السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مقدمة حول القصيدة الهرمية أو··· الـ (سمع ؟ بصرية)

1 مايو 2008 04:20
صراع مرير هذا الذي يجري بين الأجيال هذه الأيام، إنه صراع الأضداد، وهو صراع وجود وفناء، صراع بين هامش وبين مركز، هو صراعٌ بين ذهب الشمس الثمين وبين بريق أشعتها الساحر، قد يكون من المريب فعلا أن نقلع النخلة العراقية ونزرعها في المملكة المتحدة، أو سيكون من المشكوك فيه أن نجلب شجرة جوز الهند من الأمازون وزرعها على ضفاف دجلة أو الفرات، ثم هل يستطيع أن يعيش البعير جنبا إلى جنب مع الدب القطبي في القطب الشمالي أو يحدث العكس ليعيشا سوية في الصحراء مثلاً؟ يبدو لي أن الإجابة عن هذه الأسئلة سيكون بالنفي لأن ما نبغيه من عملنا ذاك سيكون من الصعب تنفيذه لأنه يتوسل نقلاً ببغاوياً يفتقر للتمحيص والدراسة بله التجربة والدراية العميقتين، وعلى هذا الأساس نستطيع أن نقرأ الكم الهائل من الشعر الذي يغزو الساحة ويتربع في صدور مجلاتنا وجرائدنا الثقافية وكذلك ما يصدر من دواوين سواء عن دور النشر او بواسطة الاستنساخ· صراع وواضح أن الصراع الذي نقصده هو صراع بين التراث ممثلاً في ركائزه الأساسية (القصيدة العمودية ـ قصيدة التفعيلة) وبين الحداثة ممثلة بقصيدة النثر، فقصيدة التراث هي سليلة الإيقاعات العربية المرتبطة بالشفاهية وهي تحفر عميقاً في العقل الجمعي لجمهور المتكلمين بالعربية، أما قصيدة النثر فهي قصيدة اللاايقاع وهي نتاج الكتابة وتراهن على العين وقدراتها التجميعية الفضائية، اذن فهو صراع بين الأذن والعين، صراع بين حاستي السمع والبصر وهو صراع بين الزمان والمكان (الفضاء) فالأذن بقدرتها العجيبة في مسك الزمن عن طريق استجابتها للأصوات تخلق إيحاءات تقود إلى احساسات إنسانية عميقة وفطرية عن طريق الخيالات والحدوسات الشفافة والتي لا يمكن القبض عليها بوصفها حقائق· أما العين البشرية فهي قادرة على مسك الفضاء، ولا ترى إلا حقائق جامدة لا مجال للخيال فيها أن يعمل أي أنها آلة لمسك الوقائع ومحيطها المكاني وهذا يعني ان الإيحاءات الجمالية التي تنقلها العين تعتمد على جمال الأشكال وبراعتها الهندسية وكذلك على مدى الاستفادة من فضاء الورقة، وكي تكتمل شعرية النص سيكون للانزياحات الدلالية دور كبير في تأسيسها وللخروقات النحوية على مستوى بناء الجملة وتوليدات معانٍ عميقة من البنى السطحية، وهذه الميكانزمات تستبعد الايقاع برؤاه الصوتية لأن ذلك هو ما تختص به الأذن بوصفها آلة للسمع· الأذن إن الأذن بوصفها المستلم الرئيسي للإيقاعات التي تشتمل عليها القصيدة التراثية التي ينظمها العروض العربي هي مضمار الخيال والصورة الشعرية بوصفها ظاهراتية له (أي للخيال) على حقيقة ان ظاهراتية الخيال هي بداية تكونها في الوعي (أي تكوّن الصورة الشعرية)· إن تغلغل الإيقاعات من خلال آثارها الموسيقية في احساسات المتلقي وما يصاحبها من أحلام يقظة عميقة تقود الشاعر إلى أماكن نائية زمانياً خالقة صوراً طازجة وغير مستهلكة وهنا تكمن سر قوة القصيدة التراثية· العين ولكنّ العين بوصفها آلة لاستلام الصور البصرية فهي لا ترى إلا حقائق عقيمة لا مجال فيها للكذب أو بمعنى آخر للخيال، ويجب أن نفرِّق بين الصور الشعرية التي يصنعها الخيال وتنقلها الكلمات وتلك التي تراها العين (الصور البصرية) بوصفها أشكالاً لا يصنعها اصطفاف الكلمات والجمل وهي مرسومة على الورقة وما يمكن أن تخلقه من تداعيات عند المتلقي· إن القصيدة الحديثة (قصيدة النثر) تعمل على خداع العين لخلق إيحاءاتها الخيالية وهي تستفيد من فضاء الورقة بصورة مدهشة لخلق بعض شعريتها، إنها نتاج عملية الكتابة، وهي أيضا للمتلقي القارئ وليس للمتلقي المنبري أو المستمع، وهذا يعني بكل تأكيد أن هنالك قطيعة ابستمولوجية (معارفية) بين التراث والمعاصرة، التراث بكل عنفوانه ورسوخه وقدمه، والمعاصرة بكل قوتها الإعصارية وهي تحاول اقتلاع كل شيء· اذن فالسؤال المطروح الآن هو: أنبقى نجتر التراث بدون تجديده؟ أم نذعن أمام الإعصار ؟ القصيدة النثرية؟ وبالتالي نغادر جذورنا ونبني بيوتاً في الهواء لا ندري متى تتهدم وتسقط علينا· بالطبع هي لحظة مخاض هذه التي نعيشها حالياً، وهي لحظة تاريخية ولدت من عدم وهي في طريقها لعدم آخر، إنها لحظة قلقة انبثقت ووقفت بين عدمين، لذا علينا أن نفكر جيدا ونبصر طريقنا بصورة واضحة قبل ان نتخذ قرارات مصيرية قد يكون لها نتائج غير محسوبة مستقبلاً· ويبدو لي ان قرار اللحظة الحاسمة يستوجب الموازنة، أي بكلام آخر يستوجب عدم الانكفاء والارتداد الكلي للتراث فنتهم بالتحجر واللابصيرة، أو نتقدم الى أحضان الآخر الحداثوي فنتهم بالتغريب· الشكل إذن فالسؤال الآن هو: ما هو الحل وكيف؟ وجوابنا هو ان الحل ليس صعباً· وهو يستوجب التأني في حل هذه الإشكالية التاريخية· إن الشعرية الحالية منقسمة على نفسها وهي تنهل من معينين (كما أسلفنا) أحدهما يرتبط بالأذن (التراث) وهو انحياز زمني، والآخر مرتبط بالعين (الحداثة) وهو انحياز مكاني (فضائي)، وهما إذ يعملان بصورة منفصلة ومتصارعة لحد تقويض وتهميش أحدهما الآخر، وهذا يترتب عليه نتيجة مرعبة ومزرية حقاً، وهي فقدان أحدهما على حساب الآخر، وهي خسارة جسيمة لا تتحملها الشعرية العربية لأن اللهاث وراء هكذا خيار سيجعلنا نكرر ما اقترفه الغرب من أخطاء مميتة كان نتيجتها انكفاء الشعر واضمحلاله وخسارته لجمهوره، فخسارة التراث الإيقاعي يجعلنا كمن يستبدل المقامات العربية الخالدة بموسيقى السامبا أو بموسيقى الروك أند رول، وهذا يؤدي الى خسارتنا لركن مهم من بناء الشخصية العربية على طول القرون، كما أن غلق الأبواب بوجه الحداثة سيجعلنا ننكفئ الى الداخل وهذا ما لا نريده للشعرية العربية· إن الحل وكما أسلفنا هو ركوب طريق الموازنة بين التراث والحداثة، الموازنة بين الأذن والعين أو بين القراءة والكتابة، الموازنة بين الزمان والمكان وهذا يتم عن طريق القصيدة الهرمية أو القصيدة السمع ؟ بصرية أو القصيدة التلفازية أو قصيدة الحاسوب أو القصيدة الزمكانية· إنها مسميات عديدة لقصيدة واحدة، وهي قصيدة تتوسل التراث بكل قوته وتبني عليه نفسها بوصفه أساساً راسخاً، وأساس هذا التراث هو العروض العربي، والعروض يعني الأذن ويعني الإيقاع ويعني الزمن، الخيال، الصورة الشعرية، أما طريقة البناء فهي تتوسل الحداثة، والحداثة تعني العين، وتعني البصر وتعني الكتابة وتعني الهندسة· المزج إن المزج بين القراءة الإيقاعية والكتابة الهندسية يمكن ان يخلق قصيدة حديثة لها قيمة كبيرة نجد من خلالها أنفسنا ونعزز من خلالها وجودنا بوصفنا مشاركين في إنتاج الحضارة العالمية وليس مستهلكين لها، وهذا يبقي تراثنا بمنأى عن النسيان ومن ثم الخراب، ويطور الحداثة بوصفها بنت زماننا والأقرب الى طموحاتنا، وبالتالي سنربح كلا من التراث العظيم والحداثة بوصفها قوة يمكن ترويضها والاستفادة منها، وهذا يتم عن طريق خلق وإنجاز قصيدة حديثة وقوية ومقروءة تنهل من التراث وتلبس لبوساً حداثوية، وهذا ما يمكن ان تنجزه القصيدة الهرمية او القصيدة الزمكانية (السمع ـ بصرية)· إن استحداث هكذا نوع من الكتابة الشعرية يستوجب شاعراً مسلحاً بعلم العروض العربي وبكل فنونه، وكذلك مستوعباً لفنون الكتابة الجديدة· وبوجود هذه النوعية الخاصة من الشعراء ستكون مهمة التجديد يسيرة حيث إن وجود شاعر له أذن موسيقية وعين فنانة، وهذا ما يجب عليه ان يكون الشاعر الحديث فإن فرض ولادة هكذا قصيدة تبدو بمتناول اليد·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©