السبت 4 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

إلى ماذا ترمز الشعلة في ذهن القائد؟

إلى ماذا ترمز الشعلة في ذهن القائد؟
7 ابريل 2010 22:06
في السادس من آب أغسطس 1966 تسلم المغفور له بإذنه تعالى صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان مقاليد الحكم في إمارة أبوظبي. ولا يمر عام على هذا الحدث، حتى يتم الاحتفال بعيد الجلوس الأول وذلك في السادس من أغسطس 1967. يفتح القائد مجلسه ويستقبل المهنئين من أبناء شعبه ويستمع إلى شعراء القوم يحيون هذه المناسبة. طالب إماراتي لم يبلغ الثانية والعشرين من عمره يحضر من جامعة بغداد ويلقي أمام قائده قصيدة تختلف عن قصائد الشعراء الآخرين، ذلك الطالب يلقي قصيدته بالفصحى، وأما الآخرون ألقوا قصائدهم باللهجة المحلية فهم شعراء النبط. أعود اليوم إلى تلك القصيدة القديمة والتي ألقاها الطالب مانع سعيد العتيبة فماذا أجد؟ يقول الطالب مانع العتيبة: كل الأمانـي في يديك أمانة وغدا تفتح في الربى أزهار يا زايد سر للأمام بقوة وابن البلاد فكـلنا إصرار واسبق بنا باقي الشعوب لنهضة تاقت لها الأسماع والأبصار هذي السفينة أنتمو ربانها والشعب تحت لوائك البحار بعد سنتين من هذه القصيدة، يتخرج الطالب مانع سعيد العتيبة في جامعة بغداد ويحصل على البكالوريوس في الاقتصاد وفي الثالث عشر من أغسطس 1969 يصدر المرسوم الأميري رقم 25 بتعيين مانع العتيبة نائباً لرئيس دائرة شؤون النفط والصناعة. منذ ذلك التاريخ يقضي مانع العتيبة وقته كله إلى جانب القائد من أول ساعات الصباح حتى ساعة متأخرة من الليل. بالعودة إلى تسجيل إذاعي قمت به مع معالي الدكتور مانع العتيبة في عام 1971 وفي الذكرى السنوية الخامسة لعيد جلوس المغفور له الشيخ زايد رحمه الله يتحدث معاليه عن تلك الفترة ويقول: “عندما تولى صاحب العظمة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان الحكم في سنة 1966 كان إنتاجنا من البترول لا يتجاوز ثلاثة ملايين طن في العام، وفي العام 1971 قفز الإنتاج إلى 46 مليون طن، كما أن عائدات البترول في عام 1966 لم يتجاوز بضعة ملايين من الدنانير (كان التعامل وقتها بالدينار البحريني) في حين من المؤمل أن يصل مجموع العائدات في نهاية هذا العام إلى مائتي مليون دينار”. هذه أرقام لها أهميتها الدلالية التي يجب أن يهتم بها أي مؤرخ لزمن البدايات. فهي تدل على أن الإمكانات التي كانت متاحة في عام 1971، وبعد خمس سنوات من تسلم القائد زايد لمقاليد الحكم لم تكن تزيد على مائتي مليون دينار بحريني أي حوالي ملياري درهم فقط، وهذه تمثل كل الدخل المتوافر للإمارة، حيث لم يكن هناك دخل آخر. كان البترول هو العمود الاقتصادي الوحيد وهو المسؤول وحده عن الصرف على الدولة الوليدة فوق رمال الصحراء. ولم تغب هذه الحقيقة المرعبة لحظة عن فكر القائد ولم يكن يألو جهداً في التخطيط والعمل الدائب لتغييرها وبناء اقتصاد يقوم على أعمدة عدة متوازنة فلا ينهار الاقتصاد لو تعرض النفط لضغوط تخفيض الأسعار أو تخفيض الإنتاج. أراد القائد وصرح بكل ما أراده من دون مواربة أو مداراة بأن خطته تعتمد على استغلال الثروة البترولية وهي ثروة مؤقتة ومادة ناضبة لبناء ثروات أخرى متجددة وغير ناضبة. لم يكن زايد يحلم، ولو أن ما كان يسعى إليه يشبه الأحلام. ولقد أصغيت إليه مرات عدة يتحدث مع الرجل الذي وضعه على رأس جهاز إدارة النفط وسجلت بالصوت والصورة كثيراً من هذه التوجيهات التي حملت استراتيجيته وبينت أهدافه النهائية. كان يقول: ـ يجب أن نوفر من عائدات النفط ما يمكننا من بناء مشاريع اقتصادية مربحة. ـ علينا أن نبني المصانع. ـ علينا أن نجعل الزراعة مصدراً للدخل. ـ علينا أن نفتح أبواب بلادنا للتجارة العالمية. ـ علينا أن نستثمر في البلاد النامية والصديقة ما يوفر لنا مصادر جديدة للدخل. ـ علينا أن نسيطر على صناعتنا البترولية ولا