الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بنت العز

بنت العز
15 يونيو 2009 00:52
أمضي أيامي وأنا وحيدة في غرفة منعزلة، أنتظر أن يتعطف عليّ أحد أولادي أو بناتي فيزورني ولو لدقائق، حتى لو اتصل بي أحدهم فإنني سأكون في غاية السعادة. قلبي يتقطع شوقاً إليهم، ولكنهم لن يفعلوا، أنا متأكدة من ذلك.. أنا أعذرهم، فهم ليسوا أبناءً جاحدين، ولكني أنا من أخطأت في حقهم، أنا أستحق كل ما يحدث لي، كل ما أتمناه من ربي أن يسامحني وأن يتواصل أولادي معي ويتناسوا ما فعلته بنفسي وبهم. كنت أعيش عيشة الأميرات، ولكني لم أقدر النعمة التي أسبغها الله عليّ، ركضت وراء السراب، فضيعت نفسي، لا ألوم أحداً سوى نفسي، لماذا كنت ضعيفة وهشة بذلك الشكل؟ لماذا لم استخدم عقلي وأفكر قليلاً في أولادي؟ هدمت حياتي.. ضيعت أسرتي.. بعت كل شيء واشتريته.. ولكنه خذلني.. حطمني.. سرق كل شيء وألقى بي إلى الشارع، هل ألومه؟ أم ألوم نفسي؟ لا أدري. كان عليّ أن أفكر ألف ألف مرة قبل أن أركض وراء مشاعري، والله لا شيء يجلب المصائب سوى الركض الأعمى وراء المشاعر، خصوصاً في هذا الزمن، حيث الزيف والخداع اللذان يغلفان قلوب الناس ونفوسهم، يفعل الإنسان أي شيء من أجل المال، يكذب.. يغش.. يخادع.. يزيف، كل ذلك من أجل المال، لا هدف آخر سواه، ولا يملأ العيون إلا الثروة، فكل واحد منهم يرسم ألف خطة وخطة لأجل حفنة من المال، لم يعد هناك حب، ولا توجد مشاعر صادقة عند الكثيرين، لا يوجد سوى الخداع والكذب والزيف. يا إلهي!! ماذا فعلت بنفسي؟! كيف سأمضي بقية سنين عمري وأنا في هذه العزلة؟ متى سيسامحوني؟ متى سأستعيد حياتي؟ متى سيسامحني أهلي وأولادي؟ متى سينسى الناس ما فعلته ولا يتحدثون بحكايتي؟ إنه وضع صعب لا أحسد عليه، ولا أستطيع التعايش معه لفترة طويلة، أتمنى أن يفرج ربي عني هذا الكرب وأن يسخر عباده لي بأي شكل من الأشكال. حكايتي نشأت في أحضان العز –كما يقولون– فعائلتي ثرية جداً، لم أكن أعرف ما يدور خارج أسوار قصرنا، كنت متصورة أن العالم كله سعيد مرفه، لا أحد يشعر بالقهر، ولا أحد يشتكي أو يتألم، وأن المعاناة الإنسانية هي فقط ما يعرض في التلفاز خارج هذه البقعة من الأرض. لم يختلف الوضع بعد أن انتقلت إلى بيت الزوجية، كنت في السادسة عشرة من عمري عندما تزوجت، وكان زوجي رجلاً غنياً لا يقل ثراءً عن والدي، فعشت بالمستوى نفسه، وربما أفضل بعض الشيء، حيث بدأت مع مرور السنين، وتعدد الأطفال الذين أنجبتهم، بدأت أحصل على مساحة أكبر من الحرية التي كنت أفتقدها عند أسرتي، فلم يكن مسموحاً لنا الخروج للتسوق أو التنزه، كنا فقط نذهب للمناسبات العائلية كالأعراس أو غيرها، حتى إني لا أعرف شكل الشوارع، حيث نخرج في سيارات تغطي شبابيكها باللون الأسود القاتم، فلا يمكنني مشاهدة الأشياء على حقيقتها، أما بعد الزواج، فقد تغير الأمر، حيث صرت أخرج للتسوق أو لأداء الواجبات والمجاملات العائلية في المناسبات المختلفة، كانت علاقتي بزوجي تقليدية