الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بين الاِنْزياح والعُدول

بين الاِنْزياح والعُدول
17 يونيو 2009 02:38
ليس الانزياح، وهو المفهوم السِّيمَائيّ الذي ظهر مع ظهور السِّيمَائيّات الغربيّة، شأناً جديداً في تحليل النص الأدبيّ، ولا ابتكاراً لم يكن له جذورٌ في التراث البلاغيّ العربيّ، بل كان البلاغيّون العرب ربما اصطنعوه في تفكيرهم البلاغيّ تحت مفهوم «العدول»، وهو المصطلح الذي روّجه ابن الأثير في كتابه «المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر». وكان البلاغيّون العرب ربما اصطنعوا هذا الإجراء في فهم النص أو تفهيمه حين يلاحظون خروج الكلام عن النظام الأسلوبيّ الرتيب، أي حين يلاحظون أنّ المتكلّم انتهك حرمة نظام الكلام المألوف بين الناس كاستعمال اسم الفعل مكان اسم المفعول، أو تقديم المفعول على فعله وفاعله، أو الاستغناء بالمصدر عن فِعله، وهلمّ جرّاً... ولعلّ أوّلَ من سبق من المفكّرين اللغويّين العرب إلى تصنيف الكلام إلى فاسد، ومحال، ومستقيم، ونحو ذلك، أن يكون سيبويه في «الكتاب»، حين قرّر أنّ من الكلام ما هو «مستقيم حسن، ومحال، ومستقيم كذِب، ومستقيم قبيح، وما هو محال كذب. فأمّا المستقيم الحسَن فقولك: أتيتُ أمسِ، وسآتيك غداً. وأمّا المحال، فأن تنقض أوّل كلامك بآخره فتقول: أتيتُكَ غداً، وسآتيك أمس. وأمّا المستقيم الكذب فقولك: حمَلتُ الجبل وشرِبت ماء البحر، ونحوه. وأمّا المستقيم القبيح فأن تضعَ اللّفظَ في غير موضعه نحو قولك: قد، زيداً، رأيت، وكي، زيدٌ، يأتيك، وأشباه هذا. وأمّا المحال الكذب فأن تقول: «سوف أشرب ماء البحر أمسِ». والحقّ أنّ كلام سيبويه في هذا النّصّ لا يخلو، في رأينا، من بعض الاضطراب؛ وإنّا لا نسلّم بسلامة كلامه هذا إلاّ إذا استحال إلى نحويّ وسِيمَائيّ معاً، وأمّا إن امتاز إلى النحو وحدَه، فإنّ كلّ ما ذكره من الأمثلة يغتدي، من الوجهة النحويّة، سليماً، على الرغم من فساده دلاليّاً، كما ذَكر. ذلك بأنّ قوله مثلاً: «أتيتُكَ غداً، وسآتيك أمسِ»، فلا خللَ فيه من الوجهة النحويّة، لأنّ كُلاًّ من الجملتين سليمٌ. أم ألم تتركّب كلٌّ منهما من فعل وفاعل وظرف؟ أم ماذا يريد النحو بعد ذلك من وراء الإعراب، مع ما نعلم بأنّه يشرئبّ هو أيضاً إلى التعامل مع الكلام المفيد؟ ولا ريب في أنّه كان في ذهن سيبويه ماهيّة الكلام القائم على أنّه هو اللّفظ المركَّب المفيد، حيث إنّ الفائدة انعدمتْ من هذا الكلام بفساده دلاليّاً. ولكنْ ألاَ يمكن توسعةُ التسامح النحويّ، بفصل وظيفته الإعرابيّة عن الوظيفة الدلاليّة التي ليستْ من مجال اختصاصه، فيكون الكلامُ سليماً من الوجهة النحويّة الخالصة، ولو أنّه فاسدٌ من الوجهة الدّلاليّة؟ كما لا نتّفق مع سيبويه في ذهابه إلى أنّ قول القائل: «حملْتُ الجبلَ» كلامٌ مستقيم كذِب؛ ذلك بأنّ الجبل إذا حُمِل على محمِل معنى الرجل العظيم، وحمَله حاملٌ من النّاس، حيّاً أو ميتاً؛ فقد يصدُق ذلك عليه لكِبر شأنه، وجلالة مكانته؛ فيُحمَل الكلامُ حينئذ على محمِل الانزياح اللّغويّ، ويصير الكلام مستقيماً بَراءًً من الفساد
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©