الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«ملتقى الفكر والثقافة» في عجمان.. ينكأ جروح الخليج وقضاياه المصيرية

«ملتقى الفكر والثقافة» في عجمان.. ينكأ جروح الخليج وقضاياه المصيرية
11 يونيو 2009 02:32
قضايا كثيرة آثارها «ملتقى الفكر والثقافة في الخليج العربي» الذي نظمته دائرة الثقافة والإعلام بعجمان أخيراً تحت عنوان «البعد العالمي للتاريخ الثقافي في الخليج العربي»، بعض هذه القضايا جاءت معالجته شبه وافية وبعضها ظل مجرد إلماحات أو رؤوس موضوعات تحتاج إلى بحث أكثر عمقاً، وتمحيص أكثر دقة. من بين أهم القضايا التي طرحها الملتقى والتي تتماس مع عنوانه المعلن «البعد العالمي للتاريخ الثقافي في الخليج»: العلاقة بين الثقافة والعولمة، العلاقة بين الإعلام والثقافة، الهوية الثقافية للخليج تاريخياً وراهناً، الإسهام العربي في الحضارة الإنسانية في شقها المتعلق بالملاحة وعلوم البحار والتي كان نموذجها «أحمد بن ماجد»، أخيراً البعد الإسلامي ودوره في صياغة الوجه العالمي للثقافة في الخليج والجزيرة العربية، والعلاقة بين الإسلام والغرب وما تستدعيه هذه الثنائية من أزمات تاريخية وراهنة. كل هذه القضايا أشَّرت على المأزق الحقيقي الذي تعيشه الثقافة العربية الإسلامية وكثيراً من مظاهر التمزق التاريخي أيضاً في واقعنا وفي علاقاتنا بالآخرين، لكنها لا تخلو من جرأة في التناول والمقاربة، وهو أمر يحسب لبعض المتحدثين. الهوية الخليجية تاريخياً رغم الإشكالات الكثيرة التي يثيرها الحديث عن الهُويات الثقافية الفرعية أو المحلية، وما تحمله من مخاطر التفتيت والابتعاد عن الثقافة الأم، إلا أن علماء الاجتماع والمشتغلين في البحث الاجتماعي يؤشرون إلى وجود خصوصية ثقافية للمجتمعات المختلفة، وإن تشابهت في منطلقاتها الكبرى ثقافياً. الخليج ليس استنثاء في هذا حيث يتميز (بنمط ثقافي خاص) يقارب بين بلدانه ليس في الراهن فقط بل تاريخياً أيضاً، وهو ما تحدث عنه في الملتقى الباحث الدكتور حمد بن صراي الذي قدم رؤية ثقافية للتاريخ القديم لمنطقة الخليج العربي رأى فيها أن منطقة الخليج في كل العصور والأحداث التاريخية التي مرت بها ظلت تعيش نوعاً من «الوحدة الثقافية والهوية الخليجية» لم تمنعها من الانفتاح على الآخر حتى في حالات الصراع أو التجاذبات السياسية، كما حدث مع الساسانيين، «فرغم الصراع بين العرب والساسانيين إلا أنه حدثت بين الطرفين تجاذبات إيجابية أدت إلى التعاون في مجالات التجارة والملاحة والأسواق والإدارة»، ورأى د. بن صراي أن «هذه الحقبة تحديداً هي حقبة التميز الثقافي العربي في ميادين المجتمع والمدن والأدب والشعر». أما ورقة الباحث السعودي الدكتور محمد صالح «رؤية ثقافية للتاريخ المعاصر للخليج»، فنبهت إلى أهمية الوثيقة بكل أشكالها في الإضاءة على التاريخ الثقافي للمنطقة. فالوثائق، وإن بدت بعيدة أحياناً عن التنظير المباشر لكتابة التاريخ الثقافي للمنطقة، تلقي الضوء على الأحداث السياسية وغالباً ما تترك أثراً على الواقع المجتمعي والثقافي، لأن المستعمر (بكسر الميم) غالباً ما يترك آثاره في ثقافة وحياة المستعمر (بفتح