السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

القراءة والكتب و«حمير المثقفين»

القراءة والكتب و«حمير المثقفين»
17 يونيو 2009 02:32
كثيراً ما أطلق تنهيدة حزن مشفعة بدعوة «بالرحمة» للشاعر الحكيم أبالطيب المتنبي، وذلك حين تنفتح سيرة القراءة أو الكتاب، أو حين يطرق سمعي الحديث عن «المفاخر والبطولات والعنتريات إياها»، وأتساءل: لو رأى المتنبي ما نحن فيه من «جهل قرائي» وعزوف عن الكتاب، وقرأ ما نقرأ من أرقام وإحصائيات تذل أكثر الأعناق علواً وارتفاعاً، هل كان سينظم بيته الشهير عن الكتاب ويسميه «خير جليس»؟ وفي حال شاهد ما نحن فيه من «عجز حضاري» واستنكاف عن امتطاء «وسائل الاتصالات» وهي اليوم محل «السروج السابحات» في زمانه... هل كانت تفتقت قريحته العظيمة عن ذلك البيت الشهير: أعزُّ مكانٍ في الدُّنى سرجُ سابحٍ وخيرُ جليسٍ في الزمان كتابُ خصوصاً، وأننا ما زلنا نحفظ هذا البيت، ونردده باستمرار لاستلهام ما في عجزه من الحكمة، متغافلين عن تلك التي يكتنزها صدره؟!. القراءة والقراء بالطبع، يمكن فهم أهمية أو مدلولات هذا التوسل بالشاعر وبيته الشعري في ظل إعلاننا الفاضح للقطيعة الشاملة مع القراءة، وفقداننا تلك العلاقة الحميمة التي بناها أجدادنا مع الكتاب بعد أن منحناه بالكامل للنسيان، وتركناه قابعاً في الإهمال يعلوه الغبار، ويتحسر على أمجاده الماضيات، في حين تخبرنا كتب التراث أن الكتاب والقراءة أُنزلا منزلة رفيعة لدى الأجداد. ومما ورد في حب القدامى والسلف للقراءة وحرصهم عليها: أن الجاحظ كان يكتري الدكاكين من الوراقين ويبيت فيها للنظر في الكتب فيبيت فيها في الليل حيث لا يكون أصحابها فيها. وكانت الكتب آخر عهده بالحياة، إذ توفي عندما انهارت إحدى هذه المكتبات عليه، فمات. أما الإمام أبو داود السجستاني صاحب «السنن» فكان حين يفصل ثيابه يجعل كماً واسعاً وكماً ضيقاً، فقيل له في ذلك، فقال: الكم الواسع للكتب، والضيق لا حاجة له. ومن ذلك، ما يحكيه عبدالرحمن بن أبي زرعة عن والده الإمام أبو زرعة فيقول: «ربما كان يأكل وأقرأ عليه، ويمشي وأقرأ عليه، ويدخل الخلاء في الطريق وأقرأ عليه، ويدخل البيت في طلب شيء وأقرأ عليه». لهذا الحديث ما يبرره ليس فقط في موروثنا وتراثنا الخاص بالكتاب وتقديره لدى السلف، بل بالقياس إلى ما تكنُّه الشعوب والثقافات الأخرى من حولنا للكتاب، وما تبديه من حرص على القراءة والمعرفة والثقافة، والنموذج هنا هو «روجيه» الفرنسي الذي قرر أن يفعل ما فعله «ابن أبي زرعة» منذ ثلاثة عشر قرناً، وأن يتحول «قارئاً» لا يقرأ لوالده فقط، بل يقرأ للناس في حواري وقرى ومدن هذه الكرة الأرضية. ولعلي لا أبالغ حين أقول إن ما يخصصه الإنسان العربي من وقته للقراءة، وما ينفقه من ماله على الكتاب أقل القليل عند الأقلية، ويكاد يكون معدوماً عند الغالبية العظمى من سكان هذا الوطن «البائس ثقافياً» الذي يسمى الوطن العربي، هذا الوطن الممتد من الماء إلى الماء لكنه عطشان حتى النخاع إلى ماء المعرفة أو نبعها العذب. المؤنسات الغاليات أما عن الكتاب فحدث ولا حرج، وما ورد فيه في تراثنا لا تسعه كتب ولا مقالات لاسيما وهنّ المؤنسات الغاليات، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: قيل لأعرابي: ما يؤنسك؟ فضرب على كتبه وقال: هذه. وقالوا له: فمن الناس، قال: الذين فيها. وجاء في الموروث أن أحمد بن محمد بن سجار، بعث غلامه إلى أبي عبدالله الأعرابي صاحب «الغريب» يسأله المجيء إليه، فقال: عنده قوم من الأعراب فإذا قضى أربه معهم أتى، ولم ير الغلام عنده أحداً إلا أن بين يديه كتباً ينظر فيها ثم جاء، فقال له أبو أيوب: سبحان الله العظيم تخلفت عنا وحرمتنا الأنس بك، وقد قال لي الغلام: إنه ما رأى عندك أحداً، وقلت أنت: معك قوم من الأعراب فإذا قضيت أربي معهم أتيت فقال له الأعرابي: لنا جلساء ما نمل حديثهم ألـبّاء مأمومون غيباً ومشهدا يفيدوننا من علمهم علم ما مضى وعقلاً وتأديباً ورأياً مسددا فلا فتنة تخشى ولا سوء عشرة ولا نتقي منهم لساناً ولا يدا فإن قلت أموات فما أنت كاذب وإن قلت أحياء فلست مفندا ونقل عن الإمام بن شهاب الزهري رحمه الله أنه كان يجلس في مكتبته ويقرأ وقتاً طويلاً حتى إن زوجته قالت: والله لهذه (وتعني الكتب) أشدُّ علي من ثلاث ضرائر. ويقول عنه الجاحظ: نِعم الجليس والعدة، ونِعم الأنيس لساعة الوحدة، ونعم المعرفة ببلاد الغربة، ينطق عن الموتى ويترجم عن الأحياء. أكتَمُ للسرِّ من صاحب السرّ، وأحفظ للوديعة من أرباب الوديعة، والكتاب هو الذي يطيعك بالليل كطاعته بالنهار، ويطيعك في السفر كطاعته في الحضر، ولا يعتلُّ بنوم ولا يعتريه كلال السفر. حمير وبغال وكتب هذا عن الكتاب وقراءته، أما عن «الحمير والبغال والجمال وعلاقتها بالثقافة والمثقفين» فلها نصيب لا بأس به من حكايات التراث القديم والمعاصر، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، أن البخاري وهو يجمع حديث النبي «صلى الله عليه وسلم» كان يتجول بين بلدان الأرض على حمار، يحمل فوقه الرقاع التي منها سيؤلف أهم كتاب بعد القرآن الكريم لدى المسلمين. وكان للحمار مع توفيق الحكيم مواقف كثيرة، وله كتابان يدخل الحمار في عنوانيهما وهما: «أنا و حماري» و»حماري قال لي»، وكان للمثقفين العرب «جمعية حمير» تضم عدداً بارزاً من المثقفين العرب من بينهم توفيق الحكيم نفسه!. وعرف عن العقاد أيضاً أنه كان يقدر الحمير ويدافع عنها، وكتب عنها قصة قصيرة وأكثر من مقال، في محاولة منه تبرئتها من تهمتي العناد والبلادة. وتذكر الكتب والموسوعات أن الحمار استخدم قبل أكثر من خمسة آلاف عام، من قبل قدماء مصريين والآشوريين بعد أن اكتشفوا صبره وقوة تحمله. وإذا أسعفتني الذاكرة، فإن كتب (ابن عقدة) كانت تعدل حمل ستمائة جمل. وكان يشقى في الانتقال بها عبر البوادي والقفار، لأنه لم يكن يملك وسيلة غيرها لاستخدامها في حمل الكتب لكن «ابن عقدة الفرنسي» لم يستخدم وسائل النقل السريعة المتاحة له، وفضل أن يستخدم الحمار رغم أن كتبه لا تحتاج إلى (حمير ولا جمال) لتحملها لأن قرصاً صلباً واحداً يمكنه أن يحمل ما تحمله (عشرة حمير) ويضعه في جيب سترته من غير عناء!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©