الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

هذا أنا!

هذا أنا!
25 فبراير 2015 21:20
أغمض عينيك كي ترى الصورة بوضوح أكثر.. هل رأيتها؟ إن لم تكن تراها فهي تراك! الأمر أشبه بعقد النية على سرقة صورة لا تعرف بعد ما هي، أو ما ملامحها، ولكنك تحدسها، تحس بها، وهي تتقفى أثر لغتك باحثة لك عنها... وما بين التنبؤ بالصورة وتذكرها يكمن الإبداع. ربما هي أقرب إلى الصورة الذهنية التي تنعكس على سطح المخيلة، بعد أن تلتقطها عين الذاكرة، يتوقف بها الزمن المتحرك لحظة يقفز قلبك من عينيك، ويشهق الهواء رئتيك دفعة واحدة، ثم يحبس أنفاسه في إغماضتك، مستسلماً لنيتك بالاختطاف! دهشة الطاقة في ممارسة الصورة تظل فاعلة لمدة أطول من فعالية اللقطة ذاتها، لها زمنها الخاص المضاد للزمن الأول بالاتجاه، والمؤثر في محصلة القوى الناجمة عن قوته... وهكذا هو البدوي هنا: إبداع الطاقة! اختراع أعمى ظلم الاستشراق البدوي أصبح كثيراً، حيث اخترع له صورة مُتصورة، وليست متأملة، قوامها الغش في ذاكرة المخيلة، لا الإبداع في تخيل الذاكرة.. إنها طاقة مزيفة، سلبية، ومغرورة! البدوي في اللقطة الاستشراقية أعمى، لأن عين الرسام كانت مكممة، غير مزودة بعصب الإحساس بالضوء، رغم استجابتها له، تعاملت مع الصورة كملقط أصم، وهذا وحده ليس كافياً في فن التصوير! تحتاج إلى أكثر من عينيك كي تلقي القبض على الدهشة قبل اللحظة، ثم على عناصر صيرورة الصورة بعد التقاطها، فالعملية بحد ذاتها عملية خلق أو إعادة خلق.. جاءوا من أقاصي البلاد، من وراء البحور، من غرب الجهات، جاءوا من اقطاعياتهم التي ترتعش برداً، تساقطوا فوق أرضنا كرجم الغيم الأسود، ليخطفوا منا كرة الضوء، وحرير الرمال، وسوار الشمس، جاءوا ليلتقطوا لنا صوراً تذكارية استعاروها من ألبوم ألف ليلة وليلة بنصه الفرنسي المترجم عام 1704، ليعلقوها على جدران المتاحف، ويتسلوا بالتاريخ في لعبة الخدع البصرية. خدعتهم شهرزاد، تحايلت على فضولهم، فحضرت أحجبة قصصية، لم يحسنوا فك رموزها، ولم يعرفوا أنها شعوذات حكائية تراوغ الغموض كي تسر به لا تفصح عنه! إننا عالمهم الافتراضي الذي خانهم يقينهم به فظنوا أنهم اقتحموه، حتى هيئ لهم الشرق شرقاً فاستشرقوه، كما حلل إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق، حين اعتبر أن الشرق ابتكار غربي، يعني هو بدعة استعمارية، كان هدفها الدخول إلى ملكوت سحري غريب يبدد ملل المستشرق من عالمه الرتيب، ملكوت أسطوري، أشبه ببلاد العجائب، ظل عصياً على الاقتحام، ومحرماً على اليقين! أجندة الغموض والفراغ لا شك أن النزعة الرومانسية التي تنامت في القرن التاسع عشر كان لها أكبر الأثر في تحفيز هذا النزوع نحو الابتداع لا الإبداع، فجان جيروم في لوحته «التواطؤ» مثلا، 1875 أو لوحة الدراويش 1899 أو صورة الحمام، أو لوحة امرأة من الشرق وابنتها لنرسيس دياز 1865 أو الأمة البيضاء للوكونت دونوي 1888، كلها لقطات عربيدة تشوبها الفخامة الفجة الفارغة والشبق المحموم نحو اكتشاف ملغوم لأرض بكر، مدفوع بشغف إيكزوتيكي رومانسي للمجهول، وهو ما يعبر عنه بجدارة الطموح الاستعماري، فهل أظلم دينييه الذي افتتن بعالم اختار أن ينتمي إليه بشغفه به، حين أَعْتَبِر أن صوفيته بالتعاطي مع افتتانه ظلمت لوحته حالمة كانت أو قاسية، لأنه اغترب عن المشهد بقدر اقترابه منه، فظل أسيراً لرؤيته لا لما يراه؟ المرئي بالنسبة إليه كان عاملاً مساعداً على إتمام نواقص الرؤية، وهي عند جيروم خبيثة، عنفية حتى في أقدس اللحظات الروحانية وأسماها، وبين البؤس والبذخ منطقة وسطى هي تعمد الغموض، لتكميم المشهد، بما يكثف غوائيته، حتى في أكثر اللقطات عرياً أو فحشاً، لأن في هذا استدراج استكشافي، هو الوجه المقنع للإغراء الاستعماري! نساء جزائريات لديلاكروا.. العمائم الباذخة عند دراويش جيروم، كلها توحي بشرق فارغ بلا مضمون، شرق للتسلية والرقص والجنس والحريم والإماء والعبيد والوحوش والكروش والتراخي والعبث والعنف والبؤس والبدو القبيحي الهيئة، والخطر الذي تجده حتى في دور العبادة ورحلات الحج مدججاً بالسلاح! صور عمياء لم تر بقدر ما تراءى إليها، تعلقت بأسطورية الشرق لم تنصف واقعيته، لم تحترم فلسفة الفوتوغرافيا السردية، بقدر ما تعاملت مع الفوتوغرافيا كأجندة استعمارية، فإن أخذنا بعين الاعتبار ما قالته المصورة الفوتوغرافية دانييل هارك أن الصورة لغة للتعبير عن الوعي واللاوعي، نفهم أكثر تقنية الإدراك بالتقاط ما لم يتم إدراكه في الفن الاستشراقي، خاصة وأنها اعتبرت التصوير للعالم الخارجي انعكاساً للضوء المنبعث من العالم الداخلي للفنان، فإن كانت صورة الشرق داكنة إلى هذا الحد في كل ما سلف، فهذا يعني أن مقدار الضوء على حدقة اللوحة كان معتماً! تماهيات هذا البدوي في الصورة، أنا! شموخ تصعد على أدراجه أنفة الخيل وكبرياء الفرس... حنو يتصبب من عنفوان، نعومة صلبة فيها من الامتشاق ما يرقرق العذوبة على حد السيوف... ويتلو صلاة الفروسية في محراب القصيدة.. هذا البدوي في الصورة، أنا! يحتضن محيا العاديات بعمامة النخيل، يربت على كتف اللجام بربابة الخيام، ويرتدي لثام القمر في حقل النجوم، يكحل عين السماء برمش الصحراء... ويوقظ التاريخ من غيبوبة الأزمنة، فيذب الأبالسة عن مخدع الآلهة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©