الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

السرد والهوية.. أو «أشباح» التاريخ

السرد والهوية.. أو «أشباح» التاريخ
25 فبراير 2015 21:15
قد لا يحيل هذا البوح الاستثنائي في الظاهر إلا على ما يفصل بين «حقائق» التاريخ، وبين ما يأتي من عوالم التخييل المتنوعة، لكنه يشير في واقع الأمر إلى واجهات الهوية وامتداداتها في كل المُنتج الرمزي. فما بين الرصد الموضوعي لوقائع فعلية قابلة للتصنيف المفهومي، وبين استيهامات التمثيل السردي، هناك الحياة، ما يُصنف ضمن جزئيات الوجود الإنساني التي تتطور خارج المفاهيم وفي انفصال كلي عن تحديداتها المسبقة، ذلك أن ضرورات «التبسيط الزمني» وحدها تدفعنا إلى القبول بمقايضة غنى الوجود بمفاهيم تجريدية تحل محله. إن ما يزدريه المؤرخ أو لا يثير اهتمامه هو ما يشكل مادة السرد ومضمونه الفعلي. وهو ما يعني أن «أشباح» التاريخ ليسوا سوى شخصيات عارية من كل «التفاصيل» و»الهويات الاجتماعية» المخصوصة، لقد تنازلت عن انفعالاتها لكي تسكن ذاكرة زمنية من خصائصها أنها تُبَسط وتختصر وتُجرد. والحاصل أن المؤرخ يكتفي بـ»مفهمة» الشخصيات وتحويلها إلى بؤرة لمعنى التاريخ نفسه، فتلك غاياته من الحكاية، في حين يعيد لها السرد التخييلي ما ضيعته المفهمة وغطى عليه التجريد. فعَليُّ السرد لا يشبه إلا قليلا عَلِيَّ التاريخ، إن الأول قصة في الحياة، أما الثاني فعنصر داخل معادلات من طبيعة سياسية/ دينية أو مذهبية. لذلك، لا ينصب الفصل بينهما على تقابل ستاتيكي بين ما ينتمي إلى «حقيقة» العلم، وبين ما يُصنف ضمن انفعالات خيال جامح لا تحكمه قيود أو ضوابط، بل هو في الأصل رابط لا يُرى بين «ديمومة» في الزمن، وبين ممكنات التطور داخله، أي بين التعبير عن «أنا» متفردة لا تشبه أحدا، وبين انتمائها إلى زمنية هي ما يحددها وما يُصَدِّق على مساراتها في الحياة، فعادة ما يدفعنا التساؤل عن هوية شخص ما إلى رواية أحداث قصة قد تستثير تاريخ الأمة كلها. فالاسم وبطاقة التعريف والانتماء الاجتماعي واجهات دالة على الوظيفة وحدها، أما تفاصيل الحياة فتستوعبها هوية تُبنى في تفاصيل الحكايات. وما بين هذا وذاك لا يمكن للهوية أن تتبلور استنادا فقط إلى وقائع يُصَدِّق عليها العلم أو يجيزها التاريخ، كما لا يمكن أن تكون مجرد إخبار عن وضع اجتماعي، إنها تتشكل، إضافة إلى ذلك، ضمن كل ما يمكن أن تنتجه الممارسة، مجازا وحقيقة، وتحتفظ به الذاكرة باعتباره جزءا من تاريخ عام هو ما يسميه بول ريكور «الهوية السردية». فكثير من «الكبار» في السياسة والاقتصاد لا يفصلون، في سيرهم، بين وقائع تاريخ مفتوح على الماضي والمستقبل، وبين كم زمني معدود، هو ما تستثيره حياتهم. سرديَّتان: طبيعية واصطناعية و»السردية» في هذا السياق أوسع من مجرد ترتيب زمني لوقائع مصدرها التاريخ وحده، وأشمل أيضا مما يمكن أن يصنف ضمن الرواية والقصة ومشتقاتهما. إنها ما يصالح بين كل أنشطة الذهن في المفهمة والتشخيص على حد سواء، لذلك فهي تتسع لتشمل كل منتجات السرد، ما يشير إلى سرديات «طبيعية» تلتقط اليومي والحدثي المباشر، وما يُصنف ضمن «سرديات اصطناعية» تخلق عوالم تخييلية ممكنة تتطور ضمن معطيات الواقع، وفي انفصال كلي عنه في الوقت ذاته. إنها، في جميع هذه الحالات، الوسيلة الوحيدة التي من خلالها نُصَرف الزمن ونُسْكِنه انفعالاتنا. فالروح الإنسانة مودعة في مرويات هي الشاهد على معنى زمنية الحياة ذاتها (الدازين بمفهوم هايدجر)، إن الأمم «كيانات سردية»، كما يشير إلى ذلك إدوار سعيد. استنادا إلى هذه الآلية السردية الشاملة وجب التمييز بين واجهتين للهوية: ما يسميه ريكور الهوية الإنية (identité ipseité) والهوية المماثلة (identité Mêmeté)، كيانان من طبيعتين مختلفتين، لكنهما يعودان إلى ذات واحدة: تشير الأولى عنده إلى ما يشكل تمثلًا ثابتاً وقاراً للأنا في الزمان، فالمرء هو ذاته من خلال اسمه وانتمائه