الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

كمبوديا··· حرة مرة أخرى!

كمبوديا··· حرة مرة أخرى!
3 مايو 2008 01:36
يحتفل الكمبوديون وبوذيون آخرون في العالم من طائفة ''تيرفادا'' بعامهم الجديد في منتصف شهر أبريل، وهو أمر لم يكن باستطاعتهم دائما القيام به، ففي عهد الخمير الحمر والحكم الفيتنامي، كانت هذه التقاليد العريقة ممنوعة، أما اليوم، فإن كمبوديا حرة مرة أخرى والاحتفالات ممكنة، فبينما أتجول في البلد الذي أمضيت فيه فترة شبابي، أرى الناس يمضون العطلة الطويلة في الصلاة في المعابد وزيارة الأقارب· لقد كان من تقاليد عائلتي أن تجتمع في الثالث عشر من أبريل من كل سنة للاحتفال بالسنة الجديدة وعيد ميلاد أمي، غير أنه في 1975 لم يكن يخطر على بال أحدنا أبدا أنها ستكون المرة الأخيرة التي يجتمع فيها شمل العائلة، حيث كنا حينها جميعا قلقين من المستقبل، وكانت أمي متوترة لأن عمليات الإجلاء الأميركية فاتتني، فقبل يوم واحد منها، كان مسؤول من ''وكالة التنمية الدولية'' الأميركية قد أخبرني بأن عليّ أن أكون في السفارة في غضون ساعة إن كنتُ أرغب في إجلائي من كمبوديا (كنت مديرا مع وكالة الغوث الأميركية ''كير'' وكنت قد اختِرت للاستفادة من الإجلاء)، ولكنني بدلا من ذلك، قررت الذهاب لحضور اجتماع حول كيفية مساعدة 3000 عائلة عالقة في أحد الأقاليم المعزولة حيث قلت في نفسي حينها: ''ربما أستطيع حضور الاجتماع والوصول إلى السفارة في الموعد''· ولكن بينما كنت في طريقي إلى ''فنوم بين''، كانت حركة المرور بطيئة والشوارع مزدحمة بآلاف الأشخاص الذين يستقلون العربات التي تجرها الثيران والدراجات، والتي كانت تشق طريقها بصعوبة نحو العاصمة طلبا للملاذ والأمن، عندما وصلت أخيرا إلى السفارة الأميركية وأعطيت اسمي لضابط الأمن هناك، نظر إليّ مستغربا وقال: ''إنهم لن يعودوا، لقد ذهبوا''·· ''لقد انتهت الحرب، سننعم بالسلام!''· في صمت قصدتُ ضفة النهر، ونظرت إلى الأفق لأرى ما إن كنت أستطيع إبصار طائرات مروحية تحلق، كانت السماء زرقاء صافية، ولكنني لم أر شيئا، وبعد سنوات، اكتشفتُ أنني كنت أنظر في الاتجاه الخطأ، ذلك أن الطائرات كانت قد حلقت غربا تجاه خليج التايلاند، في حين أنني كنت أنظر نحو الشرق، كنت قد جئت متأخرا عن الموعد بنحو ثلاثين دقيقة، ولكن حياتي كانت على وشك التغيير للأبد· كان الجميع في المدينة في مزاج حزين، صلينا من أجل أن يعود بلدُنا الحبيب إلى الحياة الآمنة والمستقرة التي كنا ننعم بها في الستينيات، وكنا نتساءل: ماذا سيحل بنا الآن وقد أغلقت الولايات المتحدة سفارتها؟ بعد خمسة أيام -في السابع عشر من أبريل- توقفتُ عند مطعم على الشارع لتناول وجبة ''نودلز''، تسلم النادل طلبي بلغة ''الخمير'' ولكنه صاح باللغة ''الكنتونية'' حتى يُسمع في المطبخ: ''صحن ''نودلز'' بدون نكهة صناعية وبدون دسم، وشاي ساخن للشاب النحيف الذي يرتدي النظارات، الذي يجلس إلى الطاولة 13!''، وصل الطعام في أقل من ثلاث دقائق، ولم أكن أعلم أن ذلك سيكون آخر فطور حقيقي لي في كمبوديا· كنت قد قرأت أشياء رهيبة من قبل عن الفظاعات التي ارتكبها الخمير الحمر ضد أعداء ثورتهم، رضع يُرمون في الهواء ويتم التقاطهم برماح البنادق، أطفال يُضربون مع الشجر، قرويون يذبحون بسعف النخيل الحاد والشائك، تجار يُضربون بالجاروف حتى الموت، ولكنني لم أكن أصدقها· كان الشارع يغص بسكان المدينة، بعضهم كان ما يزال مرتديا ملابس النوم، بل إن أحدهم كان منهمكا في غسل أسنانه بالفرشاة، ولكن أعناقهم جميعا كانت مشرئبة إلى الشمال، ينتظرون شيئا ما والخوف بادٍ على وجوههم؛ أمضيـــت اليوم كله في غرفــــة طوارئ مؤقتـــة في فندق ''لو غويال'' أقـــوم بمـــا أستطيع القيــــام به من أجل المساعدة قبل أن أخرج لأتنفس بعض الهواء النقي وأرى الخمير الحمر يُستقبلون بالتأهيل والترحــاب، وبدا أن الناس سعداء حقا لأن الحرب وضعت أوزارها· في وقت لاحق من ذاك اليوم -أول يوم من أيام ''السلام''- غادرت رفقة 15 من أفراد عائلتي منزلنا بعد أن أمر الخمير الحمر بإخلاء جميع المدن على الفور، فمشينا إلى ''بوتشينتونغ'' -وهي المدينة التي وُلدت فيها وأشقائي- حيث كان منزلنا قد احتل من قبل غرباء، فلجأنا إلى المعبد، غير أن الرهبان كانوا قد غادروه، وكانت الجثث ملقاة متناثرة في المكان، وكانت أمي تبكي، وكانت النساء والفتيات في أسرتي يقاومن دموعهن، أما الرجال والصبيان، فكانوا صامتين· بعد ذلك بفترة قصيرة، تم فصلي عن عائلتي على يد الخمير الحمر الذين أخذوني، وبعد سنة في مخيمات العبيد، نجوت خلالها من عقوبتين بالقتل، تمكنتُ من الفرار إلى تايلاند، وبعد بضعة أشهر في أحد السجون التايلاندية، وفي معبد بوذي، وصلتُ أخيرا إلى ''ولينجفورد'' بولاية ''كُنيكتيكيت'' وفي جيبي دولارين، ثم علمت لاحقا أنني الشخص الوحيد الذي نجا من بين أفراد عائلتي الصغيرة، وأن الخمير الحمر قتلوا الجميع· إن كامبوديا اليوم لا تختلف عن كمبوديا التي عرفتها في شبابي، فهناك فقر مدقع وثروات طائلة جنبا إلى جنب، كما أن هناك اضطرابا تحت السطح، وهو الاضطراب الذي ساعد على حدوث فظاعات القرن الماضي، وفي ظل هذا الوضع، لا يسعني إلا أن أصلي، وأنا أتجول من مكان مليء بالذكريات إلى آخر، من أجل سنة جديدة يتوصل فيها قادة كمبوديا إلى وسيلة لتحقيق السلام والاستقرار، كما أصلي بالطبع من أجل عائلتي· سيشان سيف سفير الولايات المتحدة الأسبق في الأمم المتحدة ينشر بترتيب خاص مع خدمة نيويورك تايمز
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©