الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عندما هطلت أمطار الخير غدت الشوارع برك سباحة

عندما هطلت أمطار الخير غدت الشوارع برك سباحة
17 يونيو 2009 02:34
الكاتب مع عناصر من شرطة أبوظبي في بداية السبعينات من المؤكد أن جميع الذين وصلوا إلى أبوظبي بعد تسلم المغفور له بإذنه تعالى الشيخ زايد لمقاليد الحكم في البلاد عام 1967 كانوا يدركون جيدا أن الأيام الأولى ستكون صعبة لأنها حقيقة أيام بدايات. لم يكن هناك شيء يوحي أنك تسكن في مدينة ستكون فيما بعد عاصمة لدولة عربية كبيرة قوية وغنية، كان جميع القادمين للعمل في تلك الإمارة التي بدأ اسمها يسطع وأخبارها تنتشر يكتبون الرسائل لأهلهم في البلاد العربية ليتحدثوا عن حرارة الجو وغياب الحياة المدنية التي اعتادوا عليها. حتى الوصول إلى الإمارة كان يشكل مشكلة، فلا خطوط منتظمة ولا مطار يقدر أن يستقبل طائرات الركاب العادية وأما الطريق البرية فكانت قاصرة على سيارات الدفع الرباعي والشاحنات الضخمة التي كثيرا ما عانت من التغريز في رمال الصحراء بين السعودية وأبوظبي. بيت الضيافة وصلت في البداية مجموعة من المدرسين، أعرف منهم الأخ ناصر الجعبري الذي وصل في نهاية عام 1966، لأن الشيخ زايد كان يولي العملية التعليمية الأولوية المطلقة، طبعا الأخ ناصر فيما بعد غير العمل وتولى مسؤولية مدير مكتب معالي الدكتور مانع العتيبة وزير البترول والصناعة. كان القادمون للعمل يقيمون في بداية الأمر في بيت للضيافة وكان هذا البيت مشهورا لدى الرواد الأوائل، ولهم ذكريات لا تنسى، ثم بعد ذلك يحولون إلى بيوت وشقق وفلل تتسلمها دائرة الإسكان وتوزعها عليهم حسب علو الرتبة الوظيفية. وأمام حاجة الخطة الخمسية الأولى التي أقرها مجلس التخطيط في أبوظبي عام 1969 إلى عاملين كانوا نواة النهضة السكانية في الإمارة، فقد بدأت حركة بناء نشطة، وعبدت الطرق وظهرت الشوارع لتختفي رويدا رويدا الطرق الرملية التي كانت بمثابة مصايد لسياراتنا لو انحرفنا قليلا إلى اليمين أو اليسار وتركنا المساحة المرصوصة جيدا في تلك الشوارع الرملية داخل مشروع مدينة أبوظبي. الشتاء الأول ولكن حتى مجلس التخطيط في البداية وقع في أخطاء ناجمة عن التقدير أو التصور للحالة الجوية في البلاد. فالأمطار كانت نادرة ولذلك عبدت الشوارع في البداية دون التفكير بوضع قنوات لتصريف مياه الأمطار، وكان بعض المسؤولين يقولون إن الأمطار قليلة وحتى لو نزلت فهي لا تدوم إلا ساعة أو ساعتين ويمكن لحرارة الجو بعد ذلك أن تجففها، وحتى إذا لم تجف فيمكن شفطها من الشوارع بسيارات (التانكرز) بتكلفة بسيطة. ولكن مع تطور الحركة العمرانية وزيادة أطوال الشوارع في المدينة وتركيب الأرصفة لها، عشت الشتاء الأول في أبوظبي عام 1971 لأشهد تجمع المياه في الشوارع التي غدت بمثابة برك سباحة بسبب تهاطل أمطار الخير وبشكل مثير للانتباه مما جعل سيارات الشفط تبدو شبه عاجزة عن تفريغ المياه من الشوارع. ولم يتردد الشيخ زايد في اتخاذ قراره الجريء بعلاج هذا الخطأ وحفر الشوارع وتمديد أنابيب الصرف وتخليص شوارعنا من تجمع مياه الأمطار فيها. كان الأمر بالنسبة لنا يبدو غير مريح، حيث تحولت الشوارع مرة أخرى إلى ورش عمل اقتضى منا أن نتحول إلى طرق جانبية ترش بالماء حتى لا تثير الغبار، ولكن بعد فترة كنا نشعر بالارتياح وقد اكتمل العمل وتم العلاج. توسيع الطرق حتى عندما