نسمح للشركات الأجنبية أن تهدر هذه الثروة. ـ يجب أن نستفيد من غازنا ولا نحرقه. كل هذه الكلمات وغيرها مسجلة لدي، وحينما أعود اليوم لها وأنظر إلى ما وصلنا إليه في حياته وبعد رحيله أجد أن القائد فعلاً لم يكن يحلم، بل كان يخطط للمستقبل ولقد تحقق فعلاً ما سعى إليه. وإن عشت أنسى فلن أنسى ذلك اليوم من نوفمبر عام 1971 حينما زار المغفور له رحمه الله مبنى الإذاعة يومها أتيحت لي فرصة الحديث المباشر معه حول برنامج “الذهب الأسود” في التلفزيون. ولقد شعرت بكثير من القلق عندما سمعته يقول: “شاهدت برنامج “الذهب الأسود” ووجدتك تضع شعلة الغاز المتوهجة في مقدمة كل حلقة، هل تعرف أن هذه الشعلة تعني إحراق ثروة الغاز، أنت تجدها جميلة ولكنها في الواقع تسجيل لخسارة يومية، لثروة تحترق وتضيع هباء”. قلت متلعثماً: سنغير هذه اللقطة من الحلقة المقبلة. قال بهدوء: لا، لا تغيرها، نحن يجب أن نغير الواقع نحن يجب أن نطفئها، أما البرنامج فليظل كما هو، لتستمر الشعلة حتى تذكر جميع المسؤولين عن النفط بضرورة إنقاذ ثروة الغاز من الاحتراق. تذكرت هذه الحادثة وأنا أسجل حفل افتتاح مصنع تسييل الغاز في جزيرة دامس بعد ذلك بحوالي خمس سنوات، في ذلك الحفل، وبحضور القائد الراحل شخصياً وحضور ولي عهده الأمين صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان وحضور حكام الإمارات تم إطفاء شعلة الغاز المصاحب وتم فعلاً إنقاذ ثروتنا الغازية من الضياع. ما كانت كلمات القائد تهويمات ولا أحلام يقظة، لقد حقق ما يريد في حياته، واستمر الذي خطط له بعد رحيله. فعلى الرغم من أن الإنتاج النفطي من الإمارة تصاعد من حوالي نصف مليون برميل يومياً إلى حوالي ثلاثة ملايين برميل يوميا، وعلى الرغم من أن أسعار البترول تصاعدت من أقل من دولار واحد للبرميل إلى حوالي 150 دولاراً للبرميل قبل أن تتراجع إلى حوالي سبعين دولاراً للبرميل الواحد، على الرغم من كل هذه المعطيات إلا أن نسبة مساهمة النفط في الدخل القومي للإمارات تراجعت من 99.9 % إلى أقل من ثلاثين بالمائة. وهذا يعني وجود مصادر جديدة للدخل غير البترول وهذه المصادر الجديدة هي التي خطط لها القائد زايد رحمه الله، وبلغها فعلاً قبل رحيله وما زلنا نعيش في حقيقتها بعد انتقاله إلى رضوان الله. ولم تقتصر الخطة التي وضعها القائد على الاستثمار داخل الإمارات، بل إن الخطة شملت الاستثمار الخارجي. في عام 1976، صدر المرسوم الأميري رقم 6 ويقضي بتشكيل مجلس إدارة جهاز أبوظبي للاستثمار برئاسة صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان وعضوية عدد من الفعاليات والقيادات الاقتصادية. ولقد قام هذا الجهاز منذ ذلك العام بالاستفادة من العائدات النفطية وتوظيفها في استثمارات خارجية حققت للإمارة وللدولة عوائد ضخمة فاقت وتفوق عوائد النفط. جميع دول العالم تأثرت بأزمة الاقتصاد العالمي ودولة الإمارات لم تخف الآثار السلبية التي خلفتها الأزمة على اقتصادها. ولكن، على الرغم من كل شيء، كانت دولة الإمارات وبفضل ما خططه القائد الراحل لها من الدول القليلة التي تعاملت مع الأزمة العالمية ولم تقع فريسة لها ولم تسمح حتى لواحدة من إماراتها أن تكتوي بنار تلك الأزمة. ومنذ البداية أدرك العالم كله أن الإمارات قوية فعلاً لا قولاً، وأنها قادرة على تجاوز الأزمة والوصول إلى بر الأمان. ويطل من خلال الضباب وجه ذلك القائد العظيم، الذي كان يعرف ما يريد، وكان يخطط لاقتصاد قوي لا يهتز ولا يتزلزل إن أصاب الصناعة البترولية هزات أو زلازل سواء في الإنتاج أو الأسعار، وترن كلماته في سمعي: ـ سنبني اقتصاداً قوياً لا يعتمد على البترول وحده، وسوف لن نرجع إلى الصحراء والشقاء والحرمان، عندما تجف حقول نفطنا وتنفد ثروتنا البترولية، بل ستكون لنا ثروات أكبر ومتجددة وأهم هذه الثروات هي الإنسان.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©