية المعاصرة· فأنا مفتونة بالحكي لجعله سرداً روائياً يتجلى بمميزات فنية عالية· ولذا كتبت بتشكيل روائي على مساحة واسعة، وكأن الرواية عملاً جدارياً ملحمياً بغزارة شهرزادية وتناسل الحكايات والانتقال بيسر من حكاية إلى حكاية وأنا أدلف من باب إلى باب في الرواية وأقفز بين الأزمنة السردية المختلفة· وهذا ما جعل النقاد يجمعون على أن كتابتي تتمخض عن شهرزاد جديدة تسرد الجحيم· ؟ معنى ذلك أنك مخلصة لتقنية السرد في تراثنا الأدبي، أليس كذلك؟ ؟؟ بلى، كتبت بإخلاص لطريقتنا المشرقية في الكلام وأنا أفتش عن لغتي وتقنياتي السردية دون أن أقطع المنجز الإنساني والثقافي العالميين، لكن رحلتي في الكتابة تلازمت عندي بالوفاء لذاكرتي الشرقية· هذه الذاكرة المغمسة بالحكايات الشهرزادية ولكنها مستبعدة كفنية كتابية في الكتابة عموماً في شرقنا لصالح تقنيات غربية كونها النموذج والمرجع والمقياس· وأحسب أنه كما تتوالد الحكايات الشهرزادية من بعضها تتوالد الحكايات عندي وتتناسل مع بعضها ولكن بإطار عصري حديث· واعتقد أن سؤال الهوية في الكتابة الذي شغلني جعلني مدفوعة إلى كشف تقنيات في السياق نفسه الذي اكون فيه مدفوعة الى كشف الأسرار والمسكوت عنه· فكان لابد من أن اتواصل مع الحكي الشهرزادي، وأن ألجأ للحكي في الكتابة· فالحكي في الزمن الشهرزادي كان الوسيلة الوحيدة لحفظ البقاء والاستمرار على قيد الحياة· لكن هذه الوسيلة لم تعد تفي بالغاية (حفظ الذاكرة) في القرن الواحد والعشرين· وكان لا بد من الانتقال من طور الحكي إلى الكتابة لأن الكتابة هي تدوين وتثبيت للذاكرة· ولذلك تسعى بطلاتي لتثبيت الذاكرة بالكتابة لا بالحكي كي لا تتبدد في زمن باتت الكتابة في ما يكفل البقاء والاستمرار· فالحكي يبقى ارتجالاً وفعلاً شفوياً، أي هو بمعنى آخر كتابة ممحوة· ولذلك تحكي بطلاتي حكاياتهن المكتوبة كي لا تبقى كتابة المرأة الممحوة
المصدر: بيروت
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©