اكتشف الشيخ زايد فيما بعد أن الشوارع غير عريضة بما فيه الكفاية مع التطور السكاني وزيادة عدد السيارات المستخدمة لتلك الشوارع لم يتردد في العلاج والأمر بتوسيع شبكة الطرق وإقامة الجسور والأنفاق لتسهيل عملية المرور، حتى إننا كنا نعلق على ما يتم بالقول: إن مدينة أبوظبي كلها ليست إلا ورشة عمل لا يتوقف فيها العمل ليل نهار. الأمر الذي مازلت أذكره جيدا هو عدم وجود الإشارات الضوئية في الشوارع، وكان يتم التعويض عن ذلك بالدوارات فالأسبقية لمن هو في الدوار، وظل الأمر يسير بهذا القانون مدة طويلة، ولكن بعد ازدحام السير وعدم قدرة نظام الدوار على تسهيل المرور بدأت الإشارات الضوئية توضع وتم الاستغناء حتى عن بعض الدوارات وتحويلها إلى تقاطعات تستخدم الإشارات الضوئية، وحتى الآن مازالت بعض الدوارات في المدينة تعتمد على نظامها الخاص ولا تستخدم الإشارات الضوئية. كانت الحوادث نادرة وكانت الحكمة التي يرددها جميع السائقين في ذلك الوقت: القيادة ذوق وأخلاق. حتى المخالفات كانت نادرة، ولم يدخل نظام الرادار الذي يراقب السرعة إلى شوارعنا إلا بعد سنوات عديدة، وما كان يثير اهتمامي في رجال المرور هو ذلك الوعي الذي يتحلون به بحيث يجعل من الشرطي معلما أو مرشدا اجتماعيا. أذكر من الكلمات الجميلة التي كانوا يقولونها لمن يضبط وهو يقود سيارته بسرعة: «يا أخي حرام عليك، أهلك بانتظارك، أولادك بحاجة إليك، وحتى تعود سالما إليهم خفف من سرعتك، في العجلة الندامة وفي التأني السلامة». امتحان السياقة وأسجل هنا بكل فخر وصدق أن النزاهة التي كان عليها رجال المرور وصارت فيما بعد تقليدا متوارثا كانت مشهودة ورائعة، فرجل المرور في الإمارات لا يمكن أن يقبل البقشيش (الرشوة المبطنة) والويل لمن تسول له نفسه تقديم أي هدية لرجل المرور ولذلك حتى المخالفات لم تكن تدفع لرجل المرور مباشرة بل يطلب من السائق دفعها في محكمة خاصة بالمخالفات. ومن خلال التجارب العديدة التي مررت بها وعشتها في هذا المجال كان رجل المرور يحلل الحادثة بشكل علمي موضوعي ويحدد المسؤول عن الحادث بكل نزاهة ودون النظر أو الاعتبار لشخصية مرتكب الحادث أو جنسيته، باختصار كان رجل المرور ومازال نزيها وعادلا وعلى خلق. ولعل هذه النزاهة هي التي جعلت من لجنة فحص المتقدمين للحصول على رخصة القيادة بمثابة صمام الأمان فلا يجتاز الامتحان بنجاح إلابعد أن تتأكد اللجنة أنه لا خطر على الإطلاق من قيادته للسيارة سواء لنفسه أو للآخرين. ولم يكن غريبا على من يجتاز هذا الامتحان بنجاح أن يحتفل مع عائلته وأصدقائه وكأنه حاصل على شهادة الدكتوراة. أذكر أن أحد الأصدقاء ظل يتقدم إلى امتحان القيادة لمدة زادت على سبع سنوات، وكان دائما يرسب بسبب خطأ ما، ولكنه لم ييأس وعندما بلغوه أخيرا بنجاحه في امتحان القيادة بكى من الفرح بل وبكينا جميعا معه وأقمنا له احتفالا مشهودا، تمرالأيام ولا ينسى ذلك الصديق ولا ذلك الحدث ولا ذلك الاحتفال. اليوم عندما أرى آلاف السيارات تزدحم في شوارع مدينة أبوظبي، أعود إلى ذلك الزمن الجميل وأتذكر حتى أعضاء لجنة الامتحان الذين كانوا يقررون من يصلح ومن لا يصلح دون النظر إلا إلى السلامة والأمان، وما زال اسم أبو عرب يرن في ذاكرتي ولا أدري أين هو الآن، أو إن كان لا يزال على قيد الحياة ولكن ذلك الزمن الجميل، لا ولن يموت.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©