الميم)، ولو على سبيل (ولع المغلوب بتقليد الغالب) على حد تعبير ابن خلدون. هذا النوع من البحث التاريخي يثير في الغالب الأعم أسئلة ذات بعد تاريخي وعصري في الآن نفسه، فهي أبحاث (تنبش) في الذاكرة الثقافية للمنطقة، وربما تعود بالأسئلة إلى مراحل بعيدة في التاريخ، فضلاً عن إضاءة علاقة هذه الهوية بالهويات المجاورة، علاوة على تملكه «النقوش والعملات والأختام والكتابات القديمة» من موثوقية لدى الباحثين. الخليج والإسلام يشكل البحث في تاريخ الخليج الثقافي من دون الإسلام نوعاً من (العمى العلمي)، بل ويصبح في هذه الحال أشبه بضربة فرشاة واحدة في لوحة مليئة بالألوان، خاصة وأن الإسلام هو اللون الأكثر بروزاً ووضوحاً فيها، فالجزيرة العربية بوصفها مهد الإسلام اصطبغت بهذا الدين وترك الأثر الأكبر والأكثر اتساعاً وعمقاً في حياتها وثقافتها. من هنا، خصص الملتقى محوراً للبحث في أثر الإسلام أو الرسالة المحمدية في منطقة الخليج، تحدث فيه الباحث الدكتور عمر صالح بن عمر متناولاً هذه الآثار العميقة روحياً وأخلاقياً من جهة، وعقلياً ومادياً من جهة أخرى، ولعل أبرز ما قاله في هذا الصدد أن «الرسالة المحمدية وازنت بين الجانب الروحي والأخلاقي وبين الجانب العقلي المادي في سبيل الارتقاء بالإنسان والمجتمعات والشعوب إلى أعلى درجات التمدن والتحضر وأن استقراء التاريخ الحضاري للأمة وقراءة الواقع بموضوعية يدل على ان التخلف والوهن الحضاري إنما هو نتيجة للانسلاخ عن القيم الإسلامية أو المغالاة في التعامل معها وليس بسبب الالتزام بها على الوجه المشروع». وخلص د. بن عمر إلى «ضرورة التأكيد على التعاون بين مختلف الشعوب، تعاوناً قائماً على الاحترام المتبادل مع مراعاة خصوصية كل شعب، وقيد هذا التعاون «في ما يتم الاتفاق عليه، وتجنب نقاط الاختلاف مع مراعاة الضوابط الشرعية». كما اقترح نشر ثقافة التسامح بين الناس في مختلف وسائل الإعلام وفي المدارس والمساجد، وتدريس ثقافة السلام في المؤسسات التعليمية، وتربية الأبناء على احترام الآخر ما لم يتعد على حقوقنا ومقدساتنا»، داعياً إلى «عولمة ثقافة السلام عبر وسائل الإعلام المختلفة، وتوعية الناس بأهمية السلام ونبذ الكراهية». إلى هنا، يبدو الأمر مفهوماً طالما أن الحديث يخص الشق التاريخي، لكن المعضلة والإشكالات تبدأ عندما نتحدث عن الإسلام والعصر، عن القيم الإسلامية وعلاقتها بالفهم والتطبيق، وهذا ما تصدى له الباحث الدكتور كمال عبد اللطيف الذي قدم رؤية تقدمية، نقدية، لطريقتنا في التعاطي مع القيم الإسلامية في علاقتها بالعصر. منطلقاً من هذه الرؤية عالج د. عبد اللطيف ثلاث مستويات في النظر إلى ظهور وتبلور الرسالة الإسلامية؛ أولها: أن «الإسلام هو مجموع القيم الدينية والأخلاقية والوجودية التي يستوعبها نص القرآن ويتم النظر إليها في الغالب باعتبارها تملك قدرة على تجاوز الزمان والمكان»، والثاني: «يتمثل في الممارسة التاريخية للإسلام والمحددة في المؤسسات والتشريعات والأحكام التي نشأت وتطورت في تاريخ الإسلام والمسلمين»، والثالث: «يتعلق بالفرد والأفراد وقدرتهم على الإيمان بواسطة استبطانهم للقيم والمبادئ الدينية». وربط في بحثه بين القيم الدينية المطلقة (المستوى الأول)، والقيم الإسلامية في التاريخ خاصة في أحكامها السياسية والتاريخية (المستوى الثاني)، بينما ترك المستوى الثالث المتعلق بالإيمان الفردي بحكم أنه مسألة ذاتية وخاصة، مع الدعوة إلى «إعادة استنطاق مفهوم الروحانية وما يدور في فلكه من مفاهيم وإشكالات، انطلاقاً من تصور إيجابي يرى أن المفاهيم والقيم ليست جواهر خالدة، وإنما هي قضايا تخضع لضرورات الزمان في صيرورته التاريخية». ولعل أهم ما في هذا المحور أنه أثار جدلاً واسعاً بين المنتدين والحضور ليس بسبب جدته، فكثيره هي البحوث التي طرحت مثل هذه المفاهيم، بل ربما لجرأته وحساسيته العالية في تناول الموضوع الإسلامي من دون «التوهان» في متاهات إرضاء الغرب أو «اللهاث» وراءها. إذ أننا هنا أمام باحث رصين هدفه تطوير «الفهم» المتعلق بهذه القيم، وجعلها أكثر مرونة في التعامل مع واقع القيم السائدة في هذا العصر بما لا يجرح «قداسة النصوص» وتماهياً مع اجتهادات سابقة شهدتها الثقافة الإسلامية. العولمة وتحدياتها هذه واحدة من أهم الإشكاليات التي بدأ الحديث عنها مع ظهور العولمة، وأخذت صيغاً شتى في المعالجة والتوصيف، إلا أنها غالباً ما تذهب إلى قضايا الهوية الثقافية وثرائها أو اضمحلالها وما تعيشه من تحديات معاصرة في مواجهة التنميط الذي تمارسه العولمة وآلياتها الفكرية والإعلامية على البشر. بالطبع، تأتي (الثقافة الخليجية) كواحدة من هذه الثقافات الفرعية أو المحلية، وتتعرض لما تتعرض له مثيلاتها من مخاطر، وقد وجدت مكاناً لها في جلسات الملتقى. في هذا السياق، جاءت ورقة الباحث الدكتور يوسف الحسن، الذي وجد في حكاية قبيلة هندية حمراء هي قبيلة الغراب التي (ماتت ثقافياً وحياتياً)، نموذجاً على أنه «لا يوجد حل سحري يضمن سلامة الثقافات المهددة، خاصة حينما تكون رخوة أو «مضبوعة». في المقابل، يقدم النموذج الفرنسي دليلاً على مشروعية الدفاع عن الذات والهوية، ففرنسا، بتعبير الحسن «لم تكن دولة محافظة أو «رجعية» حينما دافعت بقوة وشراسة عن ثقافتها ولغتها تحت شعار (الاستثناء الثقافي أو الخصوصية الثقافية الوطنية)، مستمسكة بحقوقها الثقافية في وجه منظمة التجارة العالمية، وأمام تدفق المنتوج الثقافي المعولم». غير أن الأمور لا تحدث هكذا دائماً، وإن كان التاريخ يوفر للباحثين شواهد كثيرة على (صمود) الثقافات المحلية في مناطق شتى من العالم، لهذا حذر الحسن من خطورة الركون إلى مقولة «الثقافة غير قابلة للاختراق أو أنها صمّام الأمان الأخير لدى الشعوب المستهدفة من النظام العولمي الجديد»، ورأى أن هذا الارتياح والاطمئنان العربي إلى (صمود) الثقافة العربية و(بقاء الثوابت الثقافية) غير مبرر، لأن «القوى التي أنجزت الثورة المعلوماتية والإعلامية، هي نفسها التي تحتكر إنتاج القيَم الثقافية المعولمة، ونظم تسويقها وتوزيعها، في حين أننا كعرب مجرد مستهلكين لما تضخه من انسياق قيم ومعايير ذوق أو جمال أو مسلك، تذهب بعيداً في تأثيراتها إلى العمق من النسيج الاجتماعي لأجيال جديدة». كما صاحبت سطوة «الثقافة العولمية» محاولات لتفكيك بنية ما يسمّى بـ «الثوابت الثقافية»، ناهيك عن أن الشكل الجديد للحداثة، يتميّز عن الحداثة السابقة التي خبرها العالم العربي مع الاستعمار، بأن «إيقاع الضغوط أكثر تسارعاً، وأكثر سطوة، وتأثيراتها أعمق نفاذاً وأقدر على إحداث تغييرات بنيوية لكونها (العولمة) مسلحة بأحدث طاقة تكنولوجية وعلمية وإعلامية واقتصادية، فضلاً عن سلطان الصورة المعولمة الزاحفة عبر الفضاء، وهي ميسرة في كل الأوقات والأمكنة، ورخيصة». يقابل كل هذه القوة، حالة شرخ عمودي، وخلخلة كبيرة، ودفاعات ضعيفة في النسيج الاجتماعي والثقافي، وحالة من اختلال التوازن، وغياب المشروع الثقافي الحضاري الجامع. وبروز حالة ضمور وترهّل في مراكز البحث والإبداع والعلم والثقافة، وتداعيات «تسليع» الثقافة، وجعلها مقترنة بمفهوم السلعة التجارية. علاوة على أن الممانعة حتى الآن، لمثل هذه الثقافة العولمية، لم تتجاوز حدود (الانطواء)، كشكل من أشكال مقاومة التذويب، وقد اتخذ هذا الانطواء عدة أشكال لإثبات الاختلاف عن الآخر العولمي، من بينها الدفاع السلبي عن النفس، من خلال الانكفاء إلى الماضي». اللحظة الخليجية إذا كان الحسن قارب العلاقة بين الثقافة العربية والعولمة، فإن الباحث الدكتور عبد الخالق عبد الله، أضاف إليهما العلاقة بين الثقافة الخليجية والثقافة العربية والعولمة، طارحاً عدة تساؤلات حول مستجدات الفكر والثقافة في الخليج، هذا الجزء الحيوي من الوطن العربي الذي يعيش تحولات حياتية وقيمية وسلوكية تأسيسية ومستمرة على مدى العقود الثلاثة الماضية. فهو، حسب د. عبد اللـه، «الأكثر ازدهاراً اقتصادياً والأكثر استقراراً سياسياً والأكثر اعتدالاً فكرياً وعقائدياً». وفي التفاصيل، ذكر د. عبد الـله، أن «اقتصادات الخليج العربي هي الأسرع نمواً وعولمة وحيوية. والمجتمعات العربية الخليجية هي الأكثر انفتاحاً على النظام العالمي المعاصر. كما أن لدى دول الخليج العربي طموح للقيام بدور تنويري والمساهمة في إحياء المشروع النهضوي العربي الذي طال انتظاره». لكن ماذا يعني ذلك؟ يستخلص الباحث مما سبق أن «جميع مرتكزات المعرفة تشير إلى أن الخليج العربي هو الجزء الأكثر استعداداً لقيام مجتمع المعرفة في المنطقة العربية. كما أن المشهد الثقافي الخليجي أصبح مؤخراً يعج بالنشاطات الفكرية والمبادرات الأدبية والبرامج الفنية على مدار السنة». هذه المعطيات جميعها، تطرح السؤال حول ما إذا كان الخليج العربي يعيش لحظته في التاريخ العربي من جديد وهل يمكن لهذه المنطقة أن تستعيد بريقها التنويري وتعيش لحظة فكرية وإبداعية جديدة، وتؤسس لمرحلة مختلفة في التاريخ العربي وتساهم في ولادة المشروع النهضوي في المنطقة العربية؟ ثم ما هي سمات هذه اللحظة؟ وما هي انعكاساتها الثقافية والفكرية القريبة والبعيدة؟ وهل ستساهم هذه المستجدات في تحويل الخليج العربي الى مركز الثقل الثقافي العربي الجديد بعد أن تحول الى مركز الثقل الاقتصادي بدون منافس في المنطقة العربية، أم أن مصير هذا الجزء النشط من الوطن العربي أن يظل عملاقاً اقتصادياً وقزماً ثقافياً؟». الثقافة والإعلام إلى جانب العلاقة الإشكالية بين الثقافة والإعلام، يثير هذان المصطلحان الكثير من اللغط المفاهيمي في العادة، حيث تتعدد تعريفات الثقافة وتتشعب، ما حدا بالدكتور حسن مدن الى استخدام تعريف بعينه للثقافة «بوصفها تلك المظلة الواسعة التي تتسع للتعبيرات الأدبية والفنية والمفاهيم وأشكال العيش والرموز المتعددة التي تميز شعباً عن شعب آخر». أما عن «الإعلام» فوجد مدن أن الحديث عنه باعتباره «مجرد موصل أو ناقل للثقافة، يعطي، ولو في حدود معينة، صك براءة للإعلام لأنه إنما ينقل ما هو متيسر في المجتمع من ثقافة، فهو لا يصنعها وإنما يوصلها فقط». ولاحظ د. مدن حقيقة أن «الإعلام نمط من الثقافة، أو للدقة يقدم الثقافة الخاصة به إلى الجمهور، الثقافة التي تلائم طبيعته، وهي طبيعة جرى تكريسها على أنها ثقافة الترفيه والتسلية، ورغم أن المعرفة ليست نقيض التسلية بالضرورة، إلا أن الرأي استقر على أن مهمة التلفزيون هو أن يُسلي وأن ينأى عن المادة الدسمة التي تتطلب تركيزاً ذهنياً، وبالتالي فإنه، من حيث أردنا أو لم نرد، ساهم في خلق نوع من «الثقافة «الشعبوية» الخفيفة، والاستهلاكية، أو ما بات يطلق عليه في دراسات علم الاجتماع الثقافي تعبير الثقافة الجماهيرية». مؤكداً أنها ظاهرة عربية وعالمية ولا تخص البلدان الخليجية، تحدث مدن عن تعايش الثقافتين التقليدية والحديثة في مجتمعات الخليج والجزيرة العربية، مما خلق حالا من التضاد وأحيانا الصراع الحاد بين الجديد والقديم في الثقافة بفعل الصدمة الناجمة عن احتكاك المجتمعات التقليدية التي عانت من العزلة بالمؤثرات الخارجية وتحت ضغط حاجات التطور الاجتماعي والثقافي الداخلي ودينامياته. وبعد عرض تاريخي وتحليلي مفصل لأسباب العزلة التي عانت منها منطقة الخليج وآثارها، والتي شكلت «الطفرة الاجتماعية الاقتصادية التي جاءت مع النفط، اختراقاً حقيقياً لها، تحدث د. مدن عن «آثار سلبية» و»انقلاب قيمي» نجم عنه تصدع في منظومة القيم، و«شيوع» نمط انتاج جديد جلب معه ثقافةً استهلاكية تتوسل السهولة والاسترخاء والاتكالية»، و»صورة سلبية عن المجتمعات الخليجية جرى تصديرها مع الوقت، بوصفها مجتمعات نشأت مع اكتشاف النفط، فيما الدراسة التاريخية تشير إلى وجود نماذج ثرية ومتعددة في حقول الثقافة والحرف والأشعار وغيرها مما يلخص الخبرة الشعبية المديدة في الفترة السابقة لاكتشاف النفط». أما عن الحداثة، فقد أفرز الانفتاح على التجارب الإبداعية العربية، ودينامية التحولات الاقتصادية والاجتماعية، مظاهر ثقافة وإبداع حداثية في مجالات القصة القصيرة والقصيدة وحتى الرواية، إضافة إلى بزوغ أشكال تعبير في الفنون الحديثة، كالتشكيل والمسرح وحتى السينما». وفي الإجمال، يوضح د. مدن، أن «المدن الحديثة التي قامت في الخليج، في انكشافها على العالم الذي وحدته قسراً آليات العولمة، زجت بهذه المنطقة وأبنائها الذين باتوا أشبه بالجزر الصغيرة وسط طوفان من أنماط الثقافة والسلوك والتفكير في لجة العولمة، التي تفكك بدأب ماهر الثقافة التقليدية، ويمكن القول، إلى حد ما، الثقافة الوطنية». وأبدى د. مدن تحفظه على الطريقة التي يجري بها الحديث عن (الثقافة الخليجية) وما يحمله من نظرة فوقية الى الآخرين