منذ أن ولد إلى أن يموت، إنه جماع ما تراكم ضمن سيرورة تتم داخل الزمن، ولكنها لا تحيل على أحد آخر غيره، في حين تحيل المماثلة على مُجمل الأدوار التي قام بها المرء في حياته منذ أن كان طفلا يحبو، ثم أصبح تلميذا وأستاذا أو شرطيا أو مقاولا أو مهمشا بلا تاريخ شخصي. تقتضي الأولى ديمومة في الزمان، عادة ما يحميها ويحافظ عليها الاسم، في حين تشير الثانية إلى سيرة متطورة داخله. تشير الواجهتان في الحالتين معا، إلى الفرد من حيث هو «أنا» تحيل على كائن بيولوجي بخصائص بعينها، ولكنه يتحرك ضمن زمنية تدمر في طريقها كل شيء. إنها تغير من مظهره ووظائفه وواجهاته الاجتماعية، ولكنها تحتفظ بالثابت فيه، من حيث هو موجود من خلال هوية اسمية ثابتة لا تتحرك. بعبارة أخرى، إننا نمسك من هذا «الدوام في الزمن» بما يشكل «ثابتا» في الذات، ولكنه لا يمكن أن يكون كذلك إلا في علاقته بعناصر التحول داخلها. وهي صيغة أخرى للقول، إن الهوية لا يُدوِّن تفاصيلها تاريخ مكتوب أو مروي فقط، بل هي مجموع ما احتفظت به الذاكرة من مسرودات تُعَلِّب الزمن في ذكريات وندم وحسرة وأمل ورجاء، وهي وحدها مضمون الزمن ومن خلالها نتداوله. إنها موجودة في الخرافات والأساطير والمرويات البسيطة، وموجودة في كل نصوص السرد «العالم». فكل ما استعصى على التحديد المفهومي، أو انفلت من الضبط العلمي تستعيده الذاكرة السردية وتعيد بناءه ضمن ممكناتها في التمثيل التشخيصي، فما نعرفه حقا عن بدايات الخلق هو ما يقوله السرد، لا ما تشرح تفاصيله النظريات العلمية: إن ما يطمئن إليه الوجدان الشعبي هو وقائع الحكايات، لا ما تأتي به المعادلات الفيزيائية. التاريخ والسرد لا وجود لتناقض بين العالمين إلا في الظاهر، أما في الجوهر فهما عالم واحد، ويشكلان مصدرا مركزيا لبناء الهوية والاحتفاء بمكوناتها. فمن خلال التاريخ «نُمَفْهِم» الحياة ونمسك بمنطق التطور فيها، أما من خلال السرد التخييلي فنُعيد المفاهيم إلى أصلها الأول، سلسلة من الحالات المشخصة هي ما تلتقطه العين ويستوطن الوجدان، وتحتفي به الذاكرة الشعبية. إننا نُسرب، من خلال السرد، حقائق انفعالية إلى «عوالم ممكنة»، الذاكرة الرمزية وحدها تستطيع استيعاب مضمونها: فأين يبدأ التاريخ الفعلي للإسلام، وأين تنتهي كل الحكايات التخييلية التي تحيط بوقائعه الفعلية؟ استنادا إلى هذه «الحاجات» المضافة يمكن استيعاب حالات التراكب بين سرد يؤرخ للحظة «واقعية» لا تحتفظ من فعل الفاعل سوى بمضمونه «الخام»، وبين حكايات «مفصلة» تُبنى في الاستيهام التخييلي. هذا هو الفاصل بين «أشباح» التاريخ، وبين «الكائنات الحية» في السرد التخييلي. نَتَعقل التاريخ من خلال الأولى، ونعيد امتلاك الحياة من خلال الثانية. لا تموت الأولى بظهور الثانية، كما تصور ذلك أليكساندر دو ماس، بل تُبعث حية في تفاصيلها. لذلك قد نشكك في كل شخصيات التاريخ، وقد يقتضي منا الأمر إعادة ما كُتب عنها، ولكننا لا نستطيع أبدا النيل من شخصية أبدعها السرد التخييلي. إن «سي السيد» في الرواية هو المعادل التخييلي لكل ما يمكن أن يقوله التاريخ عن علاقات إنسانية يحكمها منطق الذكورة وحده. وهو ما يعني أن حقيقة التاريخ قابلة «للتعديل»، بالحذف والإضافة، أما حقيقة التخييل «فثابتة»، فهي موجودة باعتبار حقيقتها في الوجدان، لا استنادا إلى وقائع فعلية تُصدق عليها. لذلك عادة ما نثق في الحكايات أكثر مما تستهوينا وقائع التاريخ الصامتة، «فالتخييل يوحي إلينا بأن الرؤية التي نكونها عن العالم الواقعي قد تكون هي الأخرى ناقصة، تماما كنقصان الرؤية التي تملكها شخصيات التخييل عن العالم الذي تتحرك فيه. ولهذا السبب، عادة ما تصبح الشخصيات التخييلية الكبيرة نماذج للشرط الإنساني «الواقعي» (أومبيرتو إيكو). سيكون العالم موحشاً وفقيراً حقاً، إذا نحن خلصناه من كل الشخصيات التي أبدعها التخييل.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©