بمفهوم العائلات الثرية، حيث إنه من المألوف غياب الزوج وانشغاله بالعمل بشكل مستمر وسفره المتكرر، فلا وقت للمجاملات الزوجية أو لمراعاة المشاعر وإنما تكون العلاقة الزوجية رسمية جداً والهدف منها إنجاب الأولاد فقط، لم يكن ذلك مهماً بالنسبة لي، فقد تعودت على تلك الصورة من والدتي وجميع نساء أسرتي، ولم أشك أي شعور بالحرمان العاطفي؛ لأنني لم أحس بوجود العواطف إطلاقاً، ولم أعرف عنها سوى ما هو موجود على الشاشة ولدى الممثلين فقط. سارت الأمور بشكلها العادي حتى كبر الأولاد وتزوج بعضهم وكنت أشرف على شراء احتياجات العرس وغيرها باستخدام سيارة المنزل مع وجود السائق الآسيوي الذي تعودت على وجوده منذ أن دخلت بيت زوجي، فهو يعمل لديهم منذ سنين، وكان يحدثني بأنه يفكر بالتقاعد والاستراحة بعد أن كبر في السن. مفاجأة غير متوقعة ركبت السيارة كعادتي بدون أن التفت للسائق وما أن أخذت مقعدي حتى فوجئت بوجود سائق آخر، كان شاباً عربياً غاية في الوسامة والجمال، حتى إنني عندما نظرت إلى وجهه تذكرت قصة سيدنا يوسف عليه السلام وما كان يملكه من جمال أخاذ جعل نسوة المدينة يقطعن أيديهن بمجرد النظر إليه، كان هذا الشاب باهر الجمال والطلعة، مما جعلني أتعوذ بالله من الشيطان الرجيم وأحاول جاهدة أن أغض بصري عنه، وكيف أغض بصري وأنا معه في هذا الصندوق الصغير لفترات طويلة، أسمع نبضات قلبه وأحس بأنفاسه مع الأغاني التي كان يختارها بعناية، فكلما صعدت إلى السيارة وضع شريطاً جديداً وأغاني مثيرة، ربما سمعتها سابقاً ولم تكن مثيرة أبداً ولكني بدأت أحس بأن كل شيء من حولي أصبح أكثر إثارة وجاذبية، شيئاً فشيئاً صار يتحدث معي في أمور مختلفة وبدأ بالتحدث عن نفسه وكيف دفعته الحاجة والإحساس بمسؤولية أشقائه الأيتام بعد وفاة والده للقبول بعمل السائق مع أنه يمتلك شهادة عالية، ولكن ظروف بلده والرواتب القليلة التي يدفعونها لا تكفي لإعالة تلك العائلة الضخمة، تأثرت لحكايته وحاولت أن أمد له يد المساعدة ببعض المال، لكنه رفض بإصرار مما زاد في إعجابي بشخصيته. بعدها ازدادت الأحاديث والمناقشات المختلفة بيننا، ولأول مرة في حياتي يحدث أن أجد من أناقشه وأتحدث له بصراحة عما في نفسي، وأطرح أمامه أفكاري وآرائي فيستمع إليها بشغف وتقدير، ولأول مرة أطل من خلاله على حياة أخرى يعيشها الناس في أماكن مختلفة من العالم، وشيئاً فشيئاً صرت أتنفس أفكاره وآراءه وأصبحت كلماته تتردد في ذهني، وصوته العذب الشغاف يملأ رأسي، وعطره الأخاذ يلهب مشاعري، أحسست بأنني امرأة مختلفة وأن شيئاً بداخلي بدأ بالتغيير! لقد امتلأ كياني كله بشيء جديد لم يكن مألوفاً لدي من قبل، ولم أحس به طوال حياتي الماضية، هذا الرجل جعل لوجودي طعماً آخر، ولمشاعري دفقاً جديداً لم اعتد عليه من قبل. صداقة جديدة تطورت الأمور بيننا، وأصبحنا أصدقاء نتحدث طوال الوقت عبر الهاتف ونلتقي في رحلات طويلة في السيارة، وطبعاً لم يلحظ من في المنزل هذا التغيير، فالكل مشغول بنفسه ولا أحد يدري عن غيره، ثم تحولت الصداقة إلى حالة من الحب والهيام، نسيت نفسي خلالها ولم أفكر بفارق العمر الكبير بيننا، ولا بأي اعتبارات أخرى، وقبل أن أصل للخطيئة وأتذوق طعم الفاكهة المحرمة سألته: هل أنت مستعد للارتباط بي وأخذي معك إلى بلدك أن تحررت من قيودي؟ أجاب بخوف: ولكني لا أستطيع أن أنفق عليك، فأنا في وضع مادي بسيط جداً، قلت بحماس: سأخذ ثروتي كلها.. وسنبدأ حياتنا من جديد، انفرجت أساريره، وقال: أحبك بقوة يا أروع امرأة في العالم.. وأتمنى أن تكوني لي وحدي، كانت كلماته تهزني.. تسحرني.. تجعلني أنطلق إلى عوالم بعيدة وكأنني في حلم لذيذ لا أريد أن أصحو منه أبداً. المواجهة الصعبة واجهت زوجي بقراري، وكذلك أهلي، ولم أهزم ولم أتقهقر أو أتراجع أمام ما فعلوه، وقاموا به، فقد استخدموا كل وسائلهم وحيلهم للتأثير عليّ، ولكني بقيت صامدة للنهاية، حتى أذعن الجميع لهذا الإصرار، فلم يكونوا يعرفوا بعلاقتي بهذا الشاب، ولم يخطر على بالهم، وقالوا: ربما جنت هذه المرأة! وأصابها مس! بصعوبة حصلت على الطلاق وبعت ما أملك من عقارات، وتسلمت إرثي كله، وحملت أموالي وسافرت معه أي بلده، وتزوجته وعشت معه أروع وأجمل أيام حياتي، حيث أستأجر لي شقه مفروشة وكنت كلما ألححت عليه، لمقابلة أهله، تهرب بشتى الأعذار، بعد مرور أشهر العسل الثلاثة الرائعة، بدأ بإقناعي بضرورة استثمار أموالي من أجل تنميتها والمحافظة عليها، فسلمته أموالي كلها وليتني لم أفعل. بداية النهاية صار يخرج صباحاً ولا يعود إلا بعد منتصف الليل، بحجة أنه يقوم بأعمال استثمارية كبيرة، بدأ الملل والوحدة يتسربان إلى حياتي وأصبحت عصبية كئيبة بعد أن تبخرت الأحاسيس والمشاعر. وتسرب الجليد إلى علاقتنا فصارت كريهة وبدأ بتغيير أسلوبه معي، فأصبح يعاملني معاملة سيئة جداً، وبعد أن ألححت عليه بزيارة أهله صرخ في وجهي قائلاً: هل تريدينني أن أقول لهم إنني قد تزوجت امرأة أكبر من والدتي! دارت الدنيا بي وعرفت ما جنيته على نفسي، عرفت يومها بأنني خدعت، وأنني امرأة تعيسة وأن كل ما عشته كان مجرد وهم وخيال غير حقيقيين، كان دافعه الوحيد هو الحصول على هذه الأموال، استطاع هذا الخبيث خداع امرأة غبية مثلي، مستغلاً نقاط ضعفها بمهارة وذكاء، ولم يأبه بالقضاء على حياتها، وتدميرها بشكل كامل، كيف ألومه وأنا السبب؟ حاولت أن أطالبه باسترجاع أموالي، شتمني وضربني وطردني من الشقة، ذهبت إلى سفارة دولتي فاتصلوا بأهلي فجاء أخي ليأخذني خوفاً على سمعة العائلة. نهاية تعيسة وضعني أخي في غرفة خارجية كانت مخصصة للخدم في منزلنا، ومنذ ذلك الوقت وأنا أعيش منبوذة في هذه الغرفة الحقيرة، فلا أحد يزورني أو يسأل عني أو يرغب بمشاهدتي أو التحدث إليّ، آكل طعامي وحيدة وكأنني حيوان أجرب لا يريد أحد الاقتراب منه. اتجهت إلى ربي فهو الغفور الرحيم فصرت أقضي وقتي في العبادة والتضرع إليه ليرقق قلوب أبنائي فيغفروا لي ويسامحوني.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©