أحياناً، وألمح إلى أن الحداثة في الخليج لم تأخذ فرصتها الطبيعية في التبلور بحيث تترسخ ثقافة القراءة أو الكتابة، بل ذهبت مباشرة من الثقافة الشفاهية القديمة إلى ثقافة شفاهية معاصرة تمثلت في التلفزيون الذي استخدم غالباً لتجديد مظاهر الثقافة التقليدية التي نالت اهتماما أوسع وأكبر بكثير مما تناله مظاهر الثقافة الجديدة، التي يتعين عليها في حالات كثير العمل على تثبيت مشروعيتها، كتعبير عن تحولات حديثة راهنة ومستقبلية. منطلقاً من أن الإعلام الخليجي ظاهرة عربية، يلاحظ د. مدن «التأثير الخليجي الحاسم في ملكية وتوجهات أجهزة هذا الإعلام سواء المرئي أو المقروء». ويتساءل: أي مدى أدت هذه النهضة الإعلامية عامةً في النهوض بالوضع الثقافي، وأسهمت في تقديم الخدمة الثقافية المنتظرة منها؟ وبعد تحليل واسع لماهية الثقافة السائدة في العالم المعاصر وأسباب شيوع واكتساح الثقافة الأميركية لحياة الناس والمجتمعات يخلص مدن إلى أن «هذا الانفجار الإعلامي الواسع، لا يمكن له إلا أن يضع متطلبات الاستثمار والسوق، بالاعتماد على الإعلان مصدراً رئيسيا لتحقيق الأرباح، والسعي لاستقطاب المشاهدين والمتلقين عن طريق البرامج الترفيهية والغنائية والرياضية ذات التأثير الواسع. وعليه، لا يمكن أن ننتظر من محطات خاصة قائمة على مفهوم الربحية والنظر إلى الإعلام بوصفه حقلاً استثمارياً بامتياز، أن تقدم المنتوج الثقافي أو نماذج الثقافة الرفيعة، فمثل هذه المهام مناطة بإعلام موجه من الدول، إذا كانت هذه الدول تملك استراتيجيات للتنمية الثقافية، وهذا هو السؤال الكبير». الإسهام العربي في الحضارة العالمية لم يغب عن فعاليات الملتقى ابن ماجد.. مثقف كوني قدم للمعرفة الغربية خدمات جليلة لم يغب الإسهام العربي في الحضارة العالمية عن فعاليات الملتقى، وقد تمثل ذلك في ما قدمه عالم البحار شهاب الدين أحمد بن ماجد الذي حظي بـ 3 بحوث في الملتقى ساهم بها الباحثون: الدكتور أحمد جلال التدمري، والدكتور طارق نافع الحمداني، والدكتور عمر عبد العزيز، بالإضافة إلى معرض خاص بمؤلفاته ومبتكراته العلمية. تتبعت دراسة د. التدمري ما قدمه ابن ماجد للبشرية وللحضارة الإنسانية سواء في مجال الملاحة أو الفلك والمناخ والأنواء، وابتكاراته المتعددة على هذا الصعيد. وظهر ابن ماجد في هذه الدراسة عالماً جليلاً، وعارفاً واسع الاطلاع، ورجل دين تقيّ، وأبرز الباحث مؤلفاته وأراجيزه وكتبه الكثيرة (كتب ابن ماجد نحو 40 مؤلفاً في علوم البحر والفلك أشهرها كتاب الفوائد في علم البحر والقواعد)، بالإضافة إلى اختراعاته وابتكاراته الكثيرة، وما كتبه عنه العلماء والمستشرقون، ومنهم علماء الملاحة والفلك والجغرافيون اليابانيون والصينيون والفلبينيون والأندونيسيون والهنود، وكذلك علماء آسيا الوسطى وتركيا وروسيا وأوروبا، وقد نال هذا الجزء اهتماماً واسعاً من التدمري وعرض له بالتفصيل. وما يعنينا في هذا المجال أن ابن ماجد يقدم في حياته وسيرته أنموذجاً على التفاعل العلمي والثقافي الذي يمكن أن ينجز بين الشرق والغرب، وهو الموضوع الذي حظي باهتمام الباحث الدكتور طارق نافع الحمداني الذي ناقش في بحثه