الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عندما يرى الأعمى العتمة

عندما يرى الأعمى العتمة
11 يونيو 2009 02:47
يتحسس أربعة شبان في العتمة المسدلة على المسرح في جنوب قطاع غزة طريقهم إلى خشبته من بين الجمهور الذي لم يكن يدرك أن ثمة مفاجأة صادمة تنتظره، أقعدته بعد انتهاء عرض «حارة العميان» الذي استمر 17 دقيقة فقط خمس دقائق أخرى ينتظر بداية العرض بصمت معبد بالسواد المعبق بحزن أسطوري. أخذ كل منهم يتلمس طريقه بذراع الآخر ويشكلون لوحة فنية متشابكة، لتأتي حالة التوهان فيتفرقون، كل واحد يختلي بذاته ويسقط شجونها على تعابير وعبارات استثمروها بدقة متناهية في رصف طرقهم الموصومة بتضاريس جغرافية شائكة تشكلها ألوان مختلفة قلما يجمعها صوت موحد. في منتصف المسرح يتحرك أحدهم «انا شايف عتمة... ودوائر... زي لمّا الواحد يغمّض عينيه وميبقاش نفسو يشوف اشي.. زي المفتحين يعني» ويرد عليه الآخر «أنا شايف احساسي... وحاسس اللي بأشوفه.. كأني طاير.. أو إنو غيمة مخداني لفوق فوق.. كل شي واضح.. وصافي.. سمعين». الحديث عن الدوائر والعتمة هو البحث عن الذات التي لا تدرك اليوم طريقها ولا تعرف كيف تشقها وسط دوائر تنمو وتخبو، وتنمو وتخبو، كدوائر الضوء بمحركات شتى مرة بالعولمة وأخرى بالفوضى. والغيمة فيها بصيص من الأمل لا يجده الشباب الفلسطيني الا في أحلامهم وهو ما عبر عنه أحدهم في رده على آخر يقترح أن يتخيلوا «وأنتا ايش بتعمل غير أنك بتتخيل.. بدك تسبح بتتخيل.. اذا بدك تركب سيارة بتتخيل.. اذا بدك تشتغل بتتخيل.. كل شي بتتخيّل». هذا الإحساس بالقهر والظلم والهروب الى الأحلام وهي الرئة التي يتنفس منها الشباب في غزتهم المحاصرة حين غدا كل شيء سرابا امامهم فيرسمون على خيوط واهنة كخيوط العنكبوت الطريق الى الجامعة والدواء والعلاج والوظيفة التي تصدمها مؤثرات شتى فتنثرها احباطا ويأسا ومللا. وتتجلى التراجيديا يوم يخرج صوت أحدهم بإيقاعه الحزين «كلكوا بتنسوني.. بتروحوا وبتخلوني لحالي.. وأنا بأخاف.. بأصير أحكي مع غزال.. هي الوحيدة اللي بتسمعني.. وهي... محدش بيهتم فيّ.. بيسكروا الغرفة عليّ.. وبيروحوا.. بيخجلوا مني كأني بقعة حبر على قمصانهم البيضا.. بيروحوا وبأضل لحالي.. وبيجوا وبأضل لحالي.. كل اشي لحالي»! هذا المونولوج الدرامي الحزين للممثل عبدالفتاح شحادة وهو يحتضن «غزال عروس من القماش» ما تبقى من حلمه الملموس في عالمه الخيالي بينما يتخلى الجميع عنه منصرفين للقاءاتهم العبثية مع الآخر ويحلمون بالسلام بين اصوات الرصاص ومن رائحة أجساد الأطفال الغضة وروائح القصف وصراعهم المرير مع ذواتهم ومع خصومهم الأخ والصديق. استخدام الإضاءة الخافتة بالمسرح عيشتنا بتفاصيل الغرف المغلقة لهؤلاء العميان، فتتباطأ بحجم ما ترى وجوه الشبان الأربعة فيما يغرق الجمهور الشاب نحن في ذاته ويتلمس همومه الصغيرة والكبيرة ويتحسس أقدامه التي سارت مئات الأمتار لتصل لخشبة المسرح، لتضعهم المسرحية في خندق مواجهة مراياهم المتكسرة فتنتعش الأسئلة الصادمة كوخز الدبابيس في جلد رؤوسهم إلى متى والى اين تسير بنا القطارات وأي مستقبل ينتظرنا؟ كاتبا النص الشابان يوسف القدرة وشحادة استثمرا الكوميديا السوداء لعكس الواقع المتعثر بتعثر خطوات الشباب الأربعة على خشبة المسرح في البحث عن خلاص وعن المستقبل بشكل ساخط ممسوح بالإيقاع التراجيدي. والمسرحية على الرغم من قصرها والقائمة على المونولوج والحوار مع الآخرين بينما غابت أي ديكورات أخرى، لها من الدلالات التي لا تعد ولا تحصى في عرض معاناتهم ونقضهم لواقعهم القائم على العيش في الأحلام والحرمان من كل شيء حولهم من رؤية الألوان والاحتفاظ بعطر الحبيبة والضوء. ويمثل الشاب الخامس دور الوحش الذي يرمزون به للظلم الاجتماعي الواقع عليهم ليحرف بوصلة أحلامهم باتجاه البحث عنه فيما بينهم لتشتعل توجساتهم والشك ويفسد عليهم لحظات تجمعهم وتشابكهم. «حارة العميان» تغوص في ذاتية الشباب الفلسطيني وتتحدث بصوت صارخ عن همومه وآلامه وعلامات الاستفهام كثيرة تنتصب كحواجز في طريقة حول المصير والمستقبل ولون الهوية المقبلة صفراء أم خضراء أم حمراء وهي تبحث عن المنقذ الذي يفترض أن يصحح مسارهم الفكري والاجتماعي والسياسي. والذي ضاع وسط أبعاد قضيتهم المعقدة والشائكة، التي وقعت تحت سياط السياسة والتدخلات والفلتان والفوضى الخلاقة. ويقول الشاب عبد الفتاح شحادة الشاعر وكاتب النص بأن «توظيف شخصية الأعمى في العمل الدرامي المسرحي في إطار الحديث عن الظلم الاجتماعي الذي يعيشه الشباب الفلسطيني خاصة موضحًا أن الفكرة لا تستهدف العمى بحد ذاته بقدر ما تستخدم السمات الشخصية لهذه الشخصية في العمل». مشيرًا إلى أن الدراما العربية بشكل عام والفلسطينية بشكل خاص استخدمتا شخصية الأعمى في أكثر من موضع وفي الأخيرة تم استخدام الشخصية في مسرحية «الجدار» للمخرج المسرحي نعيم نصر والذي يرمز بها لظلم «الاحتلال الإسرائيلي» للفلسطينيين. وذكر شحادة ان العمل يأتي في إطار مشروع تفعيل الحركة المسرحية في قطاع غزة وأضاف بانه ومجموعة من الشباب أخذوا على عاتقهم تفعيل الحركة المسرحية وايصال رسائل شتى للمجتمع والسياسيين حول معاناة الشباب، مؤكدًا ان الاحساس بالتذوق الفني لأشكال الفنون بغزة بدأت تتلاشى خاصة بعد احتدام السجال السياسي على المسرح الكبير المغلق بغزة مشيرًا ان ابا الفنون يلفظ انفاسه بغزة وبحاجة لمن ينعشه ويعيد له الحياة مستشهدا ان العام الماضي شهد فقط 4 أعمال مسرحية قدمت للجمهور . ويعيش الشباب الفلسطيني الذي يشكل أكثر من نصف المجتمع في غزة واقعًا صعبًا لا يحسدون عليه ابرز ملامحه الحصار بتفاصيله الكبيرة والصغيرة والصراع الفصائلي، وقد وصلت فيه معدلات البطالة في صفوفهم إلى أكثر من 70% والفقر وصل معدلات غير مسبوقة ، فيما ينعكس ذلك بثقله على وضعهم النفسي وعلى تطلعاتهم المستقبلية وطموحاتهم في مواصلة تعليمهم وبناء حياتهم الاجتماعية، بعد أن وجد نحو 41% ـ بحسب الإحصائيات ـ من أن الهجرة اذا ما سمحت ظروف المعابر هي الحل الوحيد لتحقيق أحلامهم المحاصرة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©