آفاق التعاون العلمي بين الاستشراق الغربي والمعرفة العربية متخذاً من ابن ماجد أنموذجاً، مستعرضاً جهود المستشرقين منوهاً إلى بعض الأخطاء الأساسية فيها، مقترحاً في النهاية عدة أمور لتفعيل هذا التعاون. وبعيداً عن الاسم والنسب والتفاصيل التاريخية الكثيرة التي أوردها د. عمر عبد العزيز في بحثه الذي تقصى حضور ابن ماجد في المشهد الثقافي الإماراتي، رسم الباحث صورة فكرية شبه شاملة توضح أهمية الرجل في الفترة التاريخية التي عاش فيها (القرن الخامس عشر الهجري)، ورأى فيه مثقفاً كونياً وترميزاً مُكثفاً للمعارف الإسلامية في علوم الآلة والرصد والفلك والرياضيات، والتي شكلت مصدراً كبيراً لتغذية التوق الأوروبي المتصاعد للاستكشاف والتمدد. وناقش د. عبد العزيز ما يقال عن تعاون ابن ماجد مع فاسكو دي جاما، مفنداً خطأ تلك المعلومة بالاستناد إلى عدد من القرائن التاريخية، لعل أهمها أن اقتسام النفوذ البحري بين مدريد ولشبونة، قد تم فعلياً قبل أربع سنوات من المساعدة (الافتراضية) التي قدمها بن ماجد لفاسكو دي جاما، ومتكئاً على كتاب صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي على عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة الذي ردَّ على هذه المزاعم في كتابه «بيان للمؤرخين الأماجد في براءة بن ماجد»، حيث أوضح سموه أن فاسكو دي جاما استفاد من المرشد البحري الغجراتي. مضيئاً على مؤلفاته وأهميتها انتقل د. عبد العزيز إلى حضور ابن ماجد في المشهد الثقافي الإماراتي، ورأى أن ابن ماجد حضر بسخاء في الآداب الإماراتية، سواء بطريقة مباشرة أو بغير مباشرة، موضحاً كيف أن هذا الأثر يمتد إلى طبيعة المكان وجغرافيته وتاريخه، أما الآثار المباشرة فتتمثل في كتاب الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، ومقاربة الباحث عبد الـله الطابور لهذه الشخصية، وأما الآثار غير المباشرة فتظهر في كتابات الأدباء والباحثين في علوم البحار ممن أشاروا في أفق ما إلى ذات الرؤى والمباحث التي شكلت هاجساً دائماً في حياة العالم البحار والشاعر ابن ماجد، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: «مجهول البحر ومعلومه» لعبد العزيز جاسم، و»عجائب الهند لعبد الـله الحبشي»، و»ابن ماجد يحاكم متهميه» وهو نص مسرحي للروائي علي أبو الريش، وقامت أغلب الدوريات الثقافية الإماراتية والعربية بتخليد ذكره والبحث في تراثه، ووثقت مراكز الدراسات والتوثيق آدابه المكتوبة. وخلص د. عبد العزيز إلى أن «الحياة الزاخرة لـ ابن ماجد وضعته في قلب معادلات دائمة للتّحول والتّمرس على الآداب والفنون والمعارف، وكانت رحلاته البحرية وإقاماته الممتدة في أكثر من مكان سبباً إضافياً لمعارفه التي تجاوزت الأوصاف والتدوين، إلى التلاقح الحي مع أنساق مختلفة من الثقافات الإنسانية، فقد تولّى عدة مناصب في شرق افريقيا، حيث اختاره والي «سفالة» هادياً ومرشداً لسفنه وأسفاره، كما تولى منصب حاكم جزيرة سقطرة، فيما أتقن بن ماجد اللغات السواحلية والفارسية والجاوية والتاميلية، مما يؤشر إلى مثقف كوني